في مصر ...قناة سويس جديدة على سكك حديدية
هذه صفقة من الدرجة الأولى، بل هي أكبر صفقة على الإطلاق فازت بها شركة سيمنز (زيمنس) خلال تاريخها الممتد لمئة وخمسة وسبعين عامًا. فقد بات من المقرَّر أن تقوم شركة سيمنز ببناء شبكة سكك حديدية بطول ألفي كيلومتر للقطارات الكهربائية السريعة في مصر بقيمة ثمانية مليارات ومائة مليون يورو. وهذا المشروع سيعمل أخيرًا على تحديث نظام من أقدم أنظمة السكك الحديدية في العالم وفي أكثر دولة عربية اكتظاظًا بالسكَّان.
ومع ذلك هناك علامات استفهام عديدة حول هذا المشروع برمَّته، وعلى الأرجح أنَّ أهمها هو: هل ينتهي أمر تسديد فاتور هذا المشروع الضخم عند دافعي الضرائب الألمان لأنَّ مصر المثقلة بالديون على الأرجح أنَّها لن تتمكَّن من تمويله بالكامل؟ بالإضافة إلى أنَّ العديد من التفاصيل الأخرى لا يزال يكتنفها الغموض وعدم الشفافية في هذا المشروع.
وبحسب شركة سيمنز للنقل فستقوم الشركة بالإضافة إلى إنشائها منظومة السكك الحديدية بتوريد واحد وأربعين قطارًا فائق السرعة وأربعة وتسعين قطارًا إقليميًا متوسِّط السرعة وإحدى وأربعين قاطرة شحن إلى مصر. ومن المخطط له أن تسير القطارات هناك في المستقبل عبر وادي النيل والصحراء على ثلاثة خطوط كبيرة بسرعة تصل إلى 230 كيلومترًا في الساعة.
تم توقيع عقد الصفقة في نهاية الشهر الماضي أيَّار/مايو 2022. وخلال مراسم التوقيع في القاهرة مع رولاند بوش، الرئيس التنفيذي لشركة سيمنز، وصف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي شبكة خطوط القطارات الجديدة بأنَّها "إضافة كبيرة لمنظومة النقل" في مصر "وبداية عصر جديد من السكك الحديدية في مصر وأفريقيا والشرق الأوسط". ومن جانبه قال رولاند بوش، الرئيس التنفيذي لشركة سيمنز، خلال مراسم التوقيع: "من خلال أحدث تقنياتنا الخاصة بالقطارات والإشارات والصيانة، سيكون لدى مصر سادس أكبر وأحدث شبكة سكك حديدية فائقة السرعة في العالم".
قناة سويس جديدة على سكك حديدية...منظومة قطارات كهربائية سريعة في مصر
سيتم أوَّلًا إنشاء الخط الأوَّل الممتد من مدينة العين السخنة، التي تقع على البحر الأحمر وتبعد عن القاهرة ساعة بالسيَّارة، عبر العاصمة الإدارية الجديدة المبنية بأمر من السيسي، ثم عبر القاهرة ومن هناك إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط ليصل إلى مدينة مرسى مطروح في الغرب. وقد تم الاتفاق على هذا الجزء من الخطوط الحديدية الثلاثة في العام الماضي ووصفته شركة سيمنز بأنَّه "قناة سويس جديدة على سكك حديدية".
وبعده يأتي دور الخط الممتد بين الشمال والجنوب في وادي النيل، حيث تعيش الغالبية العظمى من المصريين. ومن المقرَّر أن يصل هذا الخط من الإسكندرية عبر أسوان إلى معبد أبو سمبل بالقرب من بحيرة سد أسوان. وسيتم في النهاية إنشاء خط ثالث في الجنوب يمتد من مدينة سفاجا جنوب البحر الأحمر إلى وادي النيل.
يرد في مقطع فيديو دعائي من شركة سيمنز: "لطالما كان النقل أمرًا أساسيًا بالنسبة لكلّ المصريين، حيث يتزايد عدد السكَّان وكذلك يتزايد معهم الطلب على التنقُّل. يجب تلبية هذا الطلب وبسرعة لجميع المصريين. ستربط منظومة السكك الحديدية الجديدة المدن ببعضها في جميع أنحاء مصر. وستُمكِّن الناس والبضائع من السفر بشكل أسرع وأكثر أمانًا وبأسعار معقولة".
وفي الواقع لقد تأخَّر تحديث نظام السكك الحديدية المصري أكثر مما يمكن. فنظام السكك الحديدية المصري هو ثاني أقدم نظام سكك حديدية في العالم بعد بريطانيا ويعود إلى إنشاء خط بين قناة السويس والإسكندرية في عام 1834. يوجد في مصر حتى اليوم جزء من نظام سككها الحديدية يعود إنشاؤه إلى حقبة الاستعمار.
ولكنه صغير جدًا بالنسبة لسكَّان مصر البالغ عددهم مائة مليون نسمة، وغير مكهرب وسمعته سيِّئة بسبب حوادثه المروعة. وقد كشف وزيرُ النقل المصري كامل الوزير عن الوضع الحالي لنظام السكك الحديدية المصري بقوله عبر التلفزيون المصري إنَّ: شبكة السكك الحديدية الحالية في مصر تعود إلى القرن قبل الماضي. والقطارات قديمة والإشارات كارثية تمامًا مثل ورش السكك الحديدية.
وبحسب بيان صدر عن شركة سيمنز فمن المتوقَّع أنَّ إنشاء خطوط السكك الحديدية الجديدة الفائقة السرعة باستخدام أحدث التقنيات سيخلق أربعين ألف فرصة عمل في مصر أيضًا. ومن المحتمل أن تنشأ ستة آلاف وسبعمائة فرصة عمل أخرى لدى المورِّدين المصريين وفي قطاعات اقتصادية أخرى.
كيف ستدفع مصر تكاليف المشروع؟
وبحسب شركة سيمنز للنقل فإنَّ نطام السكك الحديدية الجديد سيخدم نحو تسعين في المائة من سكَّان مصر. ومن خلال تحول حركة المرور إلى السكك الحديدية، ستؤدِّي شبكة السكك الحديدية المكهربة بالكامل إلى خفض انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون بنسبة سبعين في المائة بالمقارنة مع حركة مرور الحافلات والسيَّارات الحالية، مثلما أوضحت الشركة.
غير أنَّ التقليل من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون ممكن، بشرط إنتاج الكهرباء من مصادر متجدِّدة. والحكومة المصرية تسعى في الواقع إلى تحقيق أهداف طموحة في تطوير الطاقات المتجدِّدة. ومن المقرَّر أن تتم بحلول العام المقبل 2023 زيادة نسبة الطاقات المتجدِّدة في مزيج الطاقة إلى عشرين في المائة. وحتى أنَّ هذه النسبة من المفترض أن تصل إلى اثنين وأربعين في المائة بحلول عام 2035. ولكن مصر لا تزال في الواقع بعيدة عن هذه الخطط.
فحتى الآن يبلغ بحسب معلومات وزارة الكهرباء المصرية متوسطُ النسبة اليومية من الطاقات المتجدِّدة نحو أربعة عشر في المائة تشكِّل منها الطاقة الكهرومائية، أي سد أسوان، أكثر من النصف. ولكن الطاقة الكهرومائية لم تعد قابلة للتطوير والتوسيع. ونسبة الطاقة الشمسية وطاقة الرياح تزيد قليلًا عن خمسة في المائة. والنسبة الأكبر في مزيج الطاقة المصري مصدرها إلى حدّ بعيد من عدة محطات طاقة تعمل بالغاز، وقد تم بناؤها أيضًا بصفقة كبيرة مع شركة سيمنز في السنوات الأخيرة.
وعلى الأرجح أن ترافق مشروع السكك الحديدية أيضًا إجراءات إعادة توطين واسعة النطاق عندما يتم مد خط السكك الحديدية عبر القاهرة مع سكَّانها البالغ عددهم عشرين مليون نسمة. لكن حتى الآن لا يزال من غير الواضح كيف سيحدث ذلك بالضبط.
بالنسبة لشتيفان رول، وهو مدير مجموعة أبحاث أفريقيا والشرق الأوسط لدى المعهد الألماني للدراسات الدولية والأمنية في برلين، يثير المشروع العديد من الأسئلة. ينتقد شتيفان رول المشروع قائلًا: "من الواضح أنَّه لم تكن توجد أية مناقصة عامة شفافة ولا يوجد أي تحليل واضح للتكاليف والعائدات". ولكن السؤال الأكبر يطرحه تمويل المشروع: "فمصر مثقلة بالديون ومن المحتمل أن تضطر في ميزانيتها القادمة إلى إنفاق خمسين في المائة من نفقات الدولة على خدمة الديون".
ولهذا السبب من غير الواضح تمامًا - بحسب شتيفان رول - كيف يمكن على الإطلاق دفع تكاليف هذا المشروع، الذي تبلغ قيمته مليارات. ولكن من المحتمل أن يكون الخطر محدودًا بالنسبة لشركة سيمنز نفسها. إذ يبدو أنَّ الحكومة الألمانية قد قدَّمت هنا ضمانات سخية عبر ضمانات هيرميس، مثلما يقول شتيفان رول: "لقد مُنحت في الماضي ضمانات ائتمانية واسعة النطاق لصفقات سيمنز مع مصر. ومن المحتمل الآن أن تكون قد تراكمت أخطار كبيرة من التخلف عن السداد. ولذلك فإنَّ هذه الصفقة ترتبط بالنسبة لألمانيا من دون شكّ بقدر معيَّن من الخطر".
وعلى الرغم من ذلك ليس خطأ وبكلِّ تأكيد أن تقوم مصر بتحديث منظومة سككها الحديدية، مثلما يقول شتيفان رول: "هذا مشروع بنية تحتية على الأرجح أنَّه مفيد جدًا"، وخاصة بالمقارنة مع المشاريع الكبرى الأخرى، التي بدأتها مصر في الأعوام الأخيرة مثل بناء عاصمة إدارية جديدة توجد عليها علامات استفهام وتساؤلات كبيرة جدًا حول جدواها وإن كانت ستدفع مصر في الواقع إلى الأمام. "وبالتالي فإنَّ مشروع السكك الحديدية هذا يعتبر على الأرجح المشروع الأكثر جدوى من حيث تأثيره، على الرغم من كلِّ انعدام الشفافية والنقد"، مثلما يقول شتيفان رول.
كريم الجوهري
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2022