"قطع الرؤوس أرحم من التعذيب اليومي في أقبية نظام الأسد"
مازن درويش رجل متواضع، صوته منخفض وإيماءاته حذرة، إلا أنه كان يشعل سجائره بثقة كبيرة، سيجارة تلو الآخرى، إلى أن يحجب الدخان الرؤية في كلتا غرفتي مركزه الإعلامي الكائنتين في الطابق السفلي.
كان يجب على كلِّ مَنْ كان يريد الذهاب إليه أن يعرف بالضبط إلى أين عليه أن يذهب، لأنَّه لم يكن هناك أي شيء يشير في المجمع السكني غير الملفت للانتباه في أحد الشوارع الجانبية الهادئة داخل دمشق إلى وجود "المركز السوري للإعلام وحرية التعبير" - والذي أسَّسه مازن درويش. طيلة أعوام كان المحامي مازن درويش يهتم هناك بالمشهد الإعلامي السوري ويقوم بإعداد أبحاث ودراسات وبتنظيم دورات تدريب تأهيلية وبتوثيق تجاوزات النظام.
ومثلما كانت الحال تقريبًا مع جميع المنظمات غير الحكومية السورية، كذلك كان هذا المركز الإعلامي يعمل من دون ترخيص رسمي. وكان ذلك مجازفة مستمرة، مثلما أوضح مازن درويش في عام 2009. وذلك لأنَّ أجهزة المخابرات لم تكن تخشى ما يحدث في الواقع، بل كانت تخشى الفكر الحر، بحسب تعبير الصحفي مازن درويش الذي قال في تلك الأيَّام: "عندما يشعرون أنَّ هناك رأيًا آخر مستقلاً، لا يطابق الرواية الرسمية، يصبحون عصبيين، لأنَّ فكرة الحرية تخيفهم".
دعوة مخنوقة إلى الحرية
ولذلك فإنَّ هناك أشخاصًا مثل مازن درويش - محامين وصحفيين وناشطين - ملاحقين من النظام. اشتدت ملاحقة النظام للناشطين أكثر عندما اندلعت الثورة في ربيع عام 2011 وتحوَّلت فكرة الحرية إلى دعوة إلى الحرية انطلقت من حناجر مئات الآلاف من السوريين. وبعد أقل من عام، قامت المخابرات في شهر شباط/فبراير 2012 بتفتيش غرفتي مركزه الإعلامي في الطابق السفلي واعتقلت مازن درويش وعددًا من زملائه.
وفي شهر شباط/فبراير 2013 بدأت محاكمة مازن درويش مع اثنين من زملائه، هما حسين غرير وهاني الزيتاني، بتهمة "دعم نشاطات إرهابية" - وهم مهدَّدون في أسوأ الأحوال بعقوبة الإعدام. ولكن في الواقع يتم مرارًا وتكرارًا تأجيل النطق بالحكم، وكذلك تم نقل مازن درويش في مطلع عام 2015 من سجن عدرا المركزي في دمشق إلى سجن قريب من حمص. ومع ذلك فإنَّ هذا الأب البالغ من العمر أربعين عامًا لا يزال محظوظًا - لأنَّ أهله يعرفون أين هو، ولأنَّ العديد من المنظمات الدولية تعمل من أجله.
وفي المقابل فإنَّ معظم سجناء نظام الأسد يوصفون بالـ "مفقودين" - وهم أشخاص يتم اعتقالهم على الحواجز ومعابر الحدود أو أثناء مداهمات المنازل، ولا يُعرف أي شيء حول مصيرهم، مثلما يقول المحامي السوري "نون"، الذي يقدِّر عددهم بنحو 150 ألف مفقود.
قبل الثورة كان المحامي "نون" يدافع طيلة أعوام عن سجناء سياسيين، والآن غادر البلاد، غير أنَّه لا يريد الكشف عن اسمه بسبب خوفه على أقاربه في دمشق. يقول المحامي نون متذكِّرًا: "في السابق كان يتم اعتقال شخص ما وكنا نعرف أنَّه في يوم ما سيعود". ولكن اليوم صار الاعتقال يعني الموت، مثلما يقول المحامي نون.
في أقبية التعذيب لدى النظام
يوجد على الأقل 215 ألف مواطن سوري في سجون نظام الأسد. ذكرت هذا العدد "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" SNHR، وهي منظمة غير حكومية مستقلة وتعمل بطريقة مهنية، ويتم استخدام معلوماتها من قبل الأمم المتَّحدة أيضًا. تعتبر ظروف الاعتقال سيئة للغاية في مراكز التعذيب السرية في أقبية المخابرات المختلفة، والتي لا أحد يستطيع الوصول إليها، مثلما يقول المحامي نون.
يقوم المحامي نون بالتعاون مع عدد من الزملاء منذ عدة أعوام بتوثيق الأوضاع في السجون السورية. وحول وضع السجون يقول: "في زنزانة مساحتها أربعة أمتار بأربعة أمتار يتم حشر نحو 100 سجين. حيث لا يمكنهم لا القعود ولا الجلوس، بل يضطرون أحيانًا إلى الوقوف طيلة أسابيع. والسجناء المحظوظون يمكنهم الاتكاء بظهورهم على الجدران". السجناء في سوريا محطمون نفسيًا وجسديًا، ومنهم مَنْ ينهارون ومَنْ يفقدون سيطرتهم على أعصابهم، مثلما يقول المحامي نون: "يوجد في سجون الأسد سجناء يضربون برؤوسهم الجدار حتى الموت".
من بين سجون النظام الكثيرة يوجد في دمشق مركز تعذيب يشتهر بسمعة سيئة للغاية، هو سجن المخابرات الجوية في منطقة المزة. وفي هذا السجن قضى طالب الصحافة عروة في بداية صيف 2011 عدة أسابيع. وذلك بعد أن قام بتصوير المظاهرات ورصاص الجيش وقد تم اعتقاله في شهر أيَّار/مايو 2011 وبحوزته 62 تسجيل فيديو محفوظة على جهاز الكمبيوتر الخاص به.
يقول هذا الشاب متذكِّرًا: "كانوا يريدون أن يعرفوا لماذا أقوم بتصوير الاحتجاجات، ومَنْ يقف وراء ذلك، ومَنْ يموِّلني - هذه الأسئلة المعتادة. ثم زعموا أنَّني جاسوس للغرب". تمت إدانة عروة بتهمة "محاربة الدستور بوسائل عسكرية"، لكن نظرًا إلى كون السجون مكتظة فقد تم الإفراج عنه مع وقف التنفيذ. وهذا الشاب - الذي كان يبلغ عمره حينها 25 عامًا - اختفى عن الأنظار وهرب إلى العاصمة اللبنانية بيروت.
"قطع الرؤوس أكثر رحمة"
يصف عروة الحياة اليومية في سجن المخابرات الجوية في المزة كعقوبة بحدِّ ذاتها، ويقول: "كان السجن ضيقًا، ونادرًا ما كنا نحصل على شيء لنأكله، أمَّا مَنْ كان مضطرًا للذهاب إلى المرحاض فقد كان يتم ضربه". غير أنَّ أكثر ما لا يمكن احتماله هي الأصوات المستخدمة للتعذيب المستمر، التي كانوا يسمعونها على مدار الأربع وعشرين ساعة، مثلما يقول طالب الصحافة عروة: "كان هذا يقضي علينا، وكان أسوأ بكثير من التعذيب الجسدي - مثل الصعقات الكهربائية والضرب بالأحزمة الجلدية أو الضرب حتى فقدان الوعي".
يبلغ متوسط عدد الأشخاص الذين يموتون تحت التعذيب الممنهج لدى نظام الأسد سبعة سوريين في كلِّ يوم. لقد وثَّقت "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" في الأعوام الأربعة الماضية 11 ألفًا و427 حالة وفاة مثل هذه الحالات. ومع ذلك فإنَّ التعذيب لا يمثِّل سوى سببٍ واحدٍ فقط من عدة أسباب للوفاة في سجون الأسد. "معظم السجناء يموتون لأنَّهم لا يحصلون على العلاج الطبي"، مثلما يقول محامي حقوق الإنسان نون.
كما أنَّهم يموتون بسبب الإسهال والجفاف الناتج عنه، والانفلونزا التي تتحوَّل إلى التهاب رئوي، وبسبب الربو ومشكلات في القلب. أو بسبب إصابة صغيرة تلتهب وتتحوَّل إلى غرغرينا. إذ لا يوجد هناك حتى ولو قرص باراسيتامول، مثلما يقول المحامي نون. وعندما يطرق سجينٌ مريضٌ على الباب، يكون الجواب: "أخبرونا عندما يموت حتى نأخذه".
يبدو أنَّ نظام الأسد يقوم على وجه التحديد بتسجيل بيانات حول الموتى. وذلك لأنَّ الأحد عشر ألف جثة، التي صوَّرها - بتكليف من النظام - المصوِّر العسكري المعروف باسمه الحركي "قيصر"، تحمل جميعها أرقامًا. جثث هزيلة ضعيفة تظهر عليها علامات التعذيب.
لقد تم التحقُّق على يدّ خبراء دوليين من صحة هذه الصور التي تم تهريبها إلى خارج سوريا وتم عرضها قبل فترة غير بعيدة في مقر هيئة الأمم المتَّحدة في نيويورك. وفي هذه الأثناء أصبحت هذه الصور متاحة على شبكة الإنترنت للسوريين الذين يبحثون عن أقربائهم ويستطيعون على الأقل بمساعدة هذه الصور الحصول على الخبر اليقين. وبالإضافة إلى ذلك من الممكن استخدام هذه الصور كدليل في حال رفع قضية ضدّ النظام أمام المحكمة الجنائية الدولية.
يطالب برفع مثل هذه القضية ضدَّ بشار الأسد وقيادته أيضًا المحامي نون، الذي قضى شخصيًا قبل الحرب عدة أعوام في السجن. وضمن هذا السياق يقول هذا المحامي إنَّ "قطع الرؤوس من قبل داعش موت أكثر رحمة من الموت ببطء طيلة أشهر في أقبية التعذيب". ويضيف أنَّ السجناء يشتهون الموت في كلِّ يوم - لكي لا يعودوا مجبرين على المعاناة أكثر وليهربوا من هذه الوحشية الفظيعة، التي لا يحتملها أي إنسان.
كريستين هيلبيرغ
ترجمة: رائد الباش