سحب بساط القومية من تحت القوميين الهندوس
وسط الإغلاق العام الناجم عن جائحة كورونا -في ذروة صيف عام 2020- توجَّهَ رئيسُ الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى مدينة أيوديا -وهي مدينة صغيرة وسط الهند تحوَّلت في العقود الماضية إلى قضية سياسية- لأن من المقرَّر فيها بناء معبد جديد للإله الهندوسي راما، وبالتحديد في المكان الذي كان يوجد فيه مسجد بابري الذي دمَّره -في عام 1992- مؤيِّدو الحزب الحاكم حاليًا 2021، "حزب بهاراتيا جاناتا" (حزب الشعب الهندي).
وفقط في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2019، أعطت المحكمة العليا في نيودلهي الضوءَ الأخضر لبناء المعبد المثير للجدل، والذي كان يُمثَّل طيلة عقود من الزمن موضوع نزاع قانوني بين الطائفتين الدينيتين في الهند.
توجَّه ناريندرا مودي إلى هناك ليضع حجر الأساس لبناء معبد راما، الذي يحشد من أجله حزبُه والكثير من المنظمات القومية الهندوسية منذ أكثر من ثلاثين عامًا. كان مبنى المعبد الجديد أحد وعود حزب بهاراتيا جاناتا المركزية في حملته الانتخابية لانتخابات مجلس النوَّاب الهندي في عام 2019.
أعلن ناريندرا مودي منتصرًا: "سيصبح هذا المعبد رمزًا لتراثنا، لإيماننا الذي لا يتزعزع"، علما بأن ناريندرا مودي بدأ حياته السياسية في منظمة المتطوِّعين القومية الهندوسية "آر إس إس" RSS بوعده تكريس حياته للكفاح من أجل "الهند الهندوسية".
وقال ناريندرا مودي إنَّ يوم وضع حجر الأساس -في المكان المفترض أنَّه مسقط رأس الإله راما- هو يوم "له نفس أهمية يوم الاستقلال بالنسبة للهند". وأضاف أنه مثلما "دعم كلُّ جزء من المجتمع الكفاحَ من أجل الحرية" فإنَّ بناء هذا المعبد تأسَّس على "التعاون بين الناس من جميع أنحاء الهند".
تأسَّست منظمة المتطوِّعين القومية الهندوسية RSS في عشرينيات القرن العشرين -على غرار حركة القمصان السوداء، التي أنشأها موسوليني في إيطاليا- ولم تلعب أي دور في كفاح الهند من أجل استقلالها عن الإمبراطورية الاستعمارية البريطانية، ولم تستطع مضاهاة أكثر شخصين شعبيةً في الكفاح من أجل الاستقلال اتبعا خطًا سياسيًا مختلفًا عنها تمامًا، وهما: جواهر لال نهرو -الذي أصبح فيما بعد رئيس وزراء الهند- والمهاتما غاندي.
وكلاهما زارا أوروبا وشاركا -إلى حد كبير- مَن تواصلا معهم هناك موقفهم المناهض للفاشية، ولم يكن من الوارد لديهما أي تعاون مع دول المحور (اليابان وألمانيا وإيطاليا) في الحرب ضدَّ الاستعمار البريطاني في الهند.
إعادة تفسير الكفاح من أجل الحرية
وفي المقابل لعب المسلمون الهنود دورًا مهمًا في حركة الاستقلال. وكانت نسبتهم من مجموع سكَّان الهند في تلك الفترة أكبر بكثير مما هي عليه اليوم، حيث كانت الإمبراطورية الاستعمارية البريطانية تشمل أيضًا ما يعرف اليوم باسم باكستان وبنغلاديش. وبالتالي فإن ناريندرا مودي حين يقارن الكفاح من أجل الحرية ببناء معبد راما فإنه بذلك يهمِّش -عن عمد- مسلمي الهند البالغ عددهم حاليًا مائة وسبعين مليون مسلم هندي.
وعلى الرغم من حضور ممثِّلَيْن اثنين عن المسلمين أثناء وضع حجر الأساس، فإنَّ وظيفتهما لم تكن أكثر من التمويه وإخفاء الحقيقة: وذلك لأنَّ أقلية المسلمين الدينية لم تحشد -وبكلِّ تأكيد- من أجل بناء معبد راما، فمنذ تدمير مسجد بابري -في عام 1992- تضاعفت المذابح وازداد القتل العشوائي على يد الغوغائيين ضدَّ الأقلية الدينية المسلمة، مصحوبة بدعاية الكراهية من قِبَل العديد من سياسيي حزب بهاراتيا جاناتا.
إنَّ المقارنة التي عقدها ناريندرا مودي [بين يوم وضع حجر الأساس للمعبد ويوم الاستقلال] هي قطيعة رمزية أخرى مع تراث حركة الاستقلال في حقبة ما بعد الاستعمار، والتي اعتبرت الهند الجديدة دولة علمانية متعدِّدة الأديان.
"لا توجد مقارنة بين الكفاح من أجل الحرية، الذي كان معركةً مُوَحِّدةً (للشعب الهندي) شاركت فيها جميع أنحاء البلاد، وبين التحريض على بناء معبد راما، الذي يهدف إلى استقطاب المجتمع ويؤدِّي إلى الانقسامات"، مثلما ذُكِر في مقالة افتتحاية في صحيفة ديكان هيرالد الهندية في اليوم التالي لخطاب ناريندرا مودي.
القوميون الهندوس يريدون منذ سنين الاستيلاء على حركة الاستقلال ويدَّعونها لأنفسهم من أجل زيادة قبولهم بين المواطنين. ومن أجل تحقيق هذا الهدف يعمل حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم ومنظمة متطوِّعيه القومية الهندوسية "آر إس إس" على ترسيخ أسطورة الضحية. حيث يقولون إنَّ الهند تعرَّضت للغزو مرارًا وتكرارًا طوال تاريخها من قِبَل "غزاة أجانب" كانوا يقمعون أغلبية السكَّان الهندوسية: أولًا من قِبَل الحكَّام المغول المسلمين وفيما بعد من قِبَل المستعمرين البريطانيين، الذين حكموا الهند حتى عام 1948.
أما غاندي -أيقونة حركة الاستقلال- فهو مكروه لدى الكثير من القوميين الهندوس، الذين يحمِّلونه جزءًا من المسؤولية عن "تقسيم" الإمبراطورية الاستعمارية السابقة إلى الهند وباكستان. كما أنَّ قاتِل غاندي "ناتورام جودسي" استند إلى هذه الأيديولوجية واتَّهم غاندي بأنَّه كان متساهلًا جدًا مع المسلمين.
نهاية إجماع ما بعد الاستعمار
ليس مصادفةً أن يحقِّق القوميون الهندوس نجاحًا بسياساتهم خاصةً خلال العقود الثلاثة الماضية، إذْ إنهم حتى مطلع تسعينيات القرن العشرين لم يلعبوا من الناحية السياسية أي دور يستحق الذكر، فقد تم توحيد الشعب الهندي إلى ذلك الحين من خلال إجماع ما بعد الاستعمار.
وهذا الإجماع يتكوَّن من نقاط من بينها الأمل في أن يكون- في وقت ما- لجميع المواطنات والمواطنين الهنود -بصرف النظر عن طبقتهم الاجتماعية أو دينهم- نصيب في ثروة الهند وتقدُّمها.
وحتى ذلك الوقت، كان حزب المؤتمر المنبثق عن حركة الاستقلال يُعتبر بالنسبة للكثيرين -على الرغم من كلِّ فضائح الفساد والمكائد- بمثابة الضامن لهذا الوعد، الذي كان مترسِّخًا في الوعي الجماعي بالرغم من كلّ سوء الأحوال الاجتماعية.
وهذا الإجماع تم إلغاؤه من قِبَل حزب المؤتمر نفسه: فبسبب ضغط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، اضطرت الهند المثقلة بالديون في أوائل التسعينيات إلى الانفتاح على السوق العالمية وبالتالي المنافسة على أرخص تكاليف الإنتاج وتحرير اقتصادها.
مما يعني أنَّ حزب المؤتمر الحاكم اضطر إلى إلغاء الدعم للزراعة -التي تُعتبر حتى يومنا هذا أهم مصدر دخل للمواطنين- وإلى خفض الرسوم الجمركية والسماح للمستثمرين الأجانب بدخول البلاد.
وفي الوقت نفسه مكَّن هذا التحوُّل الليبرالي الجديد النخبَ الهندية من إثراء نفسها بشكل أكثر وقاحة من ذي قبل. وهكذا باتت الفجوة الاجتماعية تتسِّع أكثر وأكثر. ونجح القوميون الهندوس -من خلال حملتهم على مستوى الهند من أجل هدم مسجد بابري- في صرف الانتباه عن هذا الفشل، وذلك من خلال ترويجهم لهوية جماعية "جديدة".
وفي هذا الصدد يتحدَّث المؤرِّخ البريطاني بيري أندرسون حول "محاولة تعويض دينية جاءت كموجة فيضان" عندما "تلاشت وعود حزب المؤتمر الاجتماعية". يُعتبر القوميون الهندوس إلى حد ما بمثابة الإسمنت، الذي يؤمِّن القوة والثروة لنخب الهند الفاسدة. وهم يُوحون للطبقات الاجتماعية الدنيا افتراض وجود معركة مشتركة، ويحوِّلون بالتالي الاستياء الاجتماعي إلى كراهية الأديان والأقليات الأخرى.
القوميون الهندوس وأسطورة معبد راما
يُشكِّك مؤرِّخون مشهورون في أسطورة معبد راما، مثل الباحث ن.ك. بانيكار، وهو أستاذ فخري للتاريخ الثقافي بجامعة جواهر لال نهرو في نيودلهي. وبحسب أطروحته فإنه لو كان يوجد معبدٌ هندوسيٌّ قائمٌ من قَبْلُ في مكان مسجد بابري لكان لا بدُّ أن يظهر ذلك في المصادر المكتوبة في القرنين السادس عشر والسابع عشر.
ولكن بدلًا من ذلك، فقد أشارت كثير من هذه المصادر إلى موقف الحاكم المغولي المتسامح آنذاك ظاهر الدين محمد بابور تجاه الأديان الأخرى. وهناك أمثلة كثيرة تثبت أنَّ بابور كان يراعي وجود المعابد والأماكن المقدَّسة الهندوسية ويتخلى حتى عن بناء المساجد في مواقعها. ظهور أسطورة معبد راما يُرجِعُهُ المؤرخ ن.ك. بانيكار إلى القرن قبل الأخير [أي إلى القرن التاسع عشر].
يقول الباحث ن.ك. بانيكار إنَّ "بناء مسجد بابري مكان المعبد هو افتراض جديد نسبيًا، تكمن أصوله في محاولات المستعمرين في القرن التاسع عشر إعادة كتابة تاريخ شبه القارة الهندية. وقد ركَّزوا في ذلك على العداء المتبادل بين الطوائف والمجموعات الدينية".
وبهذا المعنى فإنَّ القوميين الهندوس يُنَفِّذون استراتيجية "فَرِّقْ تَسُدْ" الاستعمارية، لكنهم ليسوا ورثة إرث حركة الاستقلال المناهض للاستعمار، مثلما يدَّعون ذلك بكلِّ سرور.
حتى وإن كان حزب بهاراتيا جاناتا قد استطاع بأجندته الأصولية إحراز الأغلبية المطلقة في مجلس النواب الهندي مرتين متتاليتين -ما لم يحقٍّقه أي حزب خلال أكثر من ثلاثين عامًا- فإنَّه مع ذلك بعيدٌ عن أن يستطيع الاعتماد على دعم جميع الهندوسيين، الذين لا يزال الكثيرون منهم ينظرون بعين الشك ّوالارتياب إلى حزب بهاراتيا جاناتا.
لقد عاشت مختلفُ الأديان معًا في شبه القارة الهندية عبر قرون من الزمن. وبالإضافة إلى ذلك فإنَّ موقف الهندوسية المتسامح بشكل أساسي تجاه الأديان الأخرى لا يزال مثل ذي قبل الطابعَ المؤثِّرَ على غالبية الهندوسيين.
وهذا ما تؤكِّده أيضًا نتائج الانتخابات: فقد ساهم قانون الفائز الأوَّل بالأغلبية مساهمة كبيرة في فوز حزب بهاراتيا جاناتا، لأنَّ معظم الهنود المُصَنَّفين على أنَّهم من أتباع الديانة الهندوسية والبالغ عددهم ثمانين في المائة من مجمل عدد السكَّان لا يؤيِّدون حزب بهاراتيا جاناتا: فمن بين ستمائة وأربعة ملايين مُقترع، صوَّت الثلث فقط للقوميين الهندوس. ولكن نظرًا إلى انقسام المعارضة وضعفها، فقد كان ذلك كافيًا لتحقيق الأغلبية المطلقة.
ترجمة: رائد الباش / ع.م
حقوق النشر: موقع قنطرة 2021
كاتب هذا التحليل لموقع قنطرة الخبير الألماني دومينيك مولَر وهو مؤلف كتاب "الهند - أكبر ديمقراطية في العالم؟ قوة السوق والقومية الهندوسية والمقاومة"، الصادر عن دار نشر (أسوتسياتسيون، برلين / هامبورغ) في ألمانيا، سنة 2014.
[embed:render:embedded:node:28675]