ليبيا دولة فاشلة بامتياز
حالة ما قبل الدولة
إنها في حالة ما قبل الدولة. والحالة هذه وحسب مختبر التاريخ: الحروب تُنشيء الدول، عندما تسيطر قوة عسكرية واحدة على خصومها وتبسط سيطرتها على كامل الأرض وتنشئ سلطة واحدة بغض النظر عن شكل هذه السلطة وطبيعة نظام حكمها. فذلك أمر متروك لوعي المحكومين وقوة إرادتهم في صناعة مصيرهم السياسي. وإلى ذلك الحين فإن ليبيا بناسها العاديين تظل رهينة تقاتل مفتوح بين هؤلاء وأولئك على السلطة والموارد المالية للدولة المنفوطة، تغذيهم أجندات خارجية (إقليمية/ دولية).
إن الحرب فعل بشع. وكما يقال: عندما تبدأ الحرب يفتح الجحيم أبوابه كما يفعل على تخوم طرابلس. هي حرب معركة مفصلية للسيطرة على عاصمة القرار السياسي ومقر بيت مال البترول رحاها تدور بين "الجيش الليبي" الذي يقوده الجنرال حفتر في هيئة قوات منظمة منضبطة وفق سلسلة قيادية تراتبية بتعداد متفوق بأضعاف وقوة نارية كاسحة (وهو مدعوم، بدون نكران، من مصر والإمارات).
تقابله على الجبهة الأخرى قوات عسكرية (مدعومة من قطر وتركيا) تحشدت على عجل لصد هجوم قوات الجنرال حفتر على العاصمة، متشكلة من حشد ميليشاوي عماده عشرات ميليشيات أمراء حرب (معظمهم أشخاص مدنيون) تداعوا من طرابلس ومصراتة وبعض مناطقها المحيطة، وجمعتهم جميعهم مصلحة جوهرية مشتركة: منع قوات الجنرال حفتر من السيطرة على طرابلس بما هي عاصمة بيت مال البترول (البنك المركزي)، في الوقت الذي يعاني فيه سكانها، الذين هم أهالي المدينة (طرابلس) ذات المليونين، مساوئ أن تكون من مواطني عاصمة مطروحة للصراع الحربي الدامي المُدمِّر لأجل السيطرة على مكونات الدولة فيها.
ما يحدث في ليبيا الآن هو، بالنتيجة السياسة الاقتصادية الاجتماعية، والثقافية، مخرجات مدخلات أربعة عقود ونيف من حكم القذافي الفردي المزاجي (شبيه مزاج الحاكم بأمر الله قبل ألف عام).
نتيجة لأربعة عقود من الحكم الفردي
حكم فردي فاشي بتصورات آيديولوجية صوابية خرقاء. تقصَّدَ عن تخطيط تعطيل فعاليات ديناميكية مؤسسات الدولة وتحويلها إلى أدوات إدراية وظيفية لصالح تصوراته ورغباته بحسبانه "القائد الأوحد". وتعمَّدَ إهمال تطوير نواحي البنية التحتية من العمران المادي والتعليم والصحة والانتاج الاقتصادي.. في بلاد تغص بالنفط والغاز.. كان طاغية يمقت من يحكمهم وكأن له ثأر معهم.. وفتش هنا عن سوء المعاملة في طفولته abused children.
علاج بالديمقراطية متاح بدون وصفة كالأسبرين
تحدث ابن خلدون في مقدمته التاريخية الشهيرة "مقدمة ابن خلدون" عن منطق المعادلة التاريخية القائلة بـ" خراب العمارة وعمارة الخراب" على أنها ضرورة منطقية في تحليله لنهوض سلطة عصبية على أنقاض أخرى مهزومة/ منهارة. وهو ما اكتشفه علم الاجتماع السياسي مؤخرا بعنوان "الفوضى الخلاقة". وذلك يعني بمنطق فلسفة التاريخ الباردة أن الديمقراطية الحديثة وأول إعلان أممي لحقوق الإنسان تَخلّقَ من فوضى الثورة الفرنسية الدموية الفظيعة.
لكن من السخف إعادة اختراع العجلة، إذ أن العلاج بالديمقراطية أصبح في قرننا الواحد والعشرين متاحاً بدون وصفة كالأسبرين، إلا إذا كان النظام الذي نتحدث عنه يقع في ما يسمى العالم العربي. هنا والحديث عن ليبيا من الطبيعي أن يحدث ما يحدث من فوضى سياسية واحتراب متوالٍ بعدما انهار نظام الشخص الواحد فانهار تالياً معه شبه دولته المصطنعة وانتشر السلاح بين الجميع وفاض.. الحال: لا دولة واحدة ممكنة لليبيين بالحوار السياسي في غابة السلاح وقد أفسد طاغيتهم الميت لأربعة عقود هويتهم الوطنية الجامعة.
وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو أعلن أن بلاده تشعر "بقلق عميق" من المعارك الدائرة قرب العاصمة الليبية وتطالب قوات المشير خليفة حفتر بأن "توقف فورا" هجومها على طرابلس. وقال بومبيو في بيانه: "لقد قلنا بكل وضوح إننا نعارض الهجوم العسكري الذي تشنه قوات خليفة حفتر. ونحض على الوقف الفوري لهذه العمليات العسكرية ضد العاصمة الليبية".
ولاقى (تصريح بومبيو) لدي حكومة طرابلس وأمراء الحرب ترحيبا غامراً بحسبانه دعماً سياسيا دولياً حاسماً في مواجهتهم لقوات الجنرال حفتر. ولكن، بعد نحو أسبوع، أعلن البيت الأبيض، أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تحدث هاتفيا مع قائد "الجيش الوطني الليبي" المشير خليفة حفتر، حيث أقر الرئيس الأمريكي: "بدور المشير الجوهري في مكافحة الإرهاب وتأمين موارد ليبيا النفطية". وأكد على ضرورة إجراء: "انتقال ليبيا إلى نظام سياسي ديمقراطي مستقر".
ليبيا - سوق بترودولاري سخي للأسلحة
وأتى إفصاح البيت الأبيض عن هذه المكالمة، بعد يوم من رفض الولايات المتحدة وروسيا تأييد قرار لمجلس الأمن يدعو إلى وقف إطلاق النار في ليبيا في الوقت الحالي. وهنا نتوقف عند الاتفاق غير المتوقع بين أمريكيا وروسيا. إنه اتفاق استثنائي فرضتها تقاطع المصالح بينهما. ليبيا بالنسبة لروسيا مركز نفوذ جيوسياسي شديد الأهمية وسوق بترودولاري سخي لأسلحتها طوال أربعة عقود زمن حكم "الأخ القائد".
وليبيا التي يراهن ترامب عليها من خلال الجنرال حفتر تقوم على محاربة الإرهاب وحماية آبار النفط وموانئه وضمان تدفقه إلى الأسواق العالمية. وموقف ترامب هذا في الرهان على الجنرال حفتر مبني على تقارير وكلات الأمن القومي، التي بينت للرئيس أن القوات المسلحة التي تحارب في صف السراج ومجلسه الرئاسي وحكومته، تغص بمليشيات إسلامجية بين المتطرفة والإرهابية (داخلها مخلفات قاعدة وداعش وقتلة السفير الأمريكي) وإليها مليشيات إجرامية تتاجر في المخدرات والنفط والبشر.
الحشد الميليشاوي المتجمع في العاصمة وضواحيها أكثر تشددا في رفض وقف القتال على لسان واجهته السياسية المتمثلة في المجلس الرئاسي المعترف به دوليا لدواعي دبلوماسية، والذي يصرّ، عاكساً موقف الحشد الميليشاوي، على شرط عودة قوات الجنرال حفتر إلى مواقعها قبل 04 / 04 / 2019 أي قبل الهجوم على العاصمة.
علاوة على رفضهم، بحسب خطابهم السياسي الإعلامي الزاعق، لأن يكون للجنرال حفتر، بشخصه، أي دور في أي حوار أو تفاوض بشأن مستقبل البلاد السياسي، بحسبانه -عندهم- مجرم حرب، دون أن يكون لديهم القوة العسكرية اللازمة لدحر قواته الضاربة، لا سيما وقد تلقت قوتهم الصلبة المتمثلة في ميليشيات مدينة مصراتة خسائر فادحة حتى أن أهاليها خرجوا يتظاهرون منادين بعودة أبنائهم بعدما كثر قتلاهم. أي أنه من المحتمل جداً وقريبا قد تدخل قوات الجنرال حفتر العاصمة وتسيطر على تمركزاتها الحساسة داخلها وحولها.
لكن ماذا بعد؟!.. هل سوف يوفر سكانها حاضنة شعبية واسعة مؤيدة ومساندة بقوات شباب الأحياء الكبرى؟ أو سوف تكون عرضة لهجمات حرب عصابات تستنزفها داخل العاصمة وتفتح الباب على فصل جديد من الدم والخراب؟
فرج العشة
حقوق النشر: موقع قنطرة 2019
ar.Qantara.de
فرج العشة كاتب ومحلل سياسي ليبي معروف. روايته الجديدة "سينسيوس وهيبتايا" صدرت حديثا عن دار "التنوير".