إرث معاهدة لوزان التي أسست تركيا الحديثة

أكتوبر / تشرين الاول 1922: بعد الانتصار على اليونان يهتف الأتراك بهتافات احتفالية في مدينة سميرنا (اسمها إزمير حاليا) ومعهم علم تركي ضخم.
أكتوبر / تشرين الاول 1922: بعد الانتصار على اليونان يهتف الأتراك بهتافات احتفالية في مدينة سميرنا (اسمها إزمير حاليا) ومعهم علم تركي ضخم.

معاهدة لوزان موضوع جدل سياسي وأساطير مؤامرة حتى بعد مرور 100 عام على توقيعها. فهل هي انتصار أم استسلام وما إرثها ودورها في سياسة تركيا الداخلية والخارجية الحالية؟ تحليل يشار آيدين لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: يشار آيدين

تحيط بمعاهدة لوزان للسلام العديد من أساطير المؤامرة. وبحسب قصة المؤامرة "لام23" -التي تشير إلى لوزان 23- فمن المفترض انتهاء صلاحية البنود الإضافية السرية لهذه المعاهدة في الرابع والعشرين من تمُّوز/يوليو 2023. بعد ذلك -مثلما تقول هذه الرواية- من شأن تركيا أخيرًا استعادة سيادتها الكاملة لتكون قادرة على استغلال ثرواتها الطبيعية وموادها الخام من دون عوائق وبالتالي تحقيق ازدهار عظيم.

وهذا مع أنَّ معاهدة لوزان بالذات هي التي كانت ألغت الامتيازات التي ضمنت للقوى العظمى حقوقًا اقتصادية خاصة ولمواطنيها حقوقًا خارج حدودها الإقليمية. ومن خلال منح الأقليات في تركيا الجنسية وحقوق المواطنة التركية اِلْتَغَت بذلك ذرائع القوى الأوروبية الكبرى وامتيازاتها المتعلقة بالتدخُّل في تركيا.

ومعاهدة لوزان للسلام تُعتَبَر في الواقع بمثابة حجر الأساس الذي قامت عليه الجمهورية التركية. فهذه المعاهدة اعترفت بتركيا كدولة مستقلة ورسَّخت وجود الدولة التركية وفقًا للقانون الدولي.

سلام لم يُفرَض على الأتراك

وكذلك حصلت تركيا بمعاهدة لوزان للسلام على استقلالها الاقتصادي. فمن خلال هذه المعاهدة تم تأجيل سداد جزء من ديون الدولة العثمانية حتى عام 1954 بعد أن انتقلت إلى الدولة التركية. وقد منحت هذه الفترة الطويلة الدولة مساحة مالية كافية من أجل الاستثمار في الحملة التعليمية والإصلاحات الثقافية والتصنيع.

 

تم التوقيع على معاهدة لوزان في 24 يوليو / تموز 1923 في لوزان بسويسرا. كانت بمثابة ولادة اليونان الحديثة وتركيا الحديثة.  In schweizerischen Lausanne wurde am 24.07.1923 der Vertrag von Lausanne geschlossen. Er markierte die Geburt des modernen Griechenland und der modernen Türkei; Foto: 91050/United Archives/TopFoto/picture alliance
تم توقيع معاهدة لوزان للسلام في عام 1923 وهي في الواقع بمثابة حجر الأساس الذي قامت عليه الجمهورية التركية. فهذه المعاهدة اعترفت بتركيا كدولة مستقلة ورسَّخت وجود الدولة التركية وفقًا للقانون الدولي. وقد مهَّدت الطريق لإلغاء السلطنة والخلافة العثمانية ومنحت مصطفى كمال باشا الفرصة لتركيز اهتمامه على السياسة الداخلية وإجراء إصلاحات هيكلية شاملة.

 

وتمكَّنت الحكومة التركية من اتباع سياسة اقتصادية تطابقت مع أهدافها التنموية. وقد حقَّق في لوزان الوفدُ التركي بقيادة عصمت إينونو سلامًا مستقرًا لم يكن مفروضًا على الأتراك، فعلى العكس من جميع "معاهدات السلام" الأخرى المبرمة بعد الحرب العالمية الأولى -والتي تم إملاء شروطها على الأطراف المهزومة- كانت معاهدة لوزان نتيجة مفاوضات.

ولكن مع ذلك عندما تحوم أساطير نظريات المؤامرة حول هذه المعاهدة فإنَّ هذه الأساطير تعمل على صرف الانتباه عن المصاعب الاقتصادية والأزمات السياسية الحالية. وهي تُعوِّض التنافر المعرفي الناشئ عن التوتُّر بين الرواية التي تروِّج لها الحكومة حول تركيا القوية وبين المشكلات الاقتصادية الهائلة الموجودة في الواقع.

وفي هذا الصدد يقول سليم كورو -المحلل في معهد أبحاث السياسة الخارجية في الولايات المتحدة الأمريكية- مفسِّرًا هذه الرواية إنَّ أسطورة المؤامرة "لام23" تمنح الناس الأمل المفترض في اللحظة التي تنفك فيها العقدة أخيرًا ويتحسَّن كلُّ شيء.

معركة على سيادة التفسير

ومعاهدة لوزان للسلام تعتبر أيضًا أداة في معركة على سيادة التفسير الصحيح لتاريخ تركيا الحديثة. إذ يربط مثلًا الإسلاميون والمحافظون المتطرِّفون المعاهدة بانهيار الدولة العثمانية وبخسائر إقليمية وبالاستسلام للغرب. وهم يقارنون الرواية التأسيسية لجمهورية تركيا برواية الانهيار.

لقد كان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أوَّل صانع قرار رفيع المستوى يستهدف معاهدة لوزان للسلام، وذلك من خلال انتقاده المعاهدة في وقت تتزايد فيه التوتُّرات مع اليونان بوصفها أنَّها معاهدة غير عادلة وتحميلها المسؤولية عن ضعف تركيا مقابل الغرب.

ودعا إردوغان إلى النظر في الحدود مع اليونان المنصوص عليها في معاهدة لوزان وطالب بعدة جزر تقع في بحر إيجة بحجة أنَّ اليونان -بحسب تعبيره- تدوس المعاهدة بأقدامها من خلال عسكرتها هذه الجزر. ومع ذلك فقد اقتصر انتقامه على رمزية سياسية: حيث تمت إعادة تخصيص متحف آيا صوفيا الشهير في إسطنبول وتحويله إلى مسجد في يوم الرابع والعشرين من تمُّوز/يوليو 2020، أي في الذكرى السنوية لتوقيع معاهدة لوزان.

غير أنَّ معاهدة لوزان كانت تختلف كلَّ الاختلاف عن أن تكون وثيقة إذلال فَرضت على تركيا قيودًا في سياستها الداخلية والخارجية.

الطريق إلى معاهدة لوزان

 

 

 

رفض أعضاء جمعية تركيا الفتاة معاهدة سِيفْر لعام 1920 معتبرين أنها "سلام مفروض".  Der von den Jungtürken als «Diktatfriede» geschmähte Vertrag von Sèvres 1920 sah eine wesentlich kleinere Türkei vor, als sie es nach 1923 tatsächlich wurde. Foto: Wikimedia Commons
رفض أعضاء جمعية تركيا الفتاة معاهدة سِيفْر لعام 1920 معتبرين أنها "سلام مفروض"، وكانت تنصّ على تحديد تركيا ضمن حدود أصغر بكثير مما أصبحت عليه حدودها في الواقع بعد عام 1923. ظلت في معاهدة لوزان 1923 الترتيبات واللوائح المتعلقة بشبه الجزيرة العربية والشرق الأوسط كما هي من دون تغيير. وتمكَّنت تركيا من مراجعة جميع بنود الأحكام الإقليمية الأخرى في معاهدة سيفر لعام 1920 وتعديلها لصالحها - وبالتالي فإنَّ تنازلها عن مناطق لصالح أرمينيا أو الأكراد لم يعد مطروحًا.

 

دخلت الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى في عام 1914 إلى جانب دول المحور ألمانيا والنمسا والمجر وإيطاليا، وطلبت الهدنة في الثلاثين من تشرين الأوَّل/أكتوبر 1918. وكانت البلاد قد تحوَّلت إلئ دمار وخراب وكانت العاصمة إسطنبول محتلة من قِبَل الحلفاء وكانت الدول المجاورة والقوى الكبرى تتصارع على بقايا الدولة العثمانية.

واضطرت في العاشر من آب/أغسطس 1920 الحكومةُ العثمانية إلى قبول سلام تم فرضه عليها وتخلت من خلاله عن سيادتها على أراضي الدولة المتبقِّية. وكان هدف الحلفاء تدمير الدولة العثمانية بشكل تام. "تشمل الأهداف السامية لهذه الحرب إخراج الدولة العثمانية من أوروبا، وهي غريبة جدًا عن الحضارة الغربية"، هكذا صاغ رئيس الوزراء الفرنسي ووزير خارجية فرنسا أريستيد برياند هدف الحرب في عام 1917.

ولكن تشكَّلت بسرعة حركة مقاومة وطنية أحبطت خطط الحلفاء لتقسيم تركيا. وتمكَّنت في شهر أيلول/سبتمبر 1921 قوَّات أنقرة بقيادة الجنرال مصطفى كمال باشا من وقف التقدُّم اليوناني في وسط الأناضول بشكل نهائي.

وفي الصيف التالي انتقل مصطفى كمال إلى الهجوم وطرد القوَّات اليونانية المهزومة. وقد دخلت في التاسع من أيلول/سبتمبر 1922 الوحدات التركية إلى إزمير. وأثبتت بذلك الحكومة في أنقرة أنَّ القوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى لا يمكنها أن تفعل ما تشاء في داخل تركيا.

الجمهورية والعلمانية والسيادة

ووثَّقت معاهدة لوزان للسلام النصر العسكري التركي وفقًا للقانون الدولي وقد وضعت حجر الأساس لجمهورية تركيا. وكذلك مهَّدت الطريق لإلغاء السلطنة والخلافة العثمانية ومنحت مصطفى كمال باشا الفرصة لتركيز اهتمامه على السياسة الداخلية وإجراء إصلاحات هيكلية شاملة.

أمَّا الترتيبات واللوائح المتعلقة بشبه الجزيرة العربية والشرق الأوسط فقد ظلت كما هي من دون تغيير. وتمكَّنت تركيا من مراجعة جميع بنود الأحكام الإقليمية الأخرى في معاهدة سِيفْر لعام 1920 وتعديلها لصالحها - وبالتالي فإنَّ تنازلها عن مناطق لصالح أرمينيا أو الأكراد لم يعد مطروحًا.

ولكن مع ذلك فقد كان لا بد للحكومة التركية من أنَّ تتجرَّع المرارة أيضًا. فقد حصل مثلًا البريطانيون على اعتراف رسمي بحكمهم قبرص وظل وضع شمال العراق غير واضح وسقطت جزر بحر إيجة في يد اليونان وظلت سلسلة جزر دوديكانيز في شرق بحر إيجة تحت الاحتلال الإيطالي. وتم تحويل مضيقي البوسفور والدردنيل التركيين إلى منطقتين منزوعتي السلاح.

 

 

ومعاهدة لوزان للسلام هي تذكير بمعاهدة سِيفْر التي أثارت لدى الأتراك صدمة عميقة؛ لا تزال تركيا تعاني من متلازمة سيفر ولا يزال الخوف من التقسيم من خلال المؤامرات والتدخُّلات الأجنبية منتشرًا بين المواطنين الأتراك.

ينظر صانعو القرار والدبلوماسيون في تركيا إلى معاهدة لوزان باعتبارها تنبيه إلى توخي الحذر الشديد في السياسة الدولية والتعامل مع الغرب بنوع من الريبة والشك. وكانت الدروس المتخذة من معاهدة لوزان للسلام مرجعًا في تعامل الحكومة التركية خلال الحرب العالمية الثانية عندما التزمت تركيا الحياد ولم تكن طرفًا في الحرب - وما تزال كذلك حتى يومنا هذا.

وباختصار يمكن القول إنَّ معاهدة لوزان للسلام مثَّلت انتصارًا على الإمبريالية والاستعمار الأوروبيين وخلقت الأساس لتأسيس الجمهورية التركية وبناء الدولة وتنفيذ إصلاحات أتاتورك الهيكلية. ومعاهدة لوزان ترمز لروح الجمهورية والعلمانية والسيادة الوطنية - وضدَّ النزعة الانتقامية والتوسُّع الإقليمي.

 

 

يشار آيدين

ترجمة: رائد الباش

حقوق النشر: موقع قنطرة 2023

ar.Qantara.de

 

الدكتور يشار آيدين باحث في مركز الدراسات التركية التطبيقية CATS لدى المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية SWP، ويُدرِّس أيضًا في جامعة هامبورغ البروتستانتية للعلوم التطبيقية. وتشمل مجالات بحثه السياسة الدولية والجيوسياسية والدراسات التركية والسياسة الخارجية الألمانية والهجرة والقومية والعنصرية. ويكتب بالإضافة إلى المقالات التخصُّصية تعليقات للصحف التركية والألمانية. صدر له كتابان: "تركيا" 2017 وَ "الذئاب الرمادية" 2022.