وزير الخارجية الإسرائيلي لابيد: "هذا إرهاب ضد الفلسطينيين"
في الليلة التي سبقت الحادثة سألها طفلها ذو الثلاثة أعوام إن كانت كلُّ النوافذ والأبواب مغلقة بإحكام حتى لا يأتي أي أحد ليأخذه، كما تقول براءة حمامدة والدة الطفل محمد بكر حسين.
وبعد وقوع الحادثة كان الأطباء واثقين من أنَّ إصابته العنيفة في الرأس لن تكون لها أية مضاعفات طبية لاحقة، ولحسن حظه فهو لم يكن في حاجة إلى إجراء عملية جراحية من أجل وقف النزيف في دماغه.
وبعد علاجه لأربعة أيَّام في مستشفى سوروكا بمدينة بئر السبع، عاد محمد بكر حسين إلى منزله، ولكن ما يحدث في نفس هذا الطفل لا يمكن تخمينة إلَّا عندما ينظر إلى شظايا الزجاج المسنَّنة داخل إطار النافذة.
هذا ما تبقى بعد واحد من أكبر اعتداءات المستوطنين، التي تعرَّضت لها قرية فلسطينية على الإطلاق، إذ لم يبقَ تقريبًا أي شيء سليمًا في بلدة المفقرة الواقعة في الطرف الجنوبي من الضفة الغربية: لا في جرَّار القرية المشترك ولا حتى في السيَّارات التي من دونها تتقطَّع السبل بالناس في هذه القرية النائية، ولم يسلم أي شيء أيضًا في البيوت الفقيرة. غير أنَّ الحجر الذي قذفه بكلِّ عنف وقوة مستوطن من بين الثمانين مستوطنًا الملثمين على النافذة المذكورة كاد أن يُكلّف محمد حياته.
وقع هذا الهجوم في وضح نهار آخر يوم ثلاثاء من شهر أيلول/سبتمبر 2021 وبدأ كلُّ شيء بأسلوب بات مألوفًا جدًا هناك حين "وصل من الخارج صوت ضجيج"، مثلما يتذكَّر فاصل حسان حمامدة، وانتشر مثل النار في الهشيم خبرُ هجوم إسرائيليين من بؤرة أفيغايل الاستيطانية غير الشرعية على راعي أغنام فلسطيني وقطيع أغنامه على سفح التل المقابل للمفقرة.
"ركضتُ لمساعدته" يقول فاصل حسان حمامدة البالغ من العمر خمسة وأربعين عامًا، ورفع كوفيته السوداء عن وجهه المدبوغ من الشمس وأضاف أنَّه لم يكن يتوقَّع في البداية مثل هذا التصعيد الشديد ولكن هذه المرة لم تتوقَّف الأمور عند طعن بعض الأغنام من قِبَل المستوطنين المهاجمين.
الحادث الذي وقع في المرعى كان مجرَّد مقدِّمة لهجوم منظَّم من قِبَل المستوطنين من جهتين: فالمهاجمون -ومعظمهم من شباب مستوطنة أفيغايل ومن "حفات معون" وهي بؤرة استيطانية أخرى سيِّئة السمعة- جاؤوا -وهم مسلحون بالهراوات والمطارق وأدوات أخرى- إلى قرية المفقرة عازمين على تدمير ممتلكات الفلسطينيين.
ووصلت مع تصاعد الهجوم أيضًا أعداد متزايدة من الجنود الإسرائيليين وراحوا يطلقون قنابل الغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية، ولكن الجنود كانوا يحمون المستوطنين وليس القرويين، بحسب وصف المدافع الفلسطيني عن حقوق الإنسان وناشط منظمة "بتسيلم" الحقوقية الإسرائيلية نصر نواجعة.
"هؤلاء المهاجمون هنا لا يعرفون الرحمة"
وكتب شاهد عيان آخر كان هناك بالصدفة، هو الصحفي الإسرائيلي يوفال أبراهام، كيف سارع وبكلِّ حسم إلى وضع نحو عشرين طفلًا خائفًا داخل غرفة كانت تبدو آمنة بسبب وجود قفل على بابها. واستلقى في وسطهم الطفل محمد لينام.
وعندما سمع صوت كسر الزجاج، ركض يوفال أبراهام عائدًا إلى الداخل ورأى محمدًا على الأرض فاقدًا وعيه وينزف من جرح مفتوح في رأسه؛ وقد تلطخت بالدماء أيضًا السترة التي استخدموها لوقف النزيف أثناء نقله إلى سيَّارة الإسعاف.
احتفظ بهذه السترة جدُه محمود حسين حمامدة كدليل على ما حدث لحفيده. وحول ذلك يقول: "هؤلاء المهاجمون هنا لا يعرفون الرحمة".
وأثار هذا الحادث أيضًا حالة من الرعب والصدمة لدى كثير من الإسرائيليين، فقد أدان وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لبيد هجوم المستوطنين هذا على خربة المفقرة بعبارات واضوحة غير متوقَّعة منه، موضحًا أنَّ: "هذا إرهابٌ وهذه ليست الطريقة الإسرائيلية وليست الطريقة اليهودية". وفي اليوم التالي حضَرت إلى المكان لإصلاح خزَّان المياه المتضرِّر منظمةُ "كومنت مي" الإسرائيلية غير الحكومية، التي تزوِّد منذ سنوات قرًى فلسطينية مهملة بألواح طاقة شمسية.
إذ إنَّ الكهرباء والمياه الجارية لم تعد تصل إلى بلدة المفقرة منذ فترة طويلة، تمامًا مثل الكثير غيرها من البلدات والقرى الفلسطينية الواقعة في "المنطقة جيم"، التي تشكِّل ستين في المائة من أراضي الضفة الغربية الخاضعة لسيطرة إسرائيل.
هل يجب طرد السكَّان الأصليين الفلسطينيين؟
غير أنَّ الوضع في المفقرة حرج بشكل خاص أيضًا، وذلك بسبب وقوعها في منطقة مساحتها 2700 هكتار وقد أعلنها جيش الاحتلال الإسرائيلي أنَّها منطقة تدريب، وتُعرف أيضًا باسم "منطقة إطلاق النار 918". وبطبيعة الحال إنَّ منظمة "كسر جدار الصمت" الإسرائيلية -المُكوَّنة من مجنَّدات إسرائيليات وجنود إسرائيليين سابقين وتنتقد الاحتلال- ليست الوحيدة التي تُشكِّك في أنَّ هذه المنطقة حيوية لا يمكن الاستغناء عنها من أجل التدريبات العسكرية، فالنزاع حول "منطقة إطلاق النار 918" يشغل المحاكم منذ مطلع الألفية وتدل الكثير من الدلائل على أنَّ هذا الأمر يتعلق في الحقيقة بطرد السكَّان الأصليين الفلسطينيين من أراضيهم.
فهذه الأرض الصخرية نادرًا ما تم استخدامها في الواقع من أجل التدريب من قِبَل قوَّات الاحتلال. وعلاوة على ذلك فقد تم قبل فترة غير بعيدة إنشاء المزيد من البؤر الاستيطانية غير المسموح بها في "منطقة إطلاق النار 918" ومن دون أي اعتراض يستحق الذكر. ومع ذلك بات يسري في أربع عشرة قرية فلسطينية في المنطقة المختلف عليها حكمٌ من المحكمة العليا الإسرائيلية يقضي بعدم السماح ببناء أي شيء جديد - لا غرفة ولا حظيرة للحيوانات ولا حتى ببناء سور لمولد الكهرباء، وفي حال المخالفة تصدر على الفور أوامر بالهدم.
وفي صباح كتابة هذا التقرير حضرت مجدَّدًا سيارتا جيب عسكريتان لونهما أبيض إلى المفقرة من أجل التقاط صور لخيمة التضامن، التي أُقيمت عند طرف القرية بعد هجوم المستوطنين. وحول ذلك يقول جدُّ الطفل محمد حمامدة بمرارة: "نعلم من التجربة أنَّهم سيعودون خلال أسبوع لتسليمنا أمرًا بالهدم". وهو لا يوهم نفسه بأنَّ إسرائيل ستقوم هذه المرة -مثلما أعلن وزير خارجيتها يائير لبيد- بمحاسبة المهاجمين المسلحين.
فعلى الرغم من اعتقال سلطات الاحتلال ستة مستوطنين من المشتبه بهم خلال الأيَّام بعد الهجوم لكنها أطلقت بالفعل سراح بعضهم، وفي المقابل ادَّعى يوحاي دماري -وهو رئيس مجلس المستوطنين المحلي (مجلس جبل الخليل)- أنَّ الإسرائيليين المشاركين في الهجوم على المفقرة كانوا "ضيوفًا وليسوا من السكَّان المحليين".
وفي هذه الأثناء، تقوم منظمة "كسر جدار الصمت" بحملة توعية إعلامية من أجل الضغط على المسؤولين في الحكومة الإسرائيلية. فقد ألصقت على بعض الحافلات التي تسير في منطقة تل أبيب ملصقات كبيرة أسفل زجاجها الخلفي وعليها صورة الطفل محمد مصابًا في رأسه بجانب وزيري الدفاع والأمن الداخلي الإسرائيليين، وكتب عليها: "حان الوقت لوقف عنف المستوطنين. بيني غانتس وَعومر بارليف - هذه مهمتكما".
إنغه غونتر
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2021
[embed:render:embedded:node:44254]