أحداث بورسعيد الدامية...تصفية حسابات في لعبة قذرة؟
يتابعون التلفزيون مشدوهين إلى شاشته في مقهى "الشيف" في مركز مدينة بورسعيد. بضع دقائق تمضي حتى يكمل القاضي في القاهرة قراءة جميع الأحكام المتعلقة بأحداث الشغب الدامية، التي وقعَت في ملعب بورسعيد لكرة القدم في فبراير/ شباط من العام الماضي 2012.
تم تثبيت 21 حكماً بالإعدام، كانت قد صدرت في يناير/ كانون الثاني 2013، في حق عدد من مشجعي النادي المصري البورسعيدي. وتمت تبرئة 28 متهما. وحُكِمَ على بقية المتهمين الـ 73 بالسجن لفترات يصل بعضها إلى 25 عاما.
الجانب الأكثر إثارة في هذه الأحكام سياسياً هو اتهام تسعة من مسؤولي الشرطة بتدبير أعمال الشغب الدامية في قضية استاد بورسعيد، أو بالتخاذل عن أداء مهامهم على أقل تقدير. وصدرت على اثنين منهم، وأحدهما مدير أمن بورسعيد السابق، أحكام بالسجن لمدة 15 عاما، بينما حصل بقية مسؤولي الشرطة على أحكام بالبراءة.
حيتان كبيرة وأسماك صغيرة
وعقب سماعهم للأحكام القضائية الصادرة انهار أشخاص كثيرون من الموجودين بالمقهى، وأخذوا يضربون بأيديهم على رؤوسهم، وانخرطوا في صراخ وبكاء. وجلس بعض منهم صامتين على الأرض، وقال أحد الحاضرين معلقا: " أخي (اسمه: إسلام لوما) حُكم عليه بالإعدام، ولكن الحِيتان الكبيرة التي دبرت كل هذا لم توجه إليهم أية اتهامات من الأساس".
وقال وهو يبكي بحرقة إنه لا يعلم هل من المفترض أن يكون أكثر حنقا على الدولة والحكومة التي سمحت بصدور تلك الأحكام؟ أم على جماهير النادي الأهلي القاهري المعادية لهم، الذين لن يهدؤوا إلا بعد أن يكونوا قد أخذوا بثأر قتلاهم الـ 72، الذين سقطوا في أعمال العنف يوم مباراة الفريقين، بـموت 72 شخصا من بورسعيد، بحسب قوله.
وبعد دقائق قليلة من صدور الحكم احتشد عدد كبير من الجماهير الغاضبة أمام المقر الرئيسي للشرطة في قلب بورسعيد، الذي كان في الأسابيع الأخيرة مسرحا لاحتجاجات دامية متكررة.
وكان المقر قد تم إخلاؤه عشية صدور الحكم في خطوة استباقية حكيمة. وانسحبت الشرطة من بورسعيد بأمر من وزارة الداخلية. لتنتشر قوات الجيش منذ ذلك الحين في الشوارع.
وكان ذلك أحد الأسباب الرئيسية في بقاء الأوضاع هادئة نسبيا في بورسعيد بعد صدور الحكم هذه المرة. فوجود الجيش، المرتبط ارتباطا وثيقا بمدن قناة السويس، حيث يتمركز جزء كبير من قوات الجيش المصري، أصبح حاليا مقبولا من الشعب بوصفه قوة لحفظ النظام.
أمام مقر الشرطة يتناقش ضباط الجيش مع أفراد الحشد الغاضب، ومنهم المواطن حسني الخياط، وهو رجل كفيف اقتاده شاب حتى جاء به إلى لمكان.
ويحكي حسني الخياط بينما تحدق عيناه نحو الفضاء وتنهمر الدموع على وجهه: "ابني الوحيد حُكِم عليه الآن بالسجن مدى الحياة! إنه لم يكن قد بلغ بعد الـ 18 عاما حين ألقي القبض عليه". ويستكمل روايته قائلا إن ابنه كان ذاهبا فقط لفترة قصيرة بالقرب من الاستاد لشرب العصير حينما ألقي القبض عليه بطريقة عشوائية. وهو لا يهتم بكرة القدم على الإطلاق.
ويصرخ حسني بينما يُخرِج صورة لابنه من محفظة صغيرة معه رافعا الصورة إلى أعلى: "أقسم بالله إنه بريء". وتظهرالصورة شابا ما زالت ملامح وجهه تبدو طفولية تقريبا، ومن المفترض ألا يغادر السجن إلا بعد 25 عاما.
اعتقالات عشوائية
في الواقع نقلت الصحافة المصرية مرارا وتكرارا أقوالا لضباط شرطة يذكرون فيها أنه كانت هناك حملات اعتقالات عشوائية شملت أيضا أشخاصا تشتبه الشرطة في وقوفهم وراء أحداث الشغب الدامية في بورسعيد.
ونُقِل عن أحد رجال الشرطة قوله: "اعتقلنا مئات الأشخاص، ومن المحتمل جدا أن يكون هناك بعض الأبرياء من بين الذين صدرت عليهم أحكام بعد ذلك".
محمد شحاتة رجل شهير في المدينة، والجميع في بورسعيد يعرفونه باسم "أبو حمص". وهو والد لشاب يعد من قادة مشجعي نادي المصري البور سعيدي، وتأكد الآن الحكم الصادر ضده بالإعدام.
يُلقي جميع الناس بالتحية على "أبو حمص" بدون توقف تقريبا أينما سار في الشارع، ويرحبون به ويعانقونه. ويزعم "أبوحمص" أنه كان مع ابنه في الاستاد (يوم المباراة) وبعدها عادا إلى المنزل. ويروي قائلا: "لم نعلم بحالات الوفيات الكثيرة التي سقطت إلا من خلال التلفزيون.
ويقول إن سبب الوفاة في أغلب الحالات سقوط معظمهم وسحقهم تحت الأقدام لأن بوابة الاستاد من ناحية مشجعي النادي الاهلي كانت ملحومة". ويقول أبو حمص: "لم نعرف جميعاً بذلك"، وبعدها بأسبوع جاءت الشرطة وألقت القبض على ابنه.
قناصة في مواجهة المتظاهرين
في يوم صدور الحكم الأول أي بتاريخ 26 يناير/كانون الثاني 2013 كان أبو حمص يقف أمام السجن، وبداخله إيمان راسخ بأن ابنه سيحصل على حكم بالبراءة وسيأخذه ويعود به إلى المنزل.
ولكن حين صدرت أحكام الإعدام، بدأت المواجهات في بورسعيد. وتمّ إطلاق ذخيرة حية على المتظاهرين من فوق أسطح المباني. وصاح أحد الشباب: "أبو حمص ارجع إلى الوراء، الوضع خطير جدا"، وأصيب الشاب بطلق ناري في رأسه وسقط بجوار "أبو حمص".
ويؤكد أبو حمص: "لقد استعانوا بالقناصة. وأغلب القتلى الذين سقطوا في ذلك اليوم سقطوا إثر إصابتهم برصاص قناصة استهدف الرأس والرقبة والقلب." ويحكي أبو حمص أنه كان في الجيش ويعرف على وجه الدقة كيف يحدث ذلك.
محاكمة غير عادلة
ويلخص أبو حمص قضية أحداث العنف في استاد بورسعيد بقوله: "المحاكمة بأسرها كانت أبعد ما تكون عن النزاهة والعدالة". ويضيف "أغلب المصريين يشجعون النادي الأهلي وكان الهدف من هذا الحكم تهدئتهم على حساب مدينة بورسعيد الصغيرة".
وأعلن أبو حمص مواصلة حملته للعصيان المدني، التي بسببها أغلَقت غالبية المدارس والمحلات التجارية والمؤسسات الحكومية في بور سعيد أبوابها منذ عدة أسابيع.
ويقول أبو حمص: "لن نتوقف حتى تتحقق مطالبنا، ويعاد فتح ملفات قضية استاد بورسعيد من جديد وتقديم المسؤولين عن سقوط قتلي خلال الاشتباكات في بورسعيد للعدالة، وعلى رأس هؤلاء وزير الداخلية وكذلك الرئيس الإخواني محمد مرسي".
النظام يرد الصفعة
ويتفق أهالي بورسعيد مع جماهير النادي الأهلي في نقطة واحدة وهي: "أن قوات الأمن قد مارست لعبة قذرة في أحداث استاد بورسعيد." وكانت جماهير الأهلي في طليعة الصفوف التي خرجت للمطالبة بإسقاط مبارك. و كان للشرطة المصرية حسابات تريد تصفيتها تلك الجماهير.
ويقول أبو حمص: "لقد استخدمونا كآداة لتصفية حساباتهم مع جماهير الأهلي!". وهو يحكي بهذا ما حكاه أيضا الكثير من مشجعي النادي الأهلي والنادي المصري البورسعيدي.
في يوم المباراة، لم يكن هناك سوى تواجد محدود لقوات الشرطة في الاستاد. ولم تكن هناك إجراءات تفتيش. ويقول أبو حمص: "هذا أمر غريب، لأن قوات الأمن في العادة تقوم بفتح كل زجاجة مياه وكل علبة سجائر".
وهو أيضاً يسرد قصة أولئك "الغرباء" الذين نقلتهم حافلات حتى استاد بورسعيد ولم يكونوا معروفين لا لجماهير النادي الاهلي ولا لجماهير نادي المصري.
ويقول: ألقوا التهمة علينا ولقى مشجعو الاهلي حتفهم وبذلك يكونون قد أصابوا عصفورين بحجر واحد"، هذا ما يعتقده أبو حمص وغيره كثيرون في بور سعيد، ممن ينفون عن أنفسهم أن القيام بأي دور في أعمال العنف باستاد بورسعيد.
السخرية من المحكوم عليهم بالإعدام
ومع ذلك لا يمكن لـ "أبو حمص" ومعظم أهالي بورسعيد أن يتصوروا فكرة حدوث مصالحة بينهم وبين جماهير الأهلي. ويعلق أبو حمص قائلا: "لقد رقصوا في القاهرة على جثثنا وسخروا من المحكوم عليهم بالإعدام من ذوينا، وهذا أمر لا يمكن أن يغفره الانسان بهذه البساطة".
خلال إحدى المظاهرات ظهر شاب فجأة من وسط الحشد وهتف قائلا: "أنا المحكوم عليه غيابيا بالإعدام رقم 21 ". وكان محمود صلاح الشاب ذو الـ 28 عاما قد علم بحكم الإعدام الصادر ضده في يناير/ كانون الثاني الماضي 2013 عن طريق التلفزيون. ويعلق قائلا: "غادرت الاستاد بعد منتصف المباراة وتوجهت إلى المقهى، ويوجد شهود على ذلك".
وواصل محمود صلاح حديثه قائلا إنه قد تكرر إلقاء القبض عليه عدة مرات وأُفرِج عنه في كل مرة. وقبل أربعة أيام من النطق بالحكم كان يتعين عليه الذهاب إلى قسم الشرطة لتسليم نفسه مرة أخرى.
ويوضح محمود ما حدث: "ببساطة لم أذهب إلى القسم ومنذ ذلك الحين وأنا هارب ولم أنم ليلة واحدة في بيتنا، ولا أعرف كيف سيمضي هذا الوضع." ثم يختفي محمود مجددا وسط حشود المتظاهرين ويحميه أهالي بورسعيد، الذين يعرفونه، بعيدا عن الوقوع في أيدي الشرطة، التي غادرت حاليا مدينة بورسعيد المطلة على قناة السويس.
كريم الجوهري
ترجمة: صلاح شرارة
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013