رسول السلام حامل رسالة المحبة والرحمة
تعتبر الولادة المباركة لعيسى المسيح، رسول السلام، عيدًا أنار بنوره العالم. وولادته هي رسالة لتحرير جميع البشر من اللاوعي والقيود المفروضة عليهم من الخارج. في ذلك اليوم، رأى طفلٌ نور العالم قائلاً: "وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ" (سورة مريم، الآية 31).
لقد تم اختيار عيسى الناصري لكي "يوقظ البشر للحياة" وليفتح "عيونهم وآذانهم" ويمنحهم القوة لكي "يقوموا" ويسيروا ويعملوا ويتولوا زمام مصيرهم بأنفسهم ويواجهوا جميع أنواع السلطات. هو النور الذي يرينا الطريق: "أَنَا نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلا يَتَخَبَّطُ فِي الظَّلامِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ". (إنجيل يوحنا 8:12).
منح القرآنُ عيسى المسيح أعلى مكانة بين الأنبياء. فبالإضافة إلى ولادته المعجزة، قام أيضًا بعمل المعجزات بنفسه. وُصِف عيسى وأمه في القرآن بأنَّهما "آيَة لِلْعَالَمِينَ" (سورة الأنبياء، الآية 21). وكذلك يشير القرآن إلى عيسى في ثلاثة مواضع بنعته "كلمة الله". يستخدم القرآن هذا النعت لعيسى المسيح فقط (سورة آل عمران، الآيتين 39 و45؛ سورة النساء، الآية 171).
ومكانة عيسى المسيح في الإسلام بارزة مميَّزة. حيث يتم وصفه بأنَّه "رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ" (سورة النساء، الآية 171). وهو معروف في الأدب الفارسي والصوفي بنَفَسه الشافي، الذي صَنَعَ بنفخِهِ المعجزات، وشفى به المرضى وأحيا به الموتى - بإذن الله. ويذكر القرآن في موضعين معجزته المعروفة باسم "معجزة الطيور"، والتي تقول إنَّ عيسى المسيح قد أتى بطيور مصنوعة من الطين ونفخ فيها فصارت طيورًا -بإذن الله- "فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا" و "إِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْـَٔةِ ٱلطَّيْرِ بِإِذْنِى فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًۢا بِإِذْنِى" (سورة آل عمران، الآية 49 وسورة المائدة، الآية 110).
حكايات حول عيسى المسيح
يروي العالم والمتصوف والفقيه الفارسي المسلم الغزالي (1066-1111) الحكاية التالية: كان عيسى المسيح يسير مع حوارييه (تلاميذه) عندما مروا بجثة كلب. فصاح حواريوه "ما هذا! يا لها من رائحة كريهة". وهنا توقَّف السيد المسيح ليشير إلى أسنان هذا المخلوق البيضاء اللامعة. ووبَّخ تلاميذه وأمرهم أَلَّا يتكلموا بسوء عن هذا الكلب المسكين، قائلًا: "لا تتكلموا عن مخلوقات الله بشيء سوى ما يستحق الحمد والثناء".
كان المسيح، الواعظ المتجوِّل، يدعو في منطقة نشاطه في الإمبراطورية الرومانية إلى التواصل من دون عنف، وتفاهم بين الناس قائم على أساس المحبة العميقة والرحمة. وحتى أنَّه قد شمل معذبيه في مفهوم هذه الرحمة: "يا أبتاه، اغفر لهم لأنَّهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (إنجيل لوقا 23: 34).
وعلى العكس من ذلك فإنَّ التفرُّد والإرهاب ينشآن من الجهل وكذلك من الأمية الاجتماعية والسياسية القائمة على عقلية مليئة بالكراهية.
لم يكن يُنظر إلى عيسى المسيح على أنَّه حكيم يتحدَّث إلى الناس فقط، بل كان يُنظر إليه أيضًا باعتباره فاعلًا يدمج الأفكار والوعي والتخطيط وتحديد الأهداف في رسالته. وكان هذا النوع من التواصل يعتبر عملًا اجتماعيًا يسعى لتحقيق أهداف محدَّدة. وقد كانت هذه الأهداف بالذات تشكِّل خطرًا على استقرار الإمبراطورية الرومانية. "أعطوا إذًا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" (إنجيل متى 22:21).
أَظهرِوا الرحمة: وصية للناس
لقد شكَّك السيد المسيح في السلطات الأرضية وجعل قدرتها محدودة، ولكنه نظر إليها في الوقت نفسه على أنَّها "جيران"، يجب علينا أن نحبُّهم مثل أنفسنا. وهذا يمثِّل تحدِّيًا كبيرًا، وجهادًا مع النفس يتجاوز تصوّراتنا. ومفهوم الرحمة هذا هو وصية للناس والإنسانية. ولكن السؤال: إلى أي مدى نحن بعيدون عن أن نطبقها اليوم؟
يؤكِّد عيسى المسيح بالإنجيل، الذي أتاه من الله "فيه هدًى ونور" (سورة آل عمران، الآية 46) "ما بين يديه من التوراة"، التي أُرسلت لهداية جميع الناس وخلاصهم. وبحسب هذا المفهوم فإنَّ الأنبياء ينشرون رسالة الله نفسها في سياقات تاريخية مختلفة (سورة إبراهيم، الآية 4؛ سورة النحل، الآية 36).
وعيسى المسيح -نور الرحمة، الذي يشفي قلوبنا ويفتح أعيننا وآذاننا، الذي يريد أن يعيدنا إلى الحياة- حزين على حالة العالم وأفعال الناس. لقد وعدنا بالبركة. ووعد في عظته على الجبل الجيَّاع والعطشى والمظلومين في هذا العالم بالعدالة، الودعاء بأنَّهم "يرثون الأرض"، و"الرحماء" بالرحمة، و"المطرودين بأنَّ لهم ملكوت السماوات"، والذين يتحملون العناء وعدهم بالعزاء. ومشروع الخلاص هذا وتحرير البشرية من قيودها الشخصية والاجتماعية والتقليدية والاقتصادية والسياسية لا يزال غير مكتمل.
ومع ذلك يجب أَلا ننسى والدته: تعتبر مريم العذراء المرأة الوحيدة التي ذكرت باسمها عدة مرات في القرآن. وفي القرآن سورة كاملة تحمل اسمها، هي سورة مريم المكوَّنة من ثمانٍ وتسعين آية. ويُشار إلى عيسى المسيح دائمًا في القرآن باسم "ابن مريم". تعتبر مريم العذراء في التقاليد الإسلامية وخاصةً في الأدب الإسلامي الصوفي ببساطة المرأة "المقدَّسة". وتظهر رحمةُ الله فيها، في مريم العذراء، التي قالت: " تُعظِّمُ نَفسِي الرَّبَّ وتبتهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلصِي. فإنَّه نظر إلى تواضُعِ أَمَتِه، وها إِنَّ جمِيعَ الأجيال من الآن فصاعدًا سوف تُطَوِّبُني" (إنجيل لوقا 1: 46-48).
نحن نُبجِّل في الوقت نفسه امرأة نموذجية تجسِّدت فيها روح الله ("رُوحٌ مِنْهُ"، سورة النساء، الآية 171)، امرأة تعلمنا الثبات والصمود وقد أصبحت بالنسبة لكلِّ الناس رمزًا للعفة والطهارة. لقد سارت بثقة في الطريق المحدَّد لها من الله وأظهرت إخلاصها، على الرغم من التجارب الفظيعة التي واجهتها.
الكراهية والتعصُّب الديني يشوِّهان اليوم رسالة عيسى المسيح
تلك المنطقة، التي تحدَّى فيها "اللهُ المُتجسِّد في إنسان" قبل ألفي عام الإمبراطوريةَ الرومانية العظيمة وبشَّر برسالة الرحمة والمحبة، وَ "شفى" الناس في أزقتها وبيوتها وفتح عيون "المكفوفين" وأعاد "الموتى" إلى الحياة وضحَّى بنفسه من أجل هذه الرسالة - باتت اليوم غارقة في الكراهية والتعصُّب الديني.
وهذه الكراهية غريبة على روح التوحيد بجميع أشكاله ولا يمكن التوفيق بينها وبين مفهوم الإيمان التوحيدي. والخط الفاصل في التعاليم التوحيدية لا يفصل بين "مؤمنين" وَ "غير مؤمنين"، بل بين الحكَّام المستبدِّين والطغاة من جهة وبين الضعفاء والمحرومين اجتماعيًا من جهة أخرى، بصرف النظر عن انتمائهم الديني أو القومي أو العرقي.
وفي المفهوم القرآني فإنَّ هذا الخط الفاصل يفصل بين الناس، الذين يؤيِّدون التعدُّدية والتنوُّع من جهة، وبين الأشخاص، الذين يطالبون بالتفرُّد ويرفضون روح الديمقراطية من جهة أخرى.
ويرفض التوحيد كلَّ نوع من أنواع الوصاية وتقديس الأشخاس أو الآراء أو الأفكار. والله في التوحيد هو المبدأ التوجيهي الوحيد الصالح. والله هو رحمة ومحبة للناس. والله تعهَّد في القرآن بالرحمة للناس: "كتب ربُّكُم على نفسِهِ الرَّحمةَ أنَّه مَنْ عَمِلَ منكم سُوءًا بِجَهَالةٍ ثم تابَ مِنْ بعدِهِ وأصلح فأنَّه غفورٌ رحِيمٌ" (سورة الأنعام، الآية 54).
ترتبط كلمة رحمة العربية بكلمة رحيم. وهي تشير في معناها الأساسي باللغتين العبرية والعربية إلى الرحم، وبالتحديد رحم الأم. وكلمةُ رحمة تكتسب من خلال ذلك دلالةً عاطفية قوية. ومصطلح الرحم يرتبط بالدفء والحبّ والحنان والأمن. وبنور الرحمة فقط يمكننا جعل العالم ينعم بالسلام.
عزيز فولادفاند
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2022
عزيز فولادفاند حاصل على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع والدراسات الإسلامية. يعمل في تدريس الدين الإسلامي في مدرسة بمدية بون الألمانية. وينشط كخبير في الأصولية الإسلامية في أعمال الاندماج والوقاية وكذلك في مكافحة التطرُّف لدى الشباب. وهو أيضًا عضو نشط في منظمة العفو الدولية منذ عدة أعوام. وينشط منذ عام 2009 في الحوار بين الأديان وكمستشار في المدارس ومكاتب رعاية الشباب وكمتطوِّع في مساعدة للاجئين.