آفاق ضبابية على نهر النيل
ربما اعتقد منظمو فعاليات "أسبوع ألمانيا" في مصر أنّ أوانَ إقامة مثل هذه النشاطات قد حان وخصوصاً في الوقت الراهن بالذات. وسعى المنظمون الألمان بهذا إلى إبراز صورة بلدهم رغم الحالة المضطربة والوضع الحرج اللذين يمر بهما نشاط مؤسسة كونراد أديناور الألمانية (KAS) في مصر حالياً. إذ سلّطت فعالياتهم المقامة بين 17 أبريل/نيسان و5 مايو/أيار 2012 الضوء على تنوع النشاطات الألمانية في أرض النيل. وذلك ليس فقط في العاصمة القاهرة بل أيضا في مدينة الإسكندرية وفي مراكز البلاد السياحية كالأقصر والغردقة والجونة.
وقد نظّمت السفارة الألمانية في القاهرة هذه الفعاليات وصرّحت بأن: " هذه النشاطات هي مؤشر مهم على العلاقات الوثيقة بين شعبَيْ مصر وألمانيا بغض النظر عن الأحداث السياسية الراهنة". وهي تعني بهذا أن العلاقات بين الشعبَيْن هي أكبر بكثير من محاكمة موظفَيْ المؤسسة المتهمَيْن بممارسة أنشطة غير مشروعة تهدد أمن مصر. ومن هذه الفعاليات: عرْضُ موسيقى الريغي من ألمانيا، وافتتاح شركتَيْ سيارات ألمانية من مدينتي ميونخ وشتوتغارت مَعارض لسياراتهما، وإقامة عدد من العَنَفات الهوائية المولِّدة للطاقة الكهربائية ليشاهد الزُّوار تقنياتهاعلى ساحل البحر الأحمر. بالإضافة إلى مشاركة السفير الألماني ميشائيل بوك في برنامج حيّ ومباشر على قناة المحور المصرية مع المذيعة التلفزونية المصرية سالي فؤاد في تحضير الطعام.
اتهامات مُبهَمة ضد مؤسسة كونراد أديناور
تمّ تنظيم كل ذلك بغرض مساعدة المصريين في إدراك أن ألمانيا تُمثّل شيئاً آخر مختلفاً عن الاتهامات الموجهة ضد موظفَيْ المؤسسة الألمانية. إذ كانت صحيفة الأهرام شبه الرسمية أطلقت اتهامات منها أن موظفَيْ مكتب مؤسسة كونراد أديناور في القاهرة كانا يتلقّيان أوامرهما من تل أبيب. مع العلم بأن مقر مكتب المؤسسة في إسرائيل هو في القدس وليس في تل أبيب.
وعندما غادر الألمانيان مصر بكفالة بعد أول يوم من المحاكمة، حدثت مظاهرات ضد قرار المحكمة التي قضَت بالسماح لهما بمغادرة البلاد. وعقب ذلك، قدّم القُضاة المعنيون استقالتهم دون إبداء أية أسباب. ولا أحد يعرف حالياً ما إذا كان سيتم اختيار قضاة جُدُد واسئناف المحاكمة وفق ما تم الإعلان عنه. ويشمل الاتهام أيضاً منظمات أخرى مدافعة عن حقوق الإنسان وحرية التعبير غير مؤسسة كونراد أديناور الألمانية وهي منظمات أمريكية ومنظمات مصرية غير حكومية.
المحامي والخبير الاقتصادي الألماني كيليان بيلتس يعمل لدى شركة الاستشارات القانونية الدولية أميريلَر ويقدم مشوراته القانونية منذ أربع سنوات للمستثمرين الدوليين على نهر النيل، وهو يصف وظيفته ووظيفة زملائه في الدول العربية بأنها "تقديم المشورة القانونية المتخصصة بالأسواق الصعبة". لكنه يرى أن الأجواء الحالية في مصر هي أجواء إيجابية من الناحية المبدئية. ويقول الخبير البالغ من العمر 44 عاماً المنحدر من مدينة توبِنْغِن الألمانية إن الاقتصاد المصري يتقدم إلى الأمام، وإن عدد رجال الأعمال يتزايد منذ بضعة أسابيع وإن هناك عدداً ملحوظاً من المشاريع التجارية المصرية الناشئة عبر الإنترنت.
بداية جديدة في السياسة والاقتصاد؟
ويرى الخبير الألماني أنه بعد التراجُع الذي حدث في البداية نتيجة لسقوط حسني مبارك في فبراير/شباط من العام الماضي، ها هي "مصر تعود إلى سابق عهدها من جديد". لكن ثمة مشاريع كثيرة لا تزال معلقة كما يقول بيلتس. ولا أحد في الوزارات يريد اتخاذ قرارات بشأن هذه المشاريع، كما أن الأنشطة الاقتصادية انحصرت على المستويين المتوسط والمنخفض. ويضيف: "لكن المؤشرات مرتفعة" بشكل إيجابي. غير أن الخبير، الذي أنهى دراسته في كل من مدينتي فرايبورغ وبرلين الألمانيتين، لم يُعلّق على قضية المنظمات غير الحكومية ومؤسسة كونراد. ووصفها بأنها حساسة جدا.
لكنه أبدى استعداداً للتعليق على النظام القضائي في مصر. بيلتس يعرف أرض النيل منذ أوائل التسعينيات من القرن الماضي حينما كان يدرُس الدراسات الإسلامية في الجامعة الأميركية بالقاهرة. وهو يرى أن النظام القضائي لم يتغير كثيراً منذ ذلك الحين. ويصف القضاء المصري بأنه "مستقل في أغلب الحالات"، ولكنه "في حالات كثيرة غير مُجهَّز مثلما ينبغي، كما أنه مُثقَل بالأعباء". وفي الملفات السياسية، السيايون هم الذين كانوا يقررون في الغالب الأعَمّ ضد مَن تُجرَى التحقيقات. وفي المقابل، كانت ثمة ملفات سياسية في عهد مبارك، وهي قضايا أرادت السلطة التنفيذية متابعتها، ولكن المحاكم رفضت ذلك.
وكان واضحاً أن القُضاة لم يخضعوا دَوْماً لإملاءات السياسيين لا سيما في القضايا السياسية. لكن حينما كان القُضاة يتخذون قرارات جريئة لم يكن يتم تنفيذها في كثير من الأحيان. واستقال إثر ذلك عدد من القُضاة المتمرسين بعد شعورهم بالإحباط. لا تزال مصر هي "بلد الفرَح الحزين"، ولم يتغير شيء في ذلك منذ قيام الثورة. فالعديد من الصراعات السياسية المطروحة حالياً أمام المحاكم يتم استغلالها لأغراض سياسية.
من نهر شْبريه إلى نهر النيل
يعيش نحو 10 آلاف ألماني في مصر. ولم يقُم كل الألمان المقيمين في مصر بتسجيل أنفسهم لدى السلطات الألمانية في أرض النيل، لذا فقد يكون عددهم الفعلي أعلى من ذلك بكثير. ولا تزال مقرّات الإقامة الرئيسية للكثيرين منهم مسجلة في ألمانيا. العدد الكبر من الألمان المقيمين في مصر هو من النساء الألمانيات المتزوجات بمصريين أو اللواتي كن متزواجات منهم. وإحداهن الألمانية بَرَكة كارِن التي جذبها الحب إلى أرض النيل. "لقد تحول حبي من غرام برجل إلى عشق لبلد بأكمله"، هذا ما تقوله بركة كارن البالغة من العمر 49 عاما والتي وُلدت بالقرب من مدينة دوسلدورف غرب ألمانيا وعاشت معظم أوقاتها في برلين شرق البلاد. وبعدها انتقلت إلى مصر قبل حوالي 21 عاما، ولم تشعر بأي أسف إلى الآن على انتقالها من نهر شْبريه في برلين إلى نهر النيل في القاهرة.
وكمتأهلة متخصصة في مجال المعالَجة النفسانية، اِلتحقت بركة كارن بمجموعة اختصاصيين في إحدى عيادات حي المهندسين بالقاهرة. وهي تقدم هناك خدمات "إصلاح ذات البين بين الأُسَر". وهي طريقة متوافقة مع عقلية المصريين، كما ترى بركة كارن. وذلك رغم أن المعالجة النفسانية لا يُنظَر إليها بشكل إيجابي بعد في البلدان العربية، حيث لا يميّز إلا القليلون بين الطب النفسي والمعالجة النفسانية.
وبحكم تعاملها في عملها مع جميع أفراد العائلات وسعيها ضمن وظيفتها إلى إيجاد حلول للمشاكل الزوجية والعنف المنزلي ومشاكل النحافة المفرطة لدى النساء نتيجة الفقدان النفسي للشهية، كل ذلك حظي بقبول المجتمع. وهي ترى أن اضطرابات العام الماضي في البلاد لم تغيِّر مصر فقط ولكنها غيَّرت المصريين أيضاً. وتشير إلى أنه بعد سنوات طويلة من الركود يشعر المرء الآن بوجود طاقة حيوية في المجتمع وأن " الثورة كانت ضرورية"، كما تقول بركة كارن.
ومنذ ذلك الحين ازداد إقبال الجمهور على عيادتها النفسانية. وازداد الوعي لدى المواطنين ليس في شؤون التطورات السياسية فقط، وإنما أيضا في مجالات الحياة اليومية، وتتابع كلامها قائلةً: "أصبحت في كل مكان من هذا البلد تسود روح التفاؤل والتغيير". عدم إقبال البعض على المعالجة النفسانية إجمالاً يكمن في في طبيعة الأمور. فالناس يأتون إلى بركة كارن كونها امرأة اعتنقت الإسلام أثناء زواجها وكونها تحمل اسمين أحدهما ألماني والآخر إسلامي. كما أن زبائنها يرون أنها تُجسّد سِمَتَين في الوقت ذاته: إحداهما هي المسافة الاجتماعية التي تبعدها كأجنبية عن السكان المحليين، وهو ما يجعل الناس أكثر ثقة بها من السكان المحليين، والآخرى تتمثل في قربها النفسيّ منهم كمسلمة أصبحت جزءاً من المجتمع المحلي.
الدول الغربية المتواطئة مع مبارك
كيف يمكن إِذَنْ فَهْم ذلك النفور من الأجانب الغربيين؟ فرانك فان دير فيلدِن يفسّر ذلك بـ "الحماسة الوطنية" المنتشرة حالياً في أنحاء البلاد. ويعتقد أن أعضاء حركة الاحتجاج والمعارضين لنظام مبارك السابق يرون أن دعم الدول الغربية وتصفيقها لمبارك هو الذي ساهم في إبقاء الاستبداد جاثماً على السلطة على مدى تلك الفترة الطويلة.
شِهَد فان دير فيلدن، مستشار اللاهوت لدى جماعة ماركوس الكاثوليكية الألمانية في القاهرة، والبالغ من العمر 48 عاما، بعض الاضطرابات في البلاد منذ وصوله من ألمانيا إلى مصر عام 1997، ويقول فرانك وهو بالمناسبة أب لطفلين: "اِعتقدتُ أنني سأصل في ظروف يسود فيها النظام أرجاء البلاد". ولكن بعد ذلك حدثت مجزرة الأقصر التي تسبب فيها فصيل متطرف تابع لما يُسمّى تنظيم الجماعة الإسلامية في مقتل 62 شخصاً بدم بارد، معظمهم من السياح. وبعد أربع سنوات من ذلك واجهت الحكومة المصرية تحدياً جديداً إثر الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول.
الرئيس الألماني الأسبق يوهانّس راو والرئيس المصري السابق مبارك أطلقا مبادرة لتعزيز الحوار وكانت "مثمرة جدا"، بحسب ما يتذكر خبير اللاهوت فان دير فيلدن المنحدر من مدينة دويسبورغ الألمانية، إذ انضمّ المسيحيون المصريون إلى ما يشبه اتفاق مع الرئيس مبارك، عزّز من موقعهم في البلاد.
وتحول هذا الحوار من حوار بين الأديان إلى حوار وطني. لذا فإن الأقباط، الذين يشكلون حوالي 10 في المئة من المصريين، لم يأتِ قلقهم من فراغ، بشأن مَن سيحكم مصر بعد مبارك.
ولكن المسلمين أيضا لا يشعرون بالاستقرار حالياً، و"لا أحد يعرف ما سيحدث"، كما يقول فان دير فيلدن، الذي يرى أن احتمالات النزاع في الوقت الحاضر تكمن في الصراع بين الليبراليين والعلمانيين والمتدينين، أكثر منها بين المسيحيين والمسلمين. ويتوقع أن "الحوار الداخلي بين المسلمين أنفسهم هو ما ستَتّسِم به النقاشات" في البلاد. ويتنبّأ بأنه لن يكون هناك على الأرجح أي حظر للملابس الخفيفة كالبيكيني على الأجنبيات في مصر. ولكنه يرى بأنه سيتم التحقق بعناية من "عدم وجود نساء مصريات مستلقيات إلى جانب السائحات شبه العاريات على الشاطئ".
بيرغيت سفينسون
ترجمة: علي المخلافي
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012