رُحَّل المغرب...حياة على الفطرة في الجبال
تعيش لالّا عائشة مع ابنتها وزوجها وبعض أحفادها على بُعد ساعتين مشياً على الأقدام، إذا أخذنا الطريق من قرية "بوتغرار"، جنوب شرق المغرب، إلى الجبال المجاورة لها. الحياة قاسية وحارقة في مناخ جافّ شبه صحراوي لا تقلّ درجة حرارته عن الـ 38 درجة مئوية، لكن على الرحّل أن يصعدوا إلى الجبال مع بدء موسم الربيع ويمكثوا فيها مهما كانت الظروف. بخلاف نمط الرحّل في العيش الذين ينتقلون بحسب وفرة مواسم الرعي من مكان لآخر، اختارت عائلة عائشة المكونة من زوجها وأحد عشر ابناً وابنة العيش في الكهوف منذ عشرين سنة رغم انتماء عائلتها وعائلة زوجها لفئة الرّحل أيضاً. كما اختار بعض أبنائها وبناتها المتزوجين الاستقرار في قرى مجاورة. ومع استقرار الجيل الحديث وتملصه من نمط الرحل وحركتهم بدأت منظومتهم- أي الرّحل- تتغير تدريجياً مع محافظة أبناء عائشة على زيارتها باستمرار في كهفها.
على طول الطريق ووصولاً إلى كهفين متجاورين محفورين بعمق الصخر، كانت عائلة عائشة تخصص أحدهما كحظيرة للماعز والآخر كسكن لها ومن أمام كهوفها تمتد مساحات شاسعة من مناطق الرعي المقفرة: حصى وجبال وحرارة قائظة، ولكنها مناطق آمنة وليست مخيفة لدرجة أن تلك المناطق يفضلها السُيّاح لقضاء ليالٍ في الطبيعة خلال موسم الربيع أو الصيف، وتظلّ أيضا المناطق المفضلة لدى الرُحّل لتوفرها على الكلأ الطبيعي المطلوب لماعزهم الذي باستطاعته تسلُق أكثر المناطق خطورة. "من لا يملك إمكانيات يستقر بمكانه في الكهوف" تقول عائشة لـموقع قنطرة: "نرحل بحثاً عن مواطن الأكل للماشية ومن لا يتوفر على الإمكانيات يستقر بمكانه" ورغم استقرارهم بالكهف لكنّهم "يرحلون بين فترة وأخرى" وفق عائشة، "يجب أن نرعى الغنم". تنصبّ حياة الرّحل على البحث عن مواطن الكلأ على حساب مسائل أهمّ مثل دراسة الأطفال أو تطبيبهم أو قربهم من المراكز الحضارية، وذلك بحكم قناعات الرّحل الصعبة أحيانا وغير المفهومة لغيرهم، وقد تعلّمهم الطبيعة الجبلية صعوبة المراس والتعامل، لطفاء أحيانا، قاسون أحياناً أخرى وجميعهم يتحدثون الأمازيغية. يقول باحث الدكتوراه في موضوع الرُحّل، يوسف عوباسين، لموقع قنطرة: "وفرّت الحكومة في السنوات الأخيرة مدارس للرحل على شكل خيم، لكنّ التجربة لم تفلح"، ويبقى المُترحلّ متنقلاً ومتحركاً في مناطق جغرافية مختلفة في الجنوب الشرقي للمغرب، وهم ثلاث قبائل كبيرة، قبيلة آيت عطّا، وقبيلة إمكون، وقبيلة إمغران.
الماء والحطب مسؤولية المرأة وفرصة تعليم الذكور أكبر لا يحتاج الرُّحل إلى السوق يومياً، نادراً ما يذهبون إليه في حال باعوا أغناماً أو بعض البهائم، ثم يعودون لخيمهم مع حاجاتهم الضرورية مثل الشاي والسكر وغيرها، وينصرفون للتجارة في بيع الأغنام أو الصوف أو الزرابي إذا كانت مواردهم جيدة، أمّا توفير الماء والحطب فهي من مسؤولية المرأة التي تقطع مسافات طويلة بحثاً لتوفيرهما، وتتولى رعي الماعز وحلبه أيضاً. تقول عائشة: "أحياناً نشقى (نتعب) لكننّا ألفنا الأمر، نحن بالعادة نساء لا يقرأن ونتربّى على حياة معينة، بينما تتاح فرصة التعليم بشكل أكبر للذكور"، وتضيف: "يبعد الماء مسافة ليست ببعيدة، ربما نذهب 4 مرات للحصول عليه حيث نحتاجه لسقاية لطعامنا ولسقاية مواليد الماعز الصغيرة أيضاً". وقد تسير عائشة وحدها إلى العين أو السوق دون الحاجة للحماية، وهي المسؤولة عن تخزين حاجات الشتاء وإنتاج الزرابي أو "الحنبل" وبيعهم عند الضرورة. وفي حالة مواجهة المخاطر مثل الأمراض شتاء أو صيفاً قد يُحمَل المريض فوق الحمار وصولاً إلى أقرب مركز صحي، إلّا أن عائشة "تحمد الله بأن عائلتها لم يصبها أي مكروه حتى اللحظة". زواج وفق الإرادة
في مجتمع الرّحل تُزوَّج الفتاة وفق رغبتها على الموافقة، حيث يطرق العريس الباب ويطلبون الفتاة، وعادة ما يكون من نفس بيئتها أو من القرى المجاورة. إذا وافقت تقيم العائلة حفلاً تدعو له أقاربها ومعارفها وتذبح الماعز أو إذا لم توافق فهي ليست مجبرة على شيء، حسمت ذلك عائشة بحزم قائلةً: "أوهو" بالأمازيغية -وتعني "لا" بالعربية- وهي تقول: "لا تتزوج الفتيات هنا بالغصب". وأصبحت فتيات عائلات "الرحل" يفضلن الاستقرار بالقرى، لذلك أغلب بنات عائشة يعشن في قرية "بوتغرار"، وظلّت "خيرة" الفتاة الوحيدة التي تساعد والدتها في الكهف، لم تذهب بدورها للمدرسة، وكانت تحلب الماعز عند وصول موقع قنطرة إلى المكان. إلى جانب خيرة، كان يجلس الحفيد إبراهيم ويخيطان أكياساً بلاستيكية، أحدهما يمسك طرف الكيس والآخر الإبرة والخيط وأب العائلة كان ممد القدمين، مضطجعاً، سألنا إبراهيم لماذا ترك مدرسته، أجاب: "أنهكتني القراءة وخرجت من الصفّ التاسع ولم تعد حياة القرية تعجبني". تعلَّم الفتى في مدرسة في قرية "آيت حماد" قريبة منه، وهو الآخر هجر حياة القرية عند والديه وذهب عند جدته عائشة يساعدها في شؤونها اليومية. يُعرّف عوباسين ظاهرة الرُّحل كالتالي: "نمط عيش مرتبط بمجال جغرافي، ويقوم تنظيم حياتهم مع محيطهم البيئي على عدة أسس وأعراف خاصة بهم، فهو مجال غير مقسّم بطريقة قانونية، بل يمكن ترميز حدود كل منطقة رعوية تعود للقبائل المترحلة بشجرة ما أو حجارة". يرّجح عوباسين أصول الرّحل إلى سكان المغرب الأصليين وللقبائل الجنوب-شرقية تحديداً التي قسمت المنطقة الجغرافية وفق عوامل الترحال.
انطلت صبغة الترحال على الإنسان الذي عاش في شمال إفريقيا قبل وبعد الميلاد، وسُميّ الرحل بـ"النوميديين" (Nomades)، وهم كثيرو التنقل بحركة ومستمرة في المنطقة (المجال) ضماناً للعيش، والحرص على ضبط مجالاتهم الطبيعية وحدود أوطانهم وحمايتها، يقول عوباسين: "يتواجد الرحل حالياً في مناطق "الانتجاع" أي التي تتوفر على موارد طبيعية للماعز، يصعدون جبال مكون M’Goun صيفاً حيث الحرارة معتدلة، ويهبطون إلى السهول شتاءً ويرحلون إلى مناطق تنغير وزاكورة وسوس، حيث الرطوبة والحرارة المرتفعة". مراقبة مجال الرُّحَل الرعوي يوعز الرحل إلى شخص ما مراقبة مجالهم الرعوي ويُسمّى بـ "اوكدال"، وتنتهي النزاعات بين الرحل بطريقة ودية وفق أعراف القبائل ويتولّى الصلح الكبار في السنّ ويتدخل فيها العامل الديني والروحي، ولفترة طويلة ظلَّت نزاعاتهم محصورة بأعرافهم، ومع التحوُّل الذي تشهده المنظومة الرعوية بدأ الرُّحَل يحتكمون في المحاكم القانونية. أما حول أعراف الزواج فيقول عوباسين: "يعتمدون معايير معينة وقد يكون الزواج مبكِّرا بين القبائل والمبادرة من الزواج تأتي من الآباء، وهو زواج نجاح يخلو من الخلافات، فقد ترّبى الجميع على نمط حياة واحد، ويتشاركون في فهمه". ويربط عوباسين تملُّص الجيل الحديث من نمط الرحل إلى عامل المناخ والجفاف وقلة مصادر رعي الأغنام، وبالتالي تزداد حياتهم صعوبة، وكذلك احتكاك الأطفال بالحياة الحضرية، يقول: "يعتبر موسم الورد فرصة الأولاد للاحتكاك بالآخرين وبطريقة عيشهم واقتنائهم للتكنولوجيا، وهو ما يشجعهم على مغادرة الخيم والعمل في قلعة مكونة أو الهجرة إلى المدن والاستقرار بها والعودة إلى عائلاتهم بالمناسبات الرسمية أو على فترات طويلة، وتضطرهم الحياة الجديدة-المختلفة إلى أن تجعلهم مستقلين بذاتهم".
حيث شبكات الاتصال لا تخترق صخر الكهوف وجدنا على باب الكهف هواتف معلّقة في بعض السلال، الأفضل أن توضع على الباب وإلّا فإن شبكات الاتصال لا تخترق صخر الكهوف إلى الداخل. قريباً من الباب وهو عبارة عن ستارة؛ تضع عائشة مذياعاً، لم نعلم أي إذاعة أو لغة يستمعون لها ويفهمونها، أما الطفل الصغير عبد الرزاق عندما شاهد الكاميرا أراد سريعاً حملها وتجريب أزرارها ورؤية الصور، حيث لا يوجد في كهف جدته تلفاز، ويقضي معظم وقته لاعباً بالتراب أو مع الماعز صديقه الوحيد. "اهتمام السلطات المحلية بالمنظومة الرعوية جاء بعدما بدأ الرّحل يشترون أراضي في المناطق الحضرية ويستقرّون بها ويتخلون عن حياتهم السابقة، وكان على البلديات المنتخبة أن توفِّر لهم المدارس أو إنشاء ما يُسمّى بـ"مدارس الرحل" وهي عبارة عن خيم لكن التجربة فشلت"، وفق عوباسين. منحت الطبيعة القاسية من حولهم أطباعاً خاصة يتسم بها الرّحل، يوضح عوباسين: "حياتهم الاجتماعية الصعبة جعلتهم أناساً محافظين، وعلاقتهم بمحيطهم خاصة، يخافون الغريب لأنّ المجال الرعوي فيه صراعات، وعندما يعلم الغريب أسرارك سيسهل عليه التحكم بك، لكنّ المنظومة الرعوية فرضت عليهم السرية والتكتم حفاظاً على أنفسهم من الأعداء واعتداءاتهم".
عرفت العقود الأخيرة تحولات مهمة وتراجعاً ملحوظاً في حياة البداوة والترحال، فقد تقلصت التنقلات الشتوية كثيراً، كما تقلصت أعداد المواشي خاصة في السفوح الجنوبية للأطلس الكبير-الأوسط لأسباب اقتصادية واجتماعية، أهمها ضغط النمو الديموغرافي وانتشار الملكية الخاصة، وصارت الأسر تفضل الإقامة في مراكز حضرية توفر الخدمات الضرورية. الرحل يحمون التقاليد يقول المثل المغربي الدارج "اللي ما جال ما عرف حق الرجال"، فالرحل أكثر الناس دراية بمشاقّ ومصاعب الجَوَلان، وأكثر احتكاكاً بمختلف القبائل والإثنيات، وأكثر تأثرا وتفاعلا بعادات وتقاليد وأعراف الآخرين، لذلك هم أكثر الناس ضيافة وكرماً، ولهم أشعار وحكم كثيرة في هذا الشأن. ويعتبر عدم استقبال الضيف علامة شؤم بالنسبة للرحل يستوجب معها تغيير مكان الاستقرار "امازير"، لأنّ من عاداتهم السخاء والكرم حتى في ظروف صعبة. وصال الشيخ - قلعة مكونة - المغرب حقوق النشر: موقع قنطرة 2018ar.Qantara.de