ظاهرة اجتماعية بانتظار إجراءات سياسية ومعالجات تربوية
تشكل ظاهرة التحرش الجنسي بالنساء في مصر واحدة من المشكلات المجتمعية التي جرت العادة في بعض الأوساط السياسية والإعلامية على التعامل معها بوصفها تصرفات فردية وحوادث شاذة، لا علاقة لها بالحالة الراهنة للمجتمع المصري ككل، وهي تالياً خارجة على الطريق القويم الذي يسير على هديه هذا المجتمع.
إلا أن شجاعة قلة من السيدات المصريات في كشف ما يتعرضن له من مضايقات، ودأب بعض منظمات المجتمع المدني على إطلاق حملات الضغط والتحذير والتوعية، بالإضافة إلى مساندة العديد من وسائل الإعلام الرديفة وفي مقدمتها المدوّنات، سمحت مجتمعة بنقل هذه القضية وطريقة التعامل معها من حيز الحوادث المنعزلة والضيقة إلى السياق المجتمعي الأعم والأشمل بوصفها قضية سياسية واجتماعية من الطراز الأول، تتطلب معالجتها إجراءات سياسية وتربوية وقضائية لا يزال معظمها ينتظر طريقه إلى التنفيذ. تمتلئ معظم كتب الدليل السياحي المختصة بمصر والمنشورة في الخارج، بالعديد من الملاحظات تحذر النساء الأجنبيات من أخطار التعرض للتحرش الجنسي في شوارع المدن المصرية وتحاول أن ترشدهن إلى الكيفية التي يجب التعامل بها مع أخطار كهذه. هذا إذا دل على شيء، فعلى مدى تفاقم الظاهرة وازديادها في الأعوام الأخيرة. عدا أن ضحاياها لا يقتصرن فقط على النساء الأجنبيات، بل يتعداهن إلى النساء المصريات بمختلف مشاربهن الطبقية والاجتماعية والدينية، المحجبات منهن، كما السافرات.
تعام وتجاهل
ظل التعامي عن هذه الظاهرة الاجتماعية سائدا لدى السلطات والعديد من القوى السياسية والاجتماعية المؤثرة، إلى أن اندلعت في عام 2006 في وسط القاهرة خلال عيد الفطر حوادث شغب وسعار جنسي شارك فيها مئات الشباب الهائج وراح "ضحيتها" عشرات الفتيات اللواتي تم الإحاطة بهن في الشوارع وملامستهن وصولا إلى محاولة نزع ثيابهن، ولم تسلم من ذلك لا الأمهات ولا النساء المحجبات، وسط لا مبالاة رجال الشرطة.
وقد حاول يومذاك بعض المسؤولين السياسيين والعديد من الصحف الحكومية التقليل من أهمية حوادث الشغب هذه، واتهموا بعض أطراف المعارضة بمحاولة توظيفها سياسياً لأنها ركزت على البعد الاجتماعي والسياسي لهذه الظاهرة. لكن مجتمع المدوّنات المصري كان لهم في المرصاد، وقام العديد من المدونات بنشر شهادات وأشرطة فيديو تحوي مشاهد مريعة لما حدث في ميدان طلعت حرب والشوارع المحيطة به في مركز المدينة. وإذا كان نشر السلطات المصرية لكاميرات مراقبة في وسط البلد سمح بالتقليل من هذه الظاهرة في ذلك المكان، فإن هذا لم يمنع من استمرارها وانتشارها في أماكن أخرى كشارع الهرم ومنطقة المهندسين، حيث تم الاعتداء على العديد من الفتيات في عيد الفطر المنصرم، وإن يكن رجال الأمن نجحوا هذه المرة في توقيف العديد من الشباب المعتدين.
النساء ضحايا الموروث الشعبي
المؤسف في هذا السياق أن الكثير من المعتقدات الشعبية السائدة لا تزال تلقي باللائمة قبل كل شيء على ضحايا التحرش الجنسي من النساء، مفترضة ضمنا أنهن يرتدين ألبسة مثيرة أو يأتين بتصرفات مشبوهة أو كونهن بكل بساطة سافرات لا يرتدين اللباس الإسلامي المحتشم. وإذا كان من إيجابية لحوادث عام 2006 التي كان من ضحاياها العديد من النساء المحجبات، فهي أنها فتحت المناقشة العامة في مصر في شأن ظاهرة التحرش الجنسي، وسمحت للعديد من منظمات المجتمع المدني وجمعيات الدفاع عن المرأة بوضع الإصبع على الجرح المجتمعي وبإطلاق حملات هادفة إلى توعية النساء إلى حقوقهن وتنبيه الرجال والنساء على السواء إلى فداحة هذه الممارسات وضرورة التصدي لها على المستوى المجتمعي ككل، لكونها ظاهرة اجتماعية تخص المجتمع بأكمله.
وترتبط هذه الظاهرة بانتشار البطالة والتهميش بين الشباب وبتأخر سن الزواج وبزيادة الكبت الجنسي واستفحال الثقافة الذكورية وبتحلل المنظومات الأسرية والأخلاقية الرادعة. ويمكن الإشارة هنا إلى حملة "احترم نفسك" قامت بها مجلة "كلمتنا" وكذلك إلى حملة شارع آمن للجميع قام بها المركز المصري لحقوق المرأة بالتعاون مع العديد من وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة ومواقع الانترنت والمدونات بهدف توعية الشباب المصري إلى خطورة هذه الممارسات وللمطالبة بتطوير القوانين الرادعة لها وتهيئة رجال الأمن والمخافر للتعامل مع مثل هذه القضايا. أعقب هذه الحملة نشر دراسة سوسيولوجية تحت عنوان "غيوم في سماء مصر- التحرش الجنسي من المعاكسات الكلامية حتى الاغتصاب"، ارتكز فيها على عينة من 2500 امرأة مصرية وعينة أخرى من 2020 فرداً مقسمة بالتساوي بين الرجال والنساء، بالإضافة إلى عينة من 109 نساء أجنبيات، وخلصت الدراسة إلى نتائج مذهلة تبين أن 98 في المائة من النساء الأجنبيات و83 في المائة من النساء المصريات تعرضن للتحرش الجنسي. وقد أقر ثلثا الرجال، الذين تم استطلاعهم تقريبا، بأنهم تحرشوا بالنساء.
حملات مضادة
في الجانب الآخر، حاول العديد من الأوساط الدينية والسياسية المحافظة أن يستثمر استفحال حوادث التحرش الجنسي خدمة لأجنداته الخاصة بشكل فيه الكثير من الانتقاص من كرامة المرأة والإمعان في إلقاء اللوم عليها، لا بل وحتى التواطؤ مع مرتكبي جرائم التحرش الجنسي في محاولة مفضوحة لتبرير فعلتهم وتوظيفها في حملات لا علاقة لها بالدفاع عن المرأة وصون حقوقها. يكفي في هذا السياق أن نورد مثالين فاقعين على هذا النوع من الحملات يتجسدان في ملصقين تم تعليقهما في بعض الشوارع ونشرهما في العديد من المدونات والمواقع الإسلامية. يصور الأول صورة ثنائية في الجانب الأيمن منها رسم نصفي باللون الأخضر لفتاة محجبة تبدو على حجابها صور لمآذن الجوامع وفي الأسفل حبة حلوى مغلفة بعناية بورق أخضر أنيق وكتب تحتها "والله يريد أن يتوب عليكم".
في الجهة المقابلة وباللون الأحمر الفاقع رسم لامرأة "سافرة" ورجل وفي الأسفل ورق منهوش وفي داخله حبة سكاكر حمراء كتب تحتها "ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما". الملصق الثاني لا يكتفي بتشييئ المرأة وجعلها حبة سكاكر جاهزة للقضم، بل يصورها على أنها مصاصة لا يحميها من الذباب (أي الرجال في مفهوم مروجي الحملة) إلا غلافها الذي هو هنا حجابها. وتحت الرسمين لمصاصتين واحدة مغلفة والثانية عارية يتكاثر عليها الذباب، كتب الآتي: "مش هتقدري تمنعيهم، لكن تقدري تحمي نفسك، إلي خلقك أدرى بمصلحتك". الحقيقة أن هذين الملصقين يشيران إلى عقلية معينة في التفكير والنظر إلى المرأة تنزع عنها إنسانيتها وخيارها الحر وتنظر إليها على أنها أداة للمتعة والترفيه عن الرجل الذي يحل له أن يتمتع بها وفقا للصراط الديني المستقيم، لا من طريق التحرش. أما المضمر في هذين الملصقين فهو أن انتشار التحرش الجنسي مرتبط بغياب الحجاب، وتاليا فالمرأة غير المحجبة مسؤولة عما يلحق بها من تحرش جنسي، بسبب سفورها.
جرأة المخرجة نهى رشدي كان يمكن للمناقشة العامة حول التحرش الجنسي أن تظل محصورة في دوائر الإعلام والحملات والحملات المضادة، لولا جرأة المخرجة المصرية الشابة نهى رشدي صالح التي تعرضت في أثناء عودتها من المطار برفقة صديقة لها إلى اعتداء سافر في أحد الشوارع القريبة من منزلها في منطقة الكربة عندما اقتربت منها سيارة نصف نقل وبدأ سائقها في الانحراف نحوها، وعندما أصبح في محاذاتها، مد يده خارج النافذة وأمسك بصدرها، وجذبها بعنف شديد، وسقطت على الأرض فهرب بالسيارة مسرعاً ثم نظر إليها من الشبّاك ساخراً. تقول منى إن هذه النظرة كانت دافعها إلى مقاضاته والمطالبة بحقها، فصرخت وشعرت بألم وغضب لا تستطيع وصفهما فجرت واستطاعت بفضل الزحام أن تلحق بالسائق وأن تتشبث بمقدمة سيارته وأن تصرخ حتى يساعدها المارة.
وتروي صدمتها من ردود فعل المارة: "لم أكن أتصور أن أجد هذه الردود فبعضهم حاول مساعدة السائق على ركوب سيارته والهرب والبعض الآخر قال لي: إحنا هنخليه يعتذر لك، ولما قلتلهم: يعتذر لي إيه؟ هو داس على رجلي، ورفضت، قالوا لي أمّال إنتي عايزه إيه؟ قلت لهم: هاخده على القسم وواحد آخر قال لي أنا مش فاهم إنتي واقفة كده في وسط الرجالة إزاي ولقيت الناس في المحال والبلكونات، قاعدين يتفرجوا كأنهم بيشوفوا فيلم سينما وحتى كان فيه سيدة واقفة قالت لي خلاص يا بنتي سامحيه فرفضت وأصررت على موقفي".
تدخل القضاء
سمحت خلفية نهى القانونية كونها درست المحاماة، بأن تتمسك بحقوقها ونجحت في تحرير محضر بالواقعة وتقديم المتهم إلى محكمة الجنايات، وأصرت بمساندة والدها أن تكون الجلسة علنية وأن يطلع الرأي العام على القضية وأن تكون قضيتها بداية لتحريك الرأي العام والقضاء المصري في مواجهة ظاهرة التحرش الجنسي. وأصدرت محكمة جنايات شمال القاهرة في 21 تشرين الأول 2008، برئاسة المستشار شوقي الشلقاني، حكما مشددا قضى بسجن مدته ثلاث سنوات وتعويض مؤقت قدره 5001 جنيه غرامة على شريف جمعة جبريل، المتهم فى قضية التحرش.
وواجهت نهى كاميرات وسائل الإعلام بجرأة وقالت إن الحكم رد إليها اعتبارها، وأن النظام القضائى أنصفها، وأنها مهدت الطريق إلى كل بنات مصر ليسلكن الطرق المشروعة في أخذ حقهن ووضعت المسمار الأول في نعش التحرش الجنسي. وعلى الرغم من الحملات التي تعرضت لها نهى رشدي صالح للتشكيك في صدقيتها ومحاولة اتهامها بتشويه سمعة مصر والافتراء عليها بتهمة حمل الجنسية الإسرائيلية كون جدها من اللاجئين الفلسطينيين إلى مصر، فإن جرأة هذه الفتاة وإصرارها على المضي حتى النهاية في إجراءات المحاكمة ونجاحها في انتزاع أول حكم بإدانة التحرش الجنسي عن المحاكم المصرية، إذا دل على شيء فعلى قدرة بعض الأفراد الشجعان في أن يكونوا رأس حربة في معركة طويلة ومضنية اسمها معركة المجتمع المدني، والتي تشكل كرامة المرأة وحقوقها جزءا لا يتجزأ منها .
محمد علي الأتاسي
حقوق النشر: قنطرة 2010