هذه "ليست حربنا"...نحن شعب السودان
تعتبر إستيلا قايتانو صوتًا مهمًا بالنسبة لأبناء بلدها السودانيين. وتصف في قصصها القصيرة ورواياتها ومقالاتها الصحفية -المكتوبة باللغة العربية- عواقب الحرب والنزوح في بلدها منذ أكثر من عقدين من الزمن. لقد أدانت الظلم وفضحت أخيرًا وليس آخرًا جشع القادة العسكريين وتعطُّشهم للسلطة. وقالت في حوار مع دويتشه فيله: "قدري أن أعيش الآن كلَّ شيء من جديد".
استمر القتال بين قوات الجنرالات المتناحرين في السودان وخلال أكثر من أسبوعين من القتال فقد مئات الأشخاص حياتهم. وقامت العديد من الدول ومن بينها ألمانيا بإجلاء مواطنيها من منطقة الخطر. وحول ذلك تقول إستيلا قايتانو التي تعيش حاليًا في مدينة كامِن الألمانية بولاية شمال الراين وستفاليا كحاصلة على منحة "كُتَّاب في المنفى" من برنامج القلم الألماني: "أنا عائلتي ما تزال موجودة هناك وما أزال على اتصال مع أصدقائي". وهي تشعر هنا في ألمانيا بأمان.
لقد وصفت مجموعة قصص إستيلا قايتانو القصيرة "زهور ذابلة" الصادرة في عام 2002 مصير الأشخاص الذين أُجبِرُوا على الهروب من النزاعات المميتة في جنوب السودان وإقليم دارفور وجبال النوبة قبل أن ينتهي بهم المطاف في مخيمات اللاجئين بالقرب من العاصمة الخرطوم. تقول إستيلا قايتانو البالغة من العمر أربعة وأربعين عامًا: "النزوح في الواقع تجربة قاسية للغاية. يجب عليك أن تنقذ حياتك وتهرب فقط إلى مكان آمن. ولكن يوجد في الحياة أكثر من ذلك - حتى لو كان ذلك مجرَّد ماء وغذاء وأدوية".
انفصل جنوب السودان عن السودان في عام 2011. أصبحت إستيلا قايتانو بسبب نشاطها هدفًا للأوساط القومية والقبلية. وتعرَّضت في مواقع التواصل الاجتماعي للكراهية والتهديدات. وبعد تعرُّضها لاعتداءات جسدية، غادرت إستيلا قايتانو وطنها في عام 2021؛ وتعيش منذ شهر تموز/يوليو من العام الماضي (2022) في ألمانيا.
"هذه ليست حرب الشعب السوداني"
تقول إستيلا قايتانو: "هذه الحرب ليست حربنا". وهذا ما يقوله أيضًا عبد العزيز بركة ساكن: "هذه ليست حرب الشعب السوداني بل إنَّها معركة بين بعض الجنرالات من أجل الثروة والسلطة!". وعبد العزيز بركة ساكن هو كاتب أيضًا ومن الكتَّاب الأكثر قراءة في السودان. واكتسب شهرة دولية على أبعد تقدير من خلال روايته "مسيح دارفور" (2012) حول الإبادة الجماعية هناك وديكتاتورية الرئيس السابق عمر البشير. يعيش عبد العزيز بركة ساكن في المنفى بالنمسا منذ عام 2012. وقد حصل لموسم 2022/ 2023 على جائزة "كاتب مدينة غراتس" الأدبية.
وعبد العزيز بركة ساكن لا يعتقد أنَّ البنادق سوف تصمت قريبًا وحول ذلك يقول: "آمل أن أكون مخطئًا". وذلك لأنَّ أكثر ما يخشاه هو إمكانية تدخُّل الغرباء في الصراع وتعقيده وإطالة أمده - والمقصود هنا روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا والدول العربية أو دول الجوار. لا أحد من أطراف الصراع السودانيين قوي بما يكفي للقيام بالحرب بمفرده، مثلما يقول عبد العزيز بركة ساكن: "عندما لا يحصلون على دعم خارجي فستتوقَّف الحرب من تلقاء نفسها بعد وقت قصير".
ويضيف: "عندما كنت أكتب كتابي في تلك الأيَّام، كان الكثير من الناس لا يريدون تصديقي لأنَّ الحرب في دارفور وجنوب السودان كانت بعيدة جدًا". وكان الكثيرون يعتبرون أوصافه ضربًا من الخيال، ولكن حكومة السودان لم تكن كذلك: فقد طردته إلى المنفى. "اليوم يعرف الجميع أنَّني كنت على حق"، مثلما يقول عبد العزيز بركة ساكن الذي يعتبر من أهم المؤلفين المعاصرين في السودان.
وهو يمزج في أعماله بمهارة الحقيقةَ مع الخيال. ويقدِّم بانوراما واسعة لمنطقة الصراع على حافة الصحراء الكبرى، مع التركيز دائمًا على معاناة الضحايا. والفنَّانون السودانيون مثل عبد العزيز بركة ساكن، الذين يعملون من أجل التغيير الديمقراطي والعدالة ونظام قانوني فعَّال، يقعون حتمًا بين الجبهات في السودان.
الفنَّانون السودانيون يقودون التغيير الاجتماعي
وهناك أيضًا فنَّانة أخرى تدفع باتجاه التغيير الاجتماعي في السودان هي الفنَّانة آمنة الحسن التي عُرضت أعمالها بداية العام 2023 في معرض خاص بصالة "شيرن كونستهاله" في مدينة فرانكفورت الألمانية. "السمة المميِّزة لآمنة الحسن هي عملها في طبقات. فهي ترسم رسوماتها طبقة تلو طبقة على القماش والورق"، كما قالت القيِّمة على المعرض لاريسا ديانا فوْرمان: "وتكشف من خلال هذا التعقيد عن الواقع المعقَّد في السودان والكفاح من أجل التحرُّر والتحرير". وقد دمجت آمنة الحسن في عملها رسومات غرافيتي وكتابات على الجدران في إشارة إلى الاحتجاجات في الشوارع.
وبينما كانت أعمال القتال تركِّز في البداية على مقر الجيش والقصر الرئاسي والمطار الدولي في العاصمة الخرطوم، يبدو أنَّ المقاتلين باتوا يستهدفون المتاحف. فقد نقلت "جريدة الفن" عن فنَّان يعيش في الخرطوم أنَّ المتحف الوطني السوداني، الذي تأسَّس في عام 1971 ويضم كنوزًا من الآثار النوبية، قد تعرَّض للقصف.
وأضافت جريدة الفن أنَّ مدى الأضرار في المتحف لا يزال غير واضح. وقد نقلت بالإضافة إلى ذلك عن السيِّدة سارة سعيد، مديرة "متحف السودان للتاريخ الطبيعي" قولها في بيان للرابطة الدولية للمتاحف (ICOM) إنَّ "المتاحف في السودان لم تعد تخضع للحراسة من أجل حمايتها من أعمال النهب والتخريب".
يتذكَّر ماكسيميليان روتغَر، وهو رئيس معهد غوته في السودان، روح التفاؤل في السودان بعد ثورة عام 2019، عندما كان يتظاهر عشرات الآلاف أمام مقر الجيش في الخرطوم. لقد كان السودان قبل تجدُّد اندلاع العنف في طريقه من الحكم العسكري إلى الحكم الديمقراطي. وبسبب أعمال القتال فقد نُقل السيِّد ماكسيميليان روتغَر من الخرطوم إلى ألمانيا على متن طائرة تابعة للجيش الألماني قبل بضعة أيَّام -من كتابة هذا التقرير- مع نحو مائتي مواطن ألماني آخر.
نكسة على طريق الديمقراطية
وقال في حوار مع دي دبليو إنَّ الفن والثقافة لعبا دورًا مهمًا في المرحلة الانتقالية في السودان، وإنَّ المبدعين مثل الفنَّانة آمنة الحسن ساهموا في هذه العملية بنصوص وأفلام وأعمال فنية. رافق معهد غوته هذه المساهمات من خلال ربطه بين المشهد الثقافي وتوفير المساحة الضرورية. ويقول ماكسيميليان روتغَر مؤكِّدًا: "عملنا كان وما يزال صحيحًا وجيِّدًا. ولكن التطوُّرات الأخيرة تشكِّل بالطبع انتكاسة كبيرة في عملية التحوُّل".
يقول عبد العزيز بركة ساكن إنَّه لو أصبح رئيسًا للسودان فسيكون أوَّل ما يفعله هو جمع كلِّ الأسلحة. توجد بحسب تعبيره ميليشيات كثيرة جدًا في السودان: "لا أحد يستطيع أن يكون آمنًا على حياته". ومن وجهة نظره فإنَّ الاقتصاد يحتاج أيضًا إلى إعادة تنظيم: "السودان في الواقع بلد غني. فنحن لدينا ما يكفي من الذهب والنفط والأراضي وغيرها من الموارد الأخرى. ولكن قادتنا يستغلون كلَّ شيء من أجل مصلحتهم الخاصة". وعبد العزيز بركة ساكن يؤمن بقوة الكلمة والفن والأمل، ويقول: "هذا هو الشيء الوحيد الذي يبقى للناس الآن".
شتيفان ديغه
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: دويتشه فيله / موقع قنطرة 2023