"معنى الأشياء" لفهمي جدعان: التفكير في زمنٍ سيّئ
ليس من اليسير البتّة الإحاطة بكلّ ما طرحه المفكّر الفلسطيني فهمي جدعان (1939) في كتابه: "معنى الأشياء: رسالة في الجوهري من وجودنا المباشر". فقد نقرأ هذه الرسالة باعتبارها وصيّة فكريّة إلى عرب اليوم، أو من تبقّى منهم، وقد نقرأها كشهادة على فكر الرجل وآرائه في قضايا الراهن المُلحَّة، بل وقد نقرأها كتفكير في الفلسفة وقضاياها الكبرى من صداقة وموت، وإيمان وعدالة، وحرية وتراث، إلخ.
ولِمَ لا نقرأها كعمل نثري عزّ نظيره بين أقران الرجل، بعيداً عن كلّ إسفاف أو مبالغة أو معاضلة. وسنقف لا ريب أمام كتابة مُتمرّدة، غاضبة ولكن دون أن تسقط في العدمية أو التسطيح، وهي كتابة تُذكّرنا بإمكانية أُخرى للتفكير والتفلسف، ففي سياق الرداءة التي تحكم كلّ شيء في سياقنا العربي من سياسة وثقافة ومجتمع، تُذكّرنا مثل هذه الكتابة بضرورة النقد، وبأنّ غياب النقد معناه الاستسلام للسردية السائدة، التي يؤسّس لها الخطاب الرسمي، وهي سردية تُؤكّد وطنيات ضيّقة، وتُبرّر للهزيمة باسم البراغماتية السياسية والمصالح، وتخون القيم، لا لكي تُبدع قيماً أُخرى، وهي، بلا مُواربة، تكتفي بتمجيد الاستبداد.
يتلاقى مع فهم عزمي بشارة للعلمانية التي لا تُعادي الدين
ما يُثير الإعجاب دوماً في كتابة فهمي جدعان هو حرصه على التفكير من خارج القوالب الجاهزة والنظريات السائدة، فالرجل لا يقدّس شيئاً بقدر تقديسه لاستقلالية الفكر، هذا الفكر الذي يربطه بالواقع والوجود المُباشَرين، وهو لا يبالغ حين يصفُ من يشتغلون بالفلسفة في سياقنا العربي بأنهم "يصدرون عن أحوال من العجز والتبعية والافتقار إلى الأصالة، ويبدّدون جهودهم وقدراتهم، بل وحيواتهم أيضاً، في الثرثرة والهذر في أعمال فلسفة الغرب...". مؤكّداً بأنهم يظلّون في ذلك "غرباء عن وجودهم الاجتماعي والتاريخي"، وهو في هذا، لا ريب قريبٌ من عبد الله العروي الذي ينتقده في كتابه، فالعروي يرى في "أزمة المثقّفين العرب" بأنّ الفلسفة لا يُمارسها في السياق العربي أساتذة الفلسفة، وهو ما يُمكننا أن نلمسه إلى يومنا، بل ومنذ "الأيديولوجية العربية المعاصرة"، والذي قرأه العرب، وأراده صاحبُه كاستمرار لكتاب ماركس وأنغلز "الأيديولوجيا الألمانية"، وأُفضّل قراءته كـ"مقال في المنهج"، ما برح يُحذّر من الاستطراف والبرغسونية!
ومن أهم القضايا التي سينبري فهمي جدعان للتفكير فيها، تلك المتعلّقة بواقع الإسلام اليوم. حتى وإن كنتُ لا أتّفق مع عرض التديُّن على الدين ومحاكمته من خلال الدِّين، لأننا لن نعثر على تصوّر واحد للدِّين، ولأن التديُّن مرتبط بسياق تاريخي - اجتماعي هو سياق التخلُّف، ولا يُمكننا أن نفهمه وننتقده من خارج شروطه المادّية، إلّا أنّ الفَهْم الذي يقدّمه جدعان للدِّين لا يخلو من أهمية، وهو في ما وراء ذلك، دليل استقلالية الرجل، فهو لا يتبنّى التصوُّر الغربي عن الدِّين، وهو تصوُّر وضعي في الأغلب الأعمّ، بل إنه يرى بأن الإسلام شكّل صيرورةً لنزع السحر، وأنه تميّز بصفتين أساسيتين: "العقلانية والواقعية".
وتمظهُرات تلك العقلانية كثيرة في النص القرآني والسنّة النبوية، كما أنّ الفقه الإسلامي تعبيرٌ واضح عن الحسّ الواقعي لدِين الإسلام. وحين يقول جدعان اليوم ذلك، في ظلِّ سياق عالمي، ما برح يحطُّ من قدر هذا الدِّين لأنه يجهله، أو لأنه يُمعن في فَهْمه بشكلٍ ثقافوي، وفي ظّل سياق محلّي، يُفرغه من مضمونه الثقافي والأخلاقي والروحاني والإستيتيقي، فهو يدخل معركة مع فكرٍ سيّئ، يتشدّق فيها هذا الفكر أحياناً بقيم الحداثة والتنوير، ولكنّه في حربه على الإسلام، يَخُون حتى تنويره ومبادئ ذلك التنوير، ويختزله في علمانية مُتطرّفة.
غير أنّ جدعان يدخل في الآن نفسه معركة مع التصوّر السائد عن الإسلام في المجتمعات العربية، وهو تصوّر انقلب على عقلانية هذا الدِّين وواقعيّته. ويتحدّث في هذا الصدد عن "أمراض إسلامية"، وإنْ كنتُ أفضّل الحديث عن أمراض أو باثولوجيات اجتماعية، من تمظهُراتها التديُّن الإسلامي المُعاصر، بسطحيّته، بافتقاده للروحانية، بإفراطه في الشكليّات، بتعصُّبه وفقره. وقد عدّد جدعان بعض تمظهُرات هذا التديُّن أو هذا المرض، ومنها "السياسي"، والمُرتبط بالحركات الجهادية والإسلام السياسي عموماً، ومنها ما يُسمّيه "المفهومي"، وهو المُرتبط بتخلّف الفقه المعاصر وفتاويه الظلامية، وثالثتها "التربوي"، والذي يحوّل المرأة إلى مجرّد موضوع جنسي.
يُحكّم الديمقراطية لا التاريخانية في علاقتنا بالتراث
أما القضية الثانية التي يطرحها في كتابه، والتي لا تقلّ في رأيي أهمية عن واقع الإسلام اليوم، فهي تلك المتعلّقة بالتراث وبالعلاقة التي يتوجّب علينا أن نُؤسِّس لها به. وأعتقد هنا بأن فهمي جدعان يُبالغ وهو يُهاجم دُعاة "القطيعة"، وذلك في رأيي لسبَبين: أولاً، لا يستمرّ معنا من التراث إلّا ما يستحقّ الحياة فيه، أما ما يقف عقبة أمامها، فإنه لا ريب سيختفي، طال الزمن أم قصر، أردنا ذلك أم لم نرد.
وثانياً، لأنَّ التراث ليس نصّاً نهائياً، مُغلقاً، بل هو نصٌّ مُتعدّد، ونصٌّ يمتح من مشارب وتُراثات مختلفة، إنه ليس هوية. وجدعان واعٍ بذلك وهو يكتب: "ليس التراث العربي تراثاً عربياً فقط، وإنما هو تراث إنساني". ودُعاة القطيعة، وأعني بهم العروي وليس غيره، يرفضون الموقف غير التاريخي من التراث من جهة، وهُم يرفضون محاولات أسطرته واختزاله وأدلجته، ولا أظنّ بأن جدعان نفسه سيختلف موقفه عن موقف العروي.
وإذا كان لنا أن ننتقد دُعاة القطيعة في شيء، فهو أنّ عقلانيّتهم ظلّت مُرتبطة بالقرن التاسع عشر، وبلُغة أُخرى، إنها تُعيد، بلا وعيٍ، إنتاج المركزية الغربية، وتتبنّى تصوّراً خطّياً للتاريخ، وقد تدفعهم تاريخانيّتُهم للاصطفاف إلى جانب الديكتاتوريات والسلطويات باسم الدفاع عن "الحداثة"، ولذلك، فإذا كان لنا أن نبني من علاقة بالتراث، فليست بالضرورة تاريخانية، بل تُوجب أن تكون علاقة ديمقراطية، ولهذا فإنّ معركة التراث مُرتبطة، كما توضّح حنا آرندت في مقدّمة كتابها "بين الماضي والمستقبل" عُضوياً بمعركة المستقبل. وما الوصية التي تحدّث عن غيابها روني شار، الذي تُقدّم بشذرته حنا آرندت لكتابها، سوى التقاليد، ولكنّها تقاليد تربطنا بالمستقبل، أو تقاليد هي المستقبل، تخدم الإنسان ولا تكتم أنفاسه. وجدعان نفسه يؤكّد أن التراث ليس أمراً ثابتاً، أو مرتبطاً بالماضي فقط، بل نحن لا نتوقف عن "صنع التراث وإبداعه".
الحرّية حجر أساس الكتاب والفكرة التي يتمحور حولها
وكما توقّف عند قضية التراث، فإنه سيتوقّف، وفي روح نقدية واقعية، أمام مسألة العلمانية، مؤكّداً، وإن بشكل غير مباشر، الموقف الذي عبّر عنه عزمي بشارة، والذي يختلف عن الموقف الإقصائي لرعيل من المفكّرين العرب المُعاصرين، والذين يفهمون العلمانية على الطريقة الفرنسية باعتبارها "علمانية فصل"، وهي تلك التي ينتهي بها المطاف إلى نوع من العِداء المرضي للدين، أو، في لغة جدعان: "تُبدي أعراضاً 'عُصابية' قبالة متعلّقات الدين ورموزه، وأظهر الأمثلة على ذلك حظر الحجاب في الفضاء العام في فرنسا، وحظر بناء المآذن في سويسرا، حيث تخرج العلمانية على أخصّ مبادئها، الحرية، وتنقُض نفسها قبالة الخوف أو النفور من رموز الدين الإسلامي".
ولعلّ مسألة الحرّية هي حجر أساس هذا الكتاب، والفكرة التي يتمحور حولها في مختلف فصوله وأسئلته. وجدعان يؤكّد منذ البدء في لُغة تُذكِّرنا بشخصانية محمد عزيز لحبابي بأن "دين الإسلام قد كرّم الإنسان، وتكريم الإنسان لا يُمكن أن يتحقّق خارج سياق حريته"، موضّحاً بأن التطرّف الديني الذي يمنع الآخرين من حقّهم في حرية الاعتقاد يتنافى مع الإسلام نفسه، باعتباره ديناً للحرية.
ولكنّ جدعان يوجّه سهام نقده لانحرافات الحرية أيضاً، وهي تلك المُرتبطة بالمبدأ الذي يقول بالحرية المطلقة، وهو يضرب مثالاً عن ذلك بالرسوم الكاريكاتورية، ولهذا يرى بأنّ الوجه الأخلاقي واللاأخلاقي للحرية يستحقّان منّا كلّ الاهتمام.
وهنا يقترب جدعان في موقفه من الكثير من نقّاد الحداثة وانحرافاتها في الفلسفة الغربية، مع تأكيده ضرورة أن نبني حداثتنا في علاقة بوجودنا المباشر، لا أن نقوم باستنساخها، كما يُريد لنا العقل التغريبي ذلك، مذكّراً بأن القيم الغربية نفسها متغيّرة وليست ثابتة.
الكاتب: رشيد بوطيب
حقوق النشر: العربي الجديد 2023
* الكاتب باحث وأستاذ فلسفة من المغرب.