لعبة للأسرة الألمانية تجسد الاستشراق بامتياز
"يجب على اللاجئين أن يندمجوا"، كثيرًا ما يتم ترديد هذا الطلب عن طيب خاطر. وهذا يعني على وجه التحديد أنَّ طالبي اللجوء والمهاجرين من جميع الأنواع لا يتعيَّن عليهم أن يتعلموا اللغة الألمانية وحسب، بل يتعيَّن عليهم أيضًا أن يتبنوا العادات والتقاليد الألمانية. وهذا طريق يعجُّ بالعراقيل والعقبات. صحيح أنَّ كثيرين من المواطنين الألمان، الذين يسعون إلى مساعدة الوافدين الجدد، يمكنهم أن يخطئوا حتى مع وجود نوايا حسنة لديهم. وعندئذ يتسلل سوء فهم يمكن أن يؤدِّي بسهولة إلى فتور في العلاقات وحتى إلى الكراهية المتبادلة.
ظهر مؤخرًا في مخيِّلتي سيناريو كابوس حقيقي، عندما شاهدت لعبة الألواح "إسطنبول". وتساءلت بقلق: كيف سيكون تأثير هذه اللعبة على الاندماج، عندما تتم دعوة أسرة سورية لاجئة من قبل جيرانها الألمان الجديد إلى لعبة "إسطنبول"؟
فعلى أية حال سيضطر المُضيفون الألمان إلى أن يشرحوا لضيوفهم أنَّ عليهم أن يواضبوا على زيارة "المسجدين الصغير والكبير"، لكي يجمعوا من هناك "أقراص المسجد"، وذلك لأنَّ هذه الأقراص تزيد الحظّ والأرباح في الأعمال التجارية داخل البازار، وأنَّ "أقراص المسجد" مفيدة خاصة عند دخول "السوق السوداء". وكذلك من المفيد أن يتمكَّن "أفراد الأسرة" من "القبض على" الخصم و"تسليمه للشرطة". ومَنْ يفعل ذلك تكون بانتظاره جوائز جذَّابة.
الخيال المدهش
هل سيفهم الضيوف قواعد هذه "اللعبة العائلية الراقية"؟ على المستوى الفكري، ربما سيفهمونها. ولكن هل سيُعجبون بها أيضًا؟ لا بدّ من انتظار الإجابة على هذه الأسئلة، حتى تتم تجربة ذلك. وبالتأكيد سوف يندهش الضيوف المهاجرون مما يدور في خيال مضيفيهم الألمان. ومن المحتمل أن يسأل المهاجرون أنفسهم: ما هذا البلد الذي وصلوا إليه بحقّ الجحيم.
ألعاب الألواح تعتبر جزءًا من الثقافة الألمانية الرائدة. وعلى العكس من الأفلام التمثيلية الألمانية وموسيقى البوب الألمانية فإنَّ هذه الألعاب من المنتجات الألمانية الأكثر تصديرًا إلى الخارج. كما أنَّها تتمتَّع تحت الاسم الإنجليزي "ألعاب الألواح الألمانية" بشعبية كبيرة في جميع أنحاء العالم، وخاصة في العالم الناطق باللغة الإنجليزية.
وأية لعبة لا تصبح "لعبة ألواح ألمانية" عندما تعتمد فقط على ضربة الحظّ وحجارة النرد، بل عندما تضاف إليها مجموعة كبيرة من بطاقات الأحداث والعمل، والأقراص من جميع الأنواع، والشخصيات الرئيسية والثانوية، وعلامات التوجيه والبضائع التجارية وملعب واضح بشكل أو بآخر، هو بالذات لوح اللعبة. كما أنَّ مَنْ لم يكُن على استعداد للخضوع لعدد كبير من القواعد، فقد خسر بالفعل.
ولعبة "إسطنبول" لها تمامًا اتِّجاه جديد من بين ألعاب الألواح: إذ إنَّ تعقيد قواعدها يوهم بأنَّ الاستراتيجية ومهارة اللعب تقودان إلى الفوز. ومع ذلك فإنَّ "حرية اتِّخاذ القرار" في هذه اللعبة هي مجرَّد شيء مصطنع، وفي الحقيقة القواعد العديدة هي التي توجِّه مسار اللعبة. وفي النهاية يتحدِّد الفوز قبل كلِّ شيء من خلال الحظّ والصدفة.
"القهوة والبقشيش"
وفي لعبة "إسطنبول" يقوم اللاعبون بأداء أدوار التجَّار ومعاونيهم. حيث يجب عليم أن يجمعوا أكثر ما يمكنهم من الأقمشة والتوابل والفواكه والبضائع غير المحدَّدة في السوق السوداء، ويبيعونها مثلاً إلى "السلطان" في قصره. ومن عائدات مبيعاتهم يجب عليهم أن يشتروا "الياقوت". وأوَّل لاعب يجمع خمس "ياقوتات" يفوز في اللعبة.
ينصح مبتكرو لعبة "إسطنبول" بها للأطفال فوق سنِّ العاشرة. وقد منحت لجنةُ تحكيم مرموقة هذه اللعبة "جائزة اللاعبين المحترفين" لسنة 2014. ومنذ ذلك الحين تم توسيعها مرَّتين. ومع تطوير هذه اللعبة أضاف إليها مبتكروها وناشروها عدة مكوِّنات، من بينها "القهوة والبقشيش".
في أية لعبة ألواح ألمانية حقيقية لا يسعى المتنافسون إلى الفوز فقط. إذ إنَّهم يغوصون في عالم آخر، ويعيشون من خلال ذلك قصة. ولعبة "إسطنبول" تدور أحداثها في عالم الأسواق الشرقية - على الأقل في سوق مثلما يتخيَّلها كلٌّ من مصمِّم اللعبة روديغر دورن ودار نشر بيغاسوس. ومن الناحية النظرية كان بإمكانهم أن يطلقوا على هذه اللعبة أيضًا اسم "حلب" أو "الموصل" أو "دمشق". بيد أنَّ هذا لم يكن سيزيد من مبيعات اللعبة. وسيظهر في المستقبل القريب إن كان اسم "إسطنبول" هو الخيار الأفضل من ناحية التسويق.
يقول الفلاسفة إنَّ "أية لعبة تشير دائمًا إلى جوهر العالم". كما أنَّها "تُشكِّل تصوُّراتنا للواقع". وهنا بالذات تكمن المشكلة. لأنَّ قصة لعبة "إسطنبول" هي قصة تمثيلية بكلِّ قساوة. و"القصة الشرقية" التي تقدِّمها هذه اللعبة تذهب إلى ما هو أبعد من قصص كارل ماي، أو أبعد مما يعرضه كاتالوج سفر من شركة توي TUI السياحية الألمانية، أو أبعد من رواية الخبير الاقتصادي الألماني - المتقاعد حاليًا - هانس-فيرنر زِينّ، الذي صاغ مصطلح "اقتصاد البازار".
عالم الآخر غير القابل للتغيير
فهي تصوِّر عالم الآخر، الذي لا يتغيَّر قطّ، ويبقى دائمًا على ما هو عليه. ولذلك لا يُطرح السؤال عما إذا كان المقصود بهذه اللعبة "إسطنبول" المعاصرة أو القديمة. ورسومات هذه اللعبة تشبه كثيرًا النمط المعروف في ألمانيا باسم غيلسنكيرشن باروك. وبالمقارنة تبدو الزخارف الشرقية للفنانة أويغينه ديلاكروا أنيقة في تجريدها.
وعندما نجد أنفسنا في عالم يكون فيه الشرقي غير قادر على فعل أي شيء سوى "توسيع عربته اليدوية"، التي يبيع عليها "التوابل والبهارات" في البازار، فعندئذ سنصل حتمًا في نهاية المطاف إلى إدوارد سعيد. أو بصيغة أكثر دقة: سنصل إلى انتقاده الموضوعي للطريقة التي يتصوَّر من خلالها الغربُ الشرقَ. أي "الاستشراق" مثلما وصفه إدوارد سعيد. وكتابه الذي يحمل هذا الاسم تم نشره قبل نحو أربعين عامًا. بيد أنَّ هذا الكتاب يبقى مهمًا، على الرغم من جميع نقاط ضعفه. ولعبة "إسطنبول" هي إذا جاز التعبير "استشراق" لجميع أفراد الأسرة الألمانية. فهذه اللعبة تضع غمامة على أعين اللاعبين.
هل يجب على الثقافة الألمانية الرائدة أن تنتشر بمثل هذه الطريقة؟ بالطبع لا، ولا يجب حتى على ناشر هذه اللعبة فعل ذلك. ألعاب الألواح الألمانية تستطيع من دون شكّ وضع "قصَّتها" في ثقافات أخرى من دون أن تسخر من تلك الثقافات. ومثلاً من غير المعروف على الأقل أن سكَّان أستراليا الأصليين قد اشتكوا من لعبة "أولورو" (من دار نشر كوزموس).
وقصة هذه اللعبة الأسترالية ترتبط بمكان العبادة "إيرز روك" (المعروف في لغة سكَّان أستراليا الأصليين باسم "أولورو"). وفي هذه اللعبة المجمَّعة الجذَّابة والمحترمة، التي تتميَّز علاوة على ذلك بقواعدها الواضحة والبسيطة، لا يتعلق الأمر بأنماط الحياة الحقيقية أو المفترضة لسكَّان أستراليا الأصليين. وسرُّها هو: التجريد.
ما رأيكم ببساطة في لعبة الشطرنج؟
حاولنا الحديث مع دار نشر بيغاسوس حول لعبتها "إسطنبول" الحائزة على جائزة. ولكن للأسف من دون جدوى. ولهذا السبب نحن لا نعرف أيضًا إذا كان علينا أن ننتظر المزيد من "التوسيعات والإضافات" في هذه اللعبة. فماذا مثلاً لو أُضيفت إليها "راقصات شرقيات وحريم"؟ (للاعبين فوق سنِّ السادسة عشرة)؟
وعلى أية حال يبقى علينا أن نأمل ألاَّ يصل الأمر قطّ إلى دعوة أسرة مهاجرين سورية أو عراقية أو تركية أو غيرها من أسر المهاجرين الشرقيين إلى لعبة "إسطنبول" لدى أسرة ألمانية. فهذه اللعبة يمكن أن تثير لدى الضيوف شكوكًا كبيرة في قدرة مضيفيهم الألمان على أن يكونوا منفتحين على شعوب العالم والمواطنة العالمية.
ولكن مع ذلك إذا وقعت هذه الكارثة، فيجب علينا أن نضع أملنا في رأفة الضيوف المدعوِّين وتسامحهم. ونأمل في ألاَّ يرغبون بسبب الانتقام في اختراع "لعبة مضادة" سخيفة بأقراض الرهبنة والامتناع عن الزواج والمناسبات الخاصة عند جرن المعمودية. وربما سيردُّون ببساطة بتوجيه دعوة إلى جيرانهم الألمان للعب لعبة الشطرنج. وهي لعبة شرقية حقيقية.
شتيفان بوخِن
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2017