معضلة نفوذ إيران في الشرق الأوسط
بشكل عام يُعتبر اتفاق آذار/مارس 2023 بين المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية -والذي توسطّت فيه الصين- بمثابة دليل على تحوّل الديناميكيات الإقليمية والعالمية، وخطوة رئيسية باتجاه وضع حدٍّ لعدم الاستقرار الإقليمي. كما أنه يعبّر عن النفوذ الدولي المتنامي لبكين.
من جانبها استغلّت الجمهورية الإسلامية هذه الفرصة لصرف انتباه المجتمع الدولي بعيداً عن قمعها للانتفاضة الشعبية الثورية الإيرانية -التي بدأت في منتصف أيلول/سبتمبر من عام 2022- وما نتج عنها من تهديد بتزايد العزلة الدولية. وقد اتّجهت طهران مؤخراً إلى الموافقة على التقارب مع المملكة العربية السعودية.
كما سعت السلطات الإيرانية إلى تبني الصفقة كدليل على تراجع قوة ونفوذ الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط والبداية الأكيدة لنظام عالمي ما بعد أمريكي. وأحد الجوانب المُهملة بشكل كبير في النقاش، هو أنّ هذا الاتفاق قد خلق معضلة كبيرة في السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية، تتمثّل في توازن غير مستقر بين الاستراتيجيتين الأساسيتين الكبيرتين لها: "محور الممانعة" الإقليمي وسياستها العالمية "التوجّه شرقاً".
وقد أعربت كل من إدارة الرئيس الإيراني رئيسي -ووسائل الإعلام المملوكة للدولة والمقرّبة من المرشد الأعلى علي خامنئي- عن دعمها لتطبيع العلاقات مع المملكة العربية السعودية. وفي الوقت ذاته فإنّ الرسالة الأساسية للدعاية الإيرانية هي تصوير الاتفاق بوصفه ضربة لخصوم الجمهورية الإسلامية، سواء أكانت إسرائيل أو الولايات المتحدة الأمريكية.
Joint Trilateral Statement by the Kingdom of #Saudi Arabia, the Islamic Republic of #Iran, and the People’s Republic of #China. pic.twitter.com/MyMkcGK2s0
— Foreign Ministry (@KSAmofaEN) March 10, 2023
كما روّجت الصحف الإيرانية اليومية للرواية التي تقول بأنّ تطبيع العلاقات مع الرياض سيؤدي إلى "نظام جديد في غرب آسيا" و"حقبة جديدة في التطورات الإقليمية". ووصف القائد السابق للحرس الثوري الإيراني ومستشار خامنئي -الجنرال يحيى رحيم صفوي- الاتفاق بأنه "زلزال سياسي يوشّر إلى نهاية الهيمنة الأمريكية في المنطقة"، معتبراً أنّ "توجّه طهران إلى جيرانها وإلى الشرق سيزيد من ثقلها الجيوسياسي".
الصمت الغريب لكبار صناع القرار الإيرانيين
ولكن لا يبدو أن أحداً من صانعي القرار الرئيسيين في إيران، المرشد الأعلى علي خامنئي أو الحرس الثوري الإيراني، يعلّق أي أهمية خاصة على هذا الاتفاق، ناهيك عن اعتباره نقطة تحوّل تاريخية، كما فعل العديد من المراقبين الخارجيين. فقط في أواخر أيار/مايو 2023 -حين أشاد سلطان عُمان الجديد بالاتفاق السعودي الإيراني خلال زيارة له إلى طهران- خرج خامنئي أخيراً عن صمته، ناسباً الفضل في الاتفاق إلى "السياسة الجيدة" التي تنتهجها إدارة إبراهيم رئيسي "في توسيع العلاقات مع الدول المجاورة والإقليمية".
ويمكن قراءة مثل هذا التعليق العام -الذي يعكس فقط الأهداف المعلنة للإدارة- على أنه يقلل من أهمية الحدث، إن لم يكن مهيناً. في الواقع بعد حوالي عشرة أيام من الإعلان عن الاتفاق مع الرياض، سعى خامنئي في خطابه بمناسبة رأس السنة الفارسية (النوروز) إلى التأكيد على تصميم بلاده على دعم "محور الممانعة"، والذي كان موضع خلاف رئيسي بين طهران والرياض على مدى السنوات العشرين الماضية.
تتشابك هوية الجمهورية الإسلامية وبقاؤها مع "المحور" الذي تقوده طهران، مما يعني أنه من غير المرجح أن تضحّي القيادة الإيرانية بنفوذها الإقليمي من أجل تطبيع العلاقات مع المملكة العربية السعودية. قبل ذلك بعام، في آذار/مارس 2022 شدّد خامنئي على أنّ وجود إيران في الشرق الأوسط "هو عمقنا الاستراتيجي؛ وهذا في حدِّ ذاته وسيلة لتعزيز نظام الجمهورية الإسلامية، ولتعزيز قوته. كيف نفقد هذا، في حين أنه يمكننا وينبغي علينا الحصول على شيء مثله؟".
إضافة إلى ذلك بينما هدّد الحرس الثوري الإيراني المملكة العربية السعودية بشكل متكرّر في السنوات الأخيرة فإنّ صمته بشأن الاتفاق قد أثار -كما يبدو- مخاوف في الرياض حول الالتزام الفعلي لإيران بالاتفاق.
ومن الممكن أن ينتهي الأمر بتصعيد المأزق النووي الحالي. وفي سيناريو كهذا - وفقاً لمهندس رئيسي لسياسة التصعيد النووي الإيراني في مقابلة مع مجلة دير شبيغل الألمانية في نيسان/أبريل 2023- فإنّ الحرب لن تكون مقتصرة على الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، بل قد تشمل أيضاً العديد من الدول الإقليمية، وبعبارة أخرى من المحتمل أن تشمل المملكة العربية السعودية كذلك.
وقد ينجم حريق إقليمي كهذا بسبب الفشل في إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة JCPOA -التي تُعرف باسم الاتفاق النووي الإيراني- وإعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة من قبل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي المُوقِّعة على خطة العمل المشتركة، ومن ثم تنفيذ طهران لتهديدها بالانسحاب ليس من الاتفاق النووي فحسب بل ومن معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية أيضاً.
وقد يدفع هذا السيناريو الولايات المتحدة و/أو الجيش الإسرائيلي إلى عمل عسكري لمنع طهران من امتلاك القنبلة النووية، مع لجوء إيران إلى استهداف مصالح تلك القوى وشركائها المفترضين في غرب آسيا. وبعبارة أخرى، سيتم التضحية بالاتفاق السعودي الإيراني لأجل سياسة التصعيد الإقليمي الإيرانية.
الصين تسعى إلى الاستقرار الإقليمي - لعبة حظ
أضاف دور الصين مستوى مهماً من التعقيد إلى الوضع. يحاول النظام الإيراني بناء تحالف مع موسكو وبكين، مدعياً أنّ هذا المثلث سيشكّل النظام العالمي القادم. تنظر طهران إلى سياستها "التوجّه شرقاً" بوصفها مركزية، ليس فقط لفكّ العزلة السياسية للجمهورية الإسلامية، بل وأيضاً من أجل تمكينها من لعب دور عالمي في المستقبل.
وقد ساعدت الصينُ إيرانَ في الحفاظ على إيراداتها الأجنبية من خلال شراء النفط، وذلك على الرغم من العقوبات الأمريكية الحالية العابرة للحدود. وفي محاولة أخرى لتعزيز العلاقات، وقع البلدان شراكة مدتها 25 عاماً في آذار/مارس 2021. ومن الإنصاف القول إنّ الجمهورية الإسلامية تتجه بشكل متزايد نحو الصين سياسياً واقتصادياً كذلك.
من جانبها تسعى الصين إلى رفع مكانتها الدولية من خلال المشاركة في الشرق الأوسط. فالحزب الشيوعي يستثمر بشكل متزايد في المملكة العربية السعودية (وبالتالي يساعدها على تحقيق رؤيتها 2030 كذلك). ولذلك فإنّ السلام بين الرياض وطهران أمر مهم جداً بالنسبة لبكين.
بيد أنّ هدف بكين المتمثّل في توسيع نفوذها وعلاقاتها الاقتصادية في منطقة مستقرة يمكن أن يتعارض مع دعم طهران لجماعات الميليشيات، مما يغذّي التوترات الإقليمية. وسيكون على القادة الصينيين مراقبة سلوك إيران بعد الاتفاق السعودي.
ظهور توازن غير مستقر في السياسة الخارجية الإيرانية
أما وكالة نور نيوز، المرتبطة بالمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، فقد شدّدت على أنّ الاتفاق مع السعوديين "لن يغير الاستراتيجيات الرئيسية" لإيران. ويشير هذا إلى أنه سيتوجّب على الرياض الاعتماد على نفوذ الصين في طهران لضمان تنفيذ بنود الاتفاق على أرض الواقع.
من ناحية إن واصلت إيران دعمها للجهات الفاعلة المسلّحة غير الحكومية في الشرق الأوسط، فإنّها تخاطر بإثارة توترات مع الصين وربما تعريض علاقاتها السياسة والاقتصادية مع بكين للخطر. ومن ناحية أخرى فإنّ إضعاف الجمهورية الإسلامية لاستراتيجية "محور المقاومة" الخاصة بها قد يُفقِدُها نفوذها و"عمقها الاستراتيجي" في المنطقة، لتصبح أكثر عرضة للضغوط الخارجية.
يشكّل هذا التوازن غير المستقر تحدّياً خطيراً أمام القيادة الإيرانية. إذ أنّ السعي وراء الطموحات الإقليمية والنفوذ الناتج عنها (من أجل استخدامه ضد الغرب بشكل خاص)، وفي الوقت ذاته توسيع العلاقات مع القوى العظمى غير الغربية، يتطلّب إيجاد توازن دقيق قد يكون له عواقب كبيرة.
في مقابلة -نُشِرت بعد أسبوع واحد فحسب من الاتفاق- أكّد علي الباقري مجدّداً على السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية خلال "الفترة الانتقالية للنظام العالمي"، مشدّداً على ركيزتين أساسيتين: إبرام اتفاقيات طويلة الأجل مع دول مثل الصين وروسيا، إضافة إلى تعزيز "محور الممانعة" في الشرق الأوسط.
ويفرض الاتفاق الأخير مع المملكة العربية السعودية، الذي توسّطت فيه الصين، تحديات أمام هاتين الركيزتين، مما يسلّط الضوء على ظهور توازن غير مستقر في السياسة الخارجية لإيران. ويبقى أن نعرف ما إن كانت السلطات الإيرانية قادرة على تحقيق التوازن عند التعامل مع هذه المعضلة الاستراتيجية الكبرى.
أمين نعيني / علي فتح الله نجاد
ترجمة: يسرى مرعي
حقوق النشر: غلوبال بوليسي جورنال / موقع قنطرة 2023
أمين نعيني طالب دكتوراه ومساعد باحث في معهد ألفريد ديكين للمواطنة والعولمة ADI في جامعة ديكين في ملبورن. كما أنه زميل في مركز الشرق الأوسط والنظام العالمي CMEG.
علي فتح الله نجاد مؤسس ومدير مركز الشرق الأوسط والنظام العالمي CMEG، وهو مؤلّف الدراسة المنشورة مؤخراً "الجمهورية الإسلامية في أزمة وجودية: الحاجة إلى تحوّل نموذجي في سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه إيران" (باريس: معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية، ورقة شايلوت، حزيران/يونيو 2023).