"الصوم يجعلني أكثر صفاء وإحساسا بذاتي"

في تسعينيات القرن الماضي وخلال عملها مذيعةً في القناة التلفزيونية الموسيقية "إم تي في يوروب"، كانت كريستيانه بيكر احدى أيقونات البوب. وفي عام 1995 اعتنقت المذيعة الإسلام، حيث تتحدث في هذه المقالة عن تأملاتها وخواطرها في شهر الصوم رمضان.

By كريستيانه بيكر

. ​​عندما صمت رمضان لأول مرة كنت في الثلاثين من عمري. كنت قد اعتنقت الإسلام لتوي، الأمر الذي كانت له عواقب شبه كارثية بالنسبة لي. قضيت عاماً مفعماً بالإثارة منذ أن تحولت إلى الإسلام. كنت أعمل قبلها كمذيعة لبرامج البوب في قناة "إم تي في يوروب" ولبرنامج شبابي في ألمانيا، وعن عملي كُرمت بجوائز عديدة، غير أن اعتناقي الإسلام أثار ضدي في وسائل الإعلام الألمانية حملة سلبية إلى حد ما، أدت في النهاية إلى فقداني عملي بين عشية وضحاها. كل هذه التغيرات التي حدثت في داخلي أدت إلى تحلل العالم المحيط بي وانهياره. وعندما أنظر إلى الوراء أستطيع القول إن ما حدث لي عندما فقدت كل ما كان يمثل هويتي قد أصبح نعمة فيما بعد.

كنت قد أنهيت علاقتي العاطفية التي - يا لسخرية الأقدار - أدت إلى تعرفي على الإسلام، غير أني استطعت عندئذ أن أركز ذهني على ما يهمني بالفعل: استطعت أن أتعرف بشكل أفضل على حقيقة علاقتي بالله وبالإيمان، وشرعت في ترتيب حياتي من جديد، والسير – وهذا هو الأهم - في طريق جديد بالنسبة لي. في العشية التي سبقت أول يوم صمت فيه رمضان ارتكبت خطأ وخرجت مع أصدقاء وشربت كأسين من الشمبانيا. في اليوم التالي استيقظت على صداع فظيع وشعور بالجفاف. في الساعة الثالثة بعد الظهر فطرت وقلت لنفسي إن رمضان لا يصلح لي، وليغفر لي الرب.

امتحان للشخصية في السنة التالية كنت قد حصلت على وظيفة جديدة كمقدمة برنامج ثقافي في قناة "إن بي سي يوروب". في ذلك العام حلّ رمضان مع أعياد الميلاد، وحتى نحصل على استراحة من التصوير خلال أيام الأعياد كنا نعمل بشكل مضاعف كل يوم، وهو ما كان يعني أننا كنا نستغرق في التسجيل من الصباح حتى المساء. اعتقدت آنذاك أني لن أستطيع الصوم، لأني اعتدت على شرب الماء دائماً بين فقرات التسجيل. ولكن بشبه معجزة جعل الله فمي مبللاً وهكذا مضى شهر الصيام بسرعة البرق. بالطبع كان عدم احتسائي الخمر أمراً مساعداً لي. عديد من زملائي كانوا يكيلون لي المديح قائلين إني أبدو مشرقة وصافية. لقد كانت بالفعل خبرة رائعة بالنسبة لي. منذ تلك الأيام وأنا أصوم رمضان في كل عام من الأعوام الثلاثة عشر الماضية. وبالفعل أشعر ببهجة وأنا أترقب قدوم رمضان، وإن كنت هذا العام أشعر بالقلق قليلاً لأن الأيام طويلة جداً.

معجزة رمضان

إذا جاء شهر رمضان، هكذا يقول حديث شريف، "فُتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب الجحيم". هذا الأمر حدث لي، عندما عايشت ما أُطلق عليه "معجزة رمضان". في أحد الأعوام عانيت من انزلاق غضروفي مؤلم للغاية قبيل شهر رمضان. الأشد أيلاماً كان بالنسبة لي ما قاله طبيبي بأن علي أن أتخلى عن خطتي بالحج إلى مكة. بمساعدة العلاج الطبيعي المكثف والصلوات عاد غضروفي المنزلق إلى مكانه دون عملية جراحية – وكل ذلك خلال شهر رمضان الكريم. طبيب جراح من أصدقائي أطلق على ما حدث معجزة طبية، لأن حالتي كانت بالفعل خطيرة. وهكذا تمكنت من إتمام الحج، والحمد لله! التخلي عن الغضب وقلة الصبر والأفكار السلبية خلال اليوم الأول من شهر رمضان أعاني في الغالب من الصداع، ولكن بدءاً من اليوم الثاني أشعر بأني على ما يرام، وفي كل يوم تتحسن حالتي. بعد ذلك لا أكاد أشعر بالجوع، غير أني في نهاية اليوم أحس بإرهاق خفيف، كما أني أشعر بالتعب في المساء على نحو أبكر من المعتاد. بالطبع لا يتوقف العمل في رمضان، ولذلك من الممكن أن يكون التعامل مع أشخاص لا يصومون مرهقاً بعض الشيء، غير أن ذلك جزء من التحدي. عندئذ أقضي وقتاً أطول في قراءة القرآن الكريم والكتب الدينية الأخرى وفي الصلاة والدعاء إلى الله. كما أني أبذل كل ما في وسعي حتى أتجنب الغضب وقلة الصبر والأفكار السلبية.

رمضان: الشهر الذي يجمع بين الناس

في هذا العام أشارك في مشروع بعنوان "صم واطعم" Fast and Feed، وفي إطاره يدعو مسلمون أشخاصاً مشردين لكي يتقاسموا معهم الطعام ويتبادلوا الأحاديث حول أهمية شهر رمضان. كما تُقام في المعتاد مأدبة إفطار يُدعى إليها نواب في البرلمان وشخصيات سياسية أخرى، وأشارك فيها أيضاً. أما أكثر الأشياء التي أحبها فهو الإفطار في بيت صديقتي العربية التي تدعو في الغالب معارف لها. هناك أشعر بالحب والدفء وبأن رمضان يجمع بين الناس، كما أشعر بفكرة المشاركة التي تعتبر فكرة غريبة بالنسبة لكثيرين في الغرب، وخاصة عندما نعيش حياة مهنية وحدنا بدون زواج، وبدون عائلات مسلمة. ذات مرة كنت في مصر قبل بدء شهر رمضان. شعرت بالتأثر البالغ الذي جعل الدموع تملأ عيني عندما رأيت الآلاف من الناس في ميدان جامع الحسين. كانوا جميعاً ينظرون تجاه السماء وهم يدعون: رمضان مبارك، أيها الهلال الجميل، أين أنت؟ وعندما رأوه انطلقوا يحتفلون في بهجة جماعية. حتى في لندن أعيش شهر رمضان باعتباره وقتاً مباركاً ومميزاً للغاية. أعتقد أن هذا النظام الروحي السنوي هو بالنسبة لي كالمفتاح الذي أستخدمه لتغير نفسي دوماً لكي أصبح إنساناً أفضل – ولكن الطريق بالطبع طويل للوصول إلى هذا الهدف. إني أحاسب نفسي عن حياتي، أفكر فيما يمكن أن أفعله على نحو أفضل، وأبذل جهداً كبيراً كي أسامح الناس الذي جرحوا مشاعري، وأحاول أن أطرد من قلبي كافة مشاعر الحسد والغيرة، وأصلي إلى الله كي يغفر لي ذنوبي.

مستوى أعلى من الوعي

من خلال الصيام في شهر رمضان أشعر بنفسي أكثر قرباً من الله، أكثر صفاءً ووعياً بنفسي، وأكثر حساسية. حتى حاسة التذوق لدي تزداد رهافة خلال تلك الفترة، وكأنني أكون على مستوى أعلى من الوعي. أتمنى في كل مرة أن يدوم هذا الشعور، غير أن الحياة تعود سريعاً إلى طبيعتها بعد انقضاء الشهر الكريم. أحب الصلاة الجماعية في عيد الفطر المبارك؛ أنها جميلة ومتناغمة للغاية، المرء يشعر عندئذ بالرابطة القوية التي تجمعه – في الله - مع إخوته في الإيمان. كما أني أشعر بسعادة لا مثيل لها لإحساسي بالقوة وبسيطرتي على جسدي وعلى غرائزي. أطلب من الله أن يديم علينا طوال العام هذه القوة التي نستمدها من الصيام.

كريستيانه بيكر

ترجمة: صفية مسعود

مراجعة: هشام العدم

حقوق الطبع: قنطرة 2010