قصة صيادين تكشف تفاصيل حياة بقية السومريين في جنوب العراق
للوصول إلى هور الجبايش، أخذتني سيارة في رحلة استغرقت ساعتين شرق مدينة الناصرية، مركز محافظة ذي قار، وقبل أن نصل الى المسطح المائي الشاسع، بدأت تظهر آثار الماء وقد طوق قضاء الجبايش، وهي مدينة لا يغمرها الماء عادة، وتعد المركز التجاري والمدني والسياسي لسكان هور الجبايش.
المطر الوفير الذي غمر العراق وسوريا هذا العام 2019، فاض من نهر دجلة وساح إلى المسطحات المائية الشاسعة المعروفة بالأهوار. ومع فيض الماء عادت الحياة، بل وعاد كثير من سكان الهور إليه بعد أن هجروه أو كادوا يهجرونه بحثاً عن أرزاقهم في أماكن أخرى.
صياد وبيته وحلاله معاً فوق جزيرة قصب!
أبو كرار واحد من أولئك الصيادين، وحين اقترب زورقنا (الذي يسمونه هناك شختور وهو عبارة عن زورق رفيع طويل يصنع من الخشب أو من الفايبر كلاس، ويجهز بموتور يعمل بالبنزين) من الجبش (كدس من القصب جمع الى بعضه وطلي بالقار ليصبح جزيرة عائمة تبنى عليها صريفة الصياد وحضيرة الجاموس الذي يعود له)، حيث بيت أبي كرار بمنطقة تعرف بـ "بغدادي"، أيقظه ابنه فظهر لنا بجلبابٍ داكن الزرقة وهو يدعك عينيه وقد علاه الحياء والخجل لأنّ ضيوفاً داهموا جزيرته القصبية وكان نائماً فلم يستطع ان يستضيفهم، وكأنّه قد أذنب بحقنا!
أبو كرار بقامة ممتلئة قوية، وبجسد لوحته الشمس، وبعينين خضراوين واسعتين تزينان وجهاً وسيم الملامح روى قصته، مشترطاً عدم تصويره أو الكشف عن اسمه. واستهل حديثه بقصة الصيد، فهو صياد بالفطرة، ويصيد سمك الهور بـ "الفاله" (رمح ثلاثي السنان بقصبة طويلة) أو بالشبك.
ولدى سؤاله عن الصيد الجائر بالكهرباء الذي أتلف الثروة السمكية، نظر إلي مستفهماً وقال: "كيف لنا نحن سكان الهور أن نمنع هذا الصيد؟ لابد من سلطة تتولى المنع، فأغلب الصيادين يأتون من خارج الهور، ومعهم مولد كهرباء وكابل طويل، ويصيدون بالجملة، وكما تعلم فإنّ الكهرباء تقتل السمك الكبير والصغير وحتى البيوض. هذا الصيد يضرنا بشدة، لكن ما بيدنا حيلة لمنعه".
الطيور المهاجرة تبحث عن مكان آمن!
وسارعتُ أسأله عن صيد الطيور، فكشف لي عن جانب آخر كنت أجهله تماماً وقال "الطيور المهاجرة لا تحط هنا بسبب كثرة السياح، فصوت موتورات الزوارق يرعب الطيور المهاجرة، فتختار أماكن أخرى لتحط فيها، وأظن أنها تحط في أهوار العمارة المتاخمة للحدود الإيرانية والتي يقل فيها السواح، اُنظر حولك، هل ترى طيورا؟".
وفعلا لم أرَ أيّ طيور سوى بضعة زرازير وعصافير، وبضع وزات وبطات يربيها سكان الهور ليستفيدوا من لحمها كغذاء لهم.
وهكذا تحول أبو كرار إلى مهنة قديمة أخرى مرتبطة بالأهوار وهي تربية الجاموس، التي تظهر مراراً ملامحها في الرقم الطينية السومرية الموجودة في المتاحف. واكتشفتُ لأول مرة من شرح الصياد السومري أبي كرار أنّ حياة الجاموس في الأهوار موسمية، مرتبطة بأشهر القيظ التي تبدأ من نهاية آذار / مارس وتنتهي في تشرين الأول / أكتوبر حيث يعوم الجاموس في الماء ليبرد جسده، أما بحلول أشهر البرد، فيحتاج إلى دفء الأرض وبهذا يُنقل إلى حضيرة في قضاء الجبايش، حيث تقيم عائلة أبو كرار المنقسمة على نفسها.
{"الصيد الجائر بالكهرباء أتلف الثروة السمكية في هور الجبايش العراقي."}
زوجة أبي كرار وبناته، يسكنّ في بيت صغير بالقضاء، حيث يتولين إعداد الحليب والقشطة واللبن الرائب من حليب الجاموس وبيعها، فيما يسكن أبو كرار وولداه كرار وقد بلغ العاشرة، وسجّاد وهو في الثامنة فوق الجبش في صريفة (بيت من حصير القصب) ملحق بها حضيرة ينام بها الجاموس حين يتعب أو يمل من العوم.
في أشهر البرد، يلتئم شمل العائلة في البيت الصغير بالجبايش، ويكاد الماء يزحف إلى البيت وحضيرة الجاموس الملحقة به بسبب فيضانات هذا العام كما قال الصياد وهو يدخن لفافة تبغ أجنبية تبدو غريبة على مشهد المكان الموغل في القدم.
مكونات القصة - القصب والماء والحلال والسمك
ولدى سؤالنا عن مصدر غذاء الجاموس في هذا المسطح المائي الشاسع، بدت المرارة على محيا أبو كرار وقال: "في أشهر القيظ يرعى الجاموس على القصب والبردي الأخضر، ويعوم في الماء، أما في الشتاء، وحين نعود به إلى القضاء، فيجب علينا أن نشتري له العلف، وهو مكلف إلى درجة أنّ تربية الجاموس عادت بلا جدوى بسبب ارتفاع التكاليف".
ومضى يشرح الجدوى الاقتصادية لمشروع قد يبلغ عمره 5 آلاف سنة ونحن في الألفية الثالثة -مشيراً بيده إلى جاموسة كبيرة راقدة لصق صريفته بين بضع جواميس تمددت حول جزيرة القصب- بالقول: "سعر بيع هذه الجاموسة لا يتجاوز اليوم 600 ألف دينار (500 دولار)، وهذا السعر لن يغطي بالتأكيد تكاليف نقلها كل عام إلى القضاء، وتكاليف العلف الذي نشتريه لإطعامها في أشهر البرد".
وشكى أبو كرار بمرارة من تدني قيمة بيع الحليب والقشطة واللبن الخاثر، بسبب تدفق منتجات أجنبية مشابهة على السوق. الشكوى دفعتني لسؤاله لمَ لا يترك العمل إلى مهنة أخرى. سكتَ وجال بعينيه الخضراوين بمساحة الهور والبردي وقال وكأنه يبتلع حسرة دامعة: "لا أتقن غير هذا العمل، ورثته عن أبي، وورثه أبي عن أجداده، فكيف أهجره إلى عمل آخر".
{"الطيور المهاجرة لا تحط في هور الجبايش بسبب كثرة السياح."}
سارعت أسأل نجله كرار الواقف قربنا ينصت باهتمام لحوارنا إن كان قد ذهب إلى المدرسة، فلم يجبني الصبي وأسقط عينيه إلى الماء وحافة الجبش مرتبكاً خجلاً، فأجاب عنه أبوه بأنه قد تعلم الكتابة وبعض الحساب، ثم عُدتُ أسأل الصبي إن كان ينوي الاستمرار في هذا العمل، أم سوف يتركه إلى عمل آخر؟ نظر كرار إليّ ساهما، ثم شاح عني ومد بصره إلى الماء، ولسان حاله يقول "كيف أهجر هذا المكان وأنا أنتمي إليه، الماء والبردي والقصب والسمك".
الطب والبيطرة بعيدا المنال!
عدت أسأل أباه عن الخدمات الطبية والبيطرية، وكيف تصلهم وهم عائمون فوق المياه؟ فشرح لي أنهم يحصلون على الخدمات في القضاء، ومن يمرض فعليه الذهاب إلى هناك، ثم عاد يقول وعلى شفتيه ابتسامة: "نحن ولدنا وكبرنا في هذا المكان، لذا من النادر أن نمرض، ولو جاء ابن المدينة ليعيش هنا، فقد يموت خلال أسبوع".
ثم شرح الصياد السومري كيف يحصل الصيادون ومربو الجاموس على خدمات البيطرة في هذا المكان: "حين تمرض جاموسة، نذهب إلى دائرة البيطرة في القضاء، ونشرح للطبيب الأعراض، ونأخذ أحيانا لها صورة بهواتفنا السمارت، فيكتب لنا دواء، ونعود به إلى الجاموسة، أما في حال تعسر ولادة الجاموس، فنتولى نحن مساعدتها، ولا يمكن إجراء عملية قيصرية لها كما يجرى مع الأبقار، لأنّ الجاموسة تنزل إلى الماء فيتلوث جرحها وتموت. وهذا يعني، إذا تعسرت الولادة ولم تتم، فستموت الجاموسة ووليدها (ويُسمى "شفج" إن كان ذكراً، و "حولية" إن كانت أنثى) ".
حلَّتْ الظهيرة، وباتت شمس الأهوار محرقة، فألحّ أبو كرار أن ننزل عنده ليستضيفنا على طعام الغذاء، لكننا اعتذرنا، وشكرناه وغادرنا جزيرته القصبية (الجبش) بحثاً عن قصص أخرى.
صياد "متقاعد" يروي حكايته
رسا زورقنا في منطقة "أبو سوباط"، وهي ضفة نصف يابسة من الهور، شُيّدت فيها بيوت بسيطة من الآجر والإسمنت، وإلى جانبها مضيف من قصب، دخلناه ليستقبلنا عبد جلوب الأسدي، وهو صياد ترك العمل بسبب ضعف بصره، وبات يعيش على حافة اليابسة، رافضاً أن يغادر الهور تماماً.
الصياد عبد يبلغ من العمر 67 عاماً، وقد ولد في هذا المسطح المائي ومارس الصيد حتى جاوز عمره الستين، فأقعده فقدان البصر عن مهنة آبائه وأجداده منذ أربعة أعوام.
ويشرح ذلك بالقول " كان أبي مربي جاموس، أما الصيد فقد تعلمته في صباي من مرافقة الصيادين، حيث كنا نرمي الشباك في الهور، ونصطاد السمك، أما الصيد بالفاله، فقد مارسته أحيانا، لكنه صعب، فهو يتم في المياه العميقة بموسم الشتاء حيث يصفو الماء من الغرين، ويجري الصيد ليلاً، حيث يسلط نور اللوكس (قنديل أبيض النور) على الماء، وتوضع خلفه مظلة لتحصر النور باتجاه الماء فحسب، فيجمد السمك خائفا، ليقنصه الصياد بالفاله. هو نوع بالغ الصعوبة من الصيد، لكنّ الصياد الماهر لا يخطئ السمكة، فيكون جني صيده وفيراً دائماً".
وعن الصيد بالشباك، شرح الصياد الأسدي أنّ "الصيد بالشباك هنا يختلف عن الصيد في الأنهار، حيث يجب على الصياد أن ينظف مساحة من الماء من القصب، ثم يضع الشبك بمنطقة تقطع مجرى الماء خلالها، وفي الصبح، يجمع الشباك والسمك العالق فيها، ويصل وزن بعض الأسماك إلى 12 كيلوغراما".
ومضى الشيخ الأسدي يروي معاناة الصيادين من الصيد الجائر، كاشفاً أنّ كثيراً منهم يلجأ إلى وضع السموم في الماء، فتقتل السموم كل أحياء الهور وتقضي على الحياة فيه، لكنه عاد وأشار إلى أن الصيد الجائر بالكهرباء الذي مارسه الوافدون على الهور، بات ممنوعاً قانونيا، ويقع من يمارسه تحت طائلة القانون.
وكشف الشيخ عبد الأسدي أن الماء قد وصل منطقته منذ أسبوع فحسب، حيث أنها كانت شبه جافة، وتحولت من أهوار إلى مستنقعات بسبب الجفاف الذي ضرب المنطقة في السنوات الأخيرة.
{"صيد جائر - كثيرون يلجؤون إلى وضع السموم في ماء هور الجبايش العراقي فتقتل السموم كل أحياء الهور."}
شحة الماء جعلت تربية الجاموس صعبة، علاوة على أن حاجة الشيخ الأسدي إلى المال أجبرته على بيع الحيوانات (الحلال) لتزويج أبنائه. ومصدر رزق عبد الأسدي وأبنائه اليوم هو بيع القصب كعلف لمن يربون الدواب خارج منطقة الهور، كما أنهم يمارسون قيادة الزوارق للترفيه عن السائحين في جولات داخل المنطقة، لكنّ ذلك يتحدد في عطل نهاية الأسبوع والأعياد، بمعنى أنّه ليس عمل مستدام.
الأسدي: "حياتنا هي سمكة أو دابة أو قصبة"
السهل الرسوبي جنوب العراق هو موطن السومريين، ولكنه تعرض في عهد نظام صدام حسين إلى التجفيف، بسبب إيوائه ثوار الأهوار، الذين ما برحوا يقطعون الطرق ويشنون الغارات على مراكز الشرطة ووحدات الجيش، وبسبب هذا أقام النظام ما عرف بنهر القائد، لتجفيف الأهوار، وهو ما كشف عنه الشيخ عبد الأسدي مبينا أنهم قد أُجبروا على الهجرة إلى منطقة سدة الهندية وإلى قرية فريحة في كربلاء عام 1995.
ثم عاد المهجّرون إلى مناطقهم عام 2004 بعد سقوط نظام صدام حسين وإثر قيام السلطات بفتح الماء لإعادة إغمار الأهوار. ويختم الشيخ الأسدي حكايته بالقول: "بعد أن عاد الماء، وبعد أن رحل النظام الذي أحرق القصب، دبّت الحياة في المنطقة، ونبت القصب والبردي، فعدنا إلى هنا، إذ لا حياة لنا خارج الهور، وكل حياتنا هي سمكة أو دابة أو قصبة".
ملهم الملائكة - هور الجبايش العراقي
حقوق النشر: موقع قنطرة 2019
[embed:render:embedded:node:35751]