القرآن والسنة في مواجهة العنف والتطرف والإرهاب
لا يزال السياسيون والصحفيون في الغرب يطالبون بأنْ ينأى المسلمون بأنفسهم عن إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية، إلا أنَّ ما لم يلتفتوا إليه إلى حدٍّ بعيد هو أنَّ كل الجمعيات الإسلامية المهمة، وعلى وجه الخصوص المرجعيات الإسلامية، وحتى الدوائر المحافظة والتقليدية، قد أدانت بوضوح هذا التنظيم باعتباره تنظيمًا متوحِّشًا وغير إسلامي.
عندما يتجاهل نقَّاد الإسلام هذا ويدَّعون قرب مبادئ الإسلام الأساسية إلى إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية، فإنَّ صورة الإسلام بذلك تتشابه لديهم نوعًا ما مع صورته لدى الأصوليين. لكنَّ هذه الصورة لا علاقة لها كثيرًا بإسلام معظم المسلمين ومرجعياتهم.
الرسالة الموجَّهة إلى الإرهابيين
ونجد في هذا السياق دلالةً كبيرةً للرسالة التي وُجِّهت إلى زعيم التنظيم الإرهابي (انقر هنا لفتح نص الرسالة باللغة العربية كملف بي دي إف _.pdf) والتي أطلقها أكثر من مائة وعشرين علاَّمةً مسلمًا مرموقًا، ينتمي جُلُّهم إلى أوساط الإسلام المحافظ. أي أنَّ مطلقي هذه الرسالة، الذين يجادلون فيها تفاصيل فكر تنظيم الدولة الإسلامية واستناده إلى القرآن، ليسوا دعاة إصلاحٍ حداثيين أو دعاة تنوير إسلاميين، بل مرجعيات إسلامية تتحرك بشكلٍ قاطعٍ ضمن بنية تفكيرٍ تقليديةٍ متشدّدة.
ومن بين هؤلاء العلَّامة الشيخ شوقي علام مفتي الديار المصرية وكذلك الشيخ أحمد الكبيسي مؤسس جمعية العلماء في العراق، كما نجد بينهم بالإضافة إلى ذلك علماء دين بدءًا من تشاد مرورًا بنيجيريا وصولاً إلى السودان وباكستان. ويبدو جليًا أنَّ لديهم حاجة في أنْ يكون تموضع الفقه الإسلامي واضحًا حيال الإرهابيين. وإلا فكيف يمكن تفسير توجيه علماء دين رسالةً إلى إرهابيين.
يبلغ طول الرسالة خمسًا وعشرين صفحةً وهي موجهة إلى: "الدكتور إبراهيم عواد البدري الملقب بـ <<أبي بكرٍ البغدادي>>"، وإلى جميع المقاتلين والمنتمين إلى ما أطلقت على نفسها اسم الدولة الإسلامية. لكنَّ الخطاب موجَّهٌ في الواقع وبالتأكيد إلى المسلمين الذين يخشى كاتبو الرسالة من احتمال وقوعهم في براثن بروباغاندا تنظيم الدولة الإسلامية.
البغدادي المولود في العراق سنة 1971 والذي يُطلق على نفسه لقب "أبو بكر" تشبُّهًا بخليفة المسلمين الأول ولقب "البغدادي"، لكي يزعم أحقيَّته ببغداد عاصمة الخلفاء العباسيين، لا يخاطبه محررو الرسالة باعتباره خليفةً، ذلك لأنهم يرون أنه لا يمكن إتمام إعلان الخليفة وفقًا للشريعة الإسلامية -أي تحديد الخليفة السياسي للنبي- إلا عبر إجماع كل المسلمين على الأمر.
يلخّص النص انتهاكات ما يُسمى بالدولة الإسلامية في أربعة وعشرين انتهاكًا وقد جاء فيه: "لا يجوز في الإسلام قتل الرُّسُل والسفراء والدبلوماسيين، وبالتالي لا يجوز قتل الصحفيين وموظفي المنظمات التنموية"، و: "لا يجوز إيذاء النصارى أو أهل الكتاب بأي طريقة ما أو الإساءة إليهم".
وفي الرسالة تتم الإشارة بدقةٍ وعنايةٍ إلى مصادر الاقتباسات من خلال الحواشي. ونجدها في هذا المثال قد وردت في حديث نبوي لدى الإمام مالك والإمام الشافعي، والاثنان من مؤسسي المذاهب السُّنية الأربعة.
شروط التأويل
إضافةً إلى ذلك، يعالج كاتبو الرسالة شروط التشريع الإسلامي، وينكرون بشكلٍ غير مباشرٍ على الذي نصَّب نفسه خليفةً أية سلطةٍ أو كفاءةٍ تخوِّله بأنْ يُصدِرَ فتاوى ملزمة شرعًا.
يرى كاتبو الرسالة أنَّ منهج التفسير الذي وضعه الله في القرآن والرسول في الحديث هو كالتالي: لابدَّ وأنْ يُجْمَع كلُّ ما أنزل في مسألة ما والإحاطة به، ولا يُركن على الجزء أو البعض. ينبثق هذا المنهج من النصوص ذاتها، على سبيل المثال من الآية القرآنية التالية: ... أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ..." (سورة البقرة - الآية 85).
وعند تجميع مواضع النصوص ذات الصلة ينبغي معرفة أيِّ نصٍ "عامٍ" و أيِّ نصٍ "خاصٍ"، و أيِّ نصٍ "مقيدٍ" و أيِّ نصٍ "مطلقٍ"، و أيِّ آيةٍ محكمةٍ و أيِّ آيةٍ متشابهة.
وينبغي معرفة أسباب نزول جميع هذه الآيات وشروط التفسير الأخرى التي حددها الأئمة "التقليديون". عندئذ فقط –وبناءً على كل النصوص الموجودة – يتم إطلاق الحكم الشرعي أو التأويل.
إذًا وباختصار، لا يجوز اقتباس آيةٍ دون الالتزام بمجمل القرآن وبكلِّ الحديث المنقول. يشير كاتبو الرسالة إلى وجوب التوفيق بين جميع النصوص قدر المستطاع، ويستندون في هذه الرؤية إلى الإمام الشافعي وإلى إجماع عامٍ بين كلِّ علماء الأصول.
سورة الحج، الآية 39
يَجري عادةً اقتباس هذه الآية وكذلك آياتٍ مشابهةٍ في سورة البقرة (من قبل منتقدي الإسلام بالمعنى السلبي، ومن الجهاديين بالمعنى الإيجابي) لإثبات ما يزعمون عن تأصُّل العنف في الإسلام. بيد أنَّ علماء الدين يرجعونها حصرًا إلى حدثٍ معيَّنٍ يتعلق بـ "أسباب النزول".
يرتبط الأمر من هذا المنظور بالوضع السياسي المحدّد فقط: في عام 630 ميلادي تقدَّم النبي نحو مكة من أجل محاربة المكيين الوثنيين –ملغيًا بذلك عقدَ سلامٍ كان قد أبرمه بنفسه قبل عامين. لذلك كانت هناك حاجة لتشريع تصرُّفه، فجاءت هذه الآية. وكان المقصود: يجوز قتال المكيين لأنهم كانوا قبل ذلك قد "اِضطَهدوا وظَلَموا" النبي والصحابة، وهَجَّروا أتباعه وأرادوا قتله.
تبعًا لذلك لا يمكن استنباط توجيهٍ عامٍ لجميع المسلمين من هذه الآية. لذا يعلن كاتبو الرسالة بوضوح: "فالجهاد مرتبط بالأمن، وبحرية الديانات، وبظلم سابق قد وقع في الأرض، وبالإخراج من الديار. وهاتان الآيتان نزلتا بعد ثلاثة عشر عاماً من التعذيب والقتل والاضطهاد والظلم للنبي صلّى الله عليه وسلّم والصحابة من قِبَلِ المشركين. فلا جهاد هجومياً عدوانياً بسبب اختلاف الرأي أو الدِّين".
إن هذا التأويل ليس حديثًا أبدًا ولا مستوحى من الغرب، إذ يُطبَّقُ هنا نهجٌ موجودٌ في الفقه الإسلامي منذ قرون، وفرعٌ كاملٌ منه يُعنى بأسباب النزول السالفة الذكر. أي أنَّ هذا النهج كان ينطلق دائمًا من علاقة جدلية بين النص والمرسل إليه ويبحث عن السياق الذي نزلت به آيةٌ ما، في سبيل التمكُّن من فهمٍ أفضل لمغزاها ونطاق صلاحيتها.
إن حالة واحدة وحيدة كتلك التي يجري وصفها في السورة، لا يمكن اعتبارها سابقةً يقاس عليها في حالات أخرى مشابهة. حقًا يطغو في الشريعة الإسلامية تفكيرٌ يعتمدُ عمومًا حالاتٍ سابقةً يبني ويقيس عليها، لكنْ بحسب صياغة كاتبي الرسالة: "لا يجوز أنْ تُحَمَّل آيةٌ من آيات القرآن الكريم بشكلٍ خاصٍ على حَدَثٍ حصل بعد 1400 عامٍ من نزول القرآن".
إشكاليات
تُظْهِر الرسالة، أنَّ الفقه الإسلامي يملك مصادر للمحاججة كافية لمواجهة ما يسمى بالدولة الإسلامية. ورغم ذلك يَرِد في نهج كاتبي الرسالة عددٌ لا بأس به من الإشكاليات من وجهة نظر ليبرالية.
فمؤلفو الرسالة يتمسَّكون على سبيل المثال بصلاحية العقاب البدني، وإنْ كانوا يَرهِنون تطبيقه بمعايير صارمة. وفي حين يرفض كاتبو الرسالة العنف الجنسي -في سياق انتقادهم لإعادة ممارسة العبودية ولحرمان النساء من حقوقهن- يبقى الإقرارٍ بالمساواة غائبًا عندهم.
هناك مفكرون عبَّروا ومفكرات عبَّرن عن آرائهم المؤيدة لهذا النهج، إذ طالبت إيرانيات -ناشطات على صعيد حقوق المرأة مثلاً بالمساواة في الحقوق وحاججن بروح القرآن وقلنَ إنَّ القرآن تاريخيًا قد حسَّن وضع المرأة في البداية، إلا أنَّ هذا لم يؤدِّ إلى مساواة كاملة، إذ لم يكن المجتمع آنذاك ليقبل بها، ولكن على الرغم من ذلك يمكن التعرُّف بوضوح على أنَّ العدالة كانت هدف النبوءة، إذًا وبهذا المعنى فلا بدَّ من تحقيق المساواة اليوم.
لكنْ ثمة آخرون مثل فضل الرحمن من باكستان، الذي طوَّر نهج تأويل يتيح نقل رسالة القرآن إلى الزمن الحالي. وسمّى فضل الرحمن هذا النهج بـ "الحركة المزدوجة"، التي لا بدَّ فيها أولاً بحسب رؤيته من دراسة السياق الذي نزلت في إطاره الآيات القرآنية، وهو الأمر الذي يتيح فهم الرسالة الأصلية. ويرى أنه يمكن بعد ذلك انطلاقًا من هذا الفهم وفي حركةٍ ثانيةٍ استنباط المبادئ والقيَّم التي من شأنها أنْ تكون معايير وقتنا الحاضر وفقًا لروح القرآن.
الوحي والتاريخ
بيد أنَّ كاتبي الرسالة يشترطون بالرغم من ذلك الاستناد إلى الوحي والتاريخ ويصرّون حتى بما يخص الآيات التي تبدو واضحة ظاهريًا على ضرورة مراجعة التأويل لغويًا وتاريخيًا في أفق السياق العام، بدلًا من فهمها حرفيًا. أما أسلوب انتقاء آيات منفردة من القرآن بهدف إثبات فرضية مسبقة الصنع، كما يفعل بعض منتقدي الإسلام والأصوليون على حدٍّ سواء، فيُعتبر من وجهة نظر الفقه الإسلامي أخرقَ ودليل جهل.
كاتايون أميربور
ترجمة: يوسف حجازي
حقوق النشر: قنطرة 2014
الدكتورة كاتايون أميربور أستاذة العلوم الإسلامية والفقه الإسلامي في جامعة هامبورغ. صدر كتابها "الإسلام، نظرة تأملية جديدة. الجهاد من أجل الديمقراطية والحرية وحقوق النساء"، سنة 2013 عن دار النشر سي إتش بيك.