زليخة أبو ريشة: الشريعة الإسلامية خارج العقيدة والعبادات والأخلاق...كلها عَلمانية
تمتاز أبو ريشة، المنحدرة من أصول سورية تنتسب إلى الشاعر عمر أبو ريشة، بلغتها العميقة وروحها الإشكالية. وتعترف في حوار مع موقع "قنطرة" للحوار مع العالم الإسلامي بأنها منذ الصغر كان لديها نزوعٌ نحو الحريّة والتمرد؛ "لذا كان عليّ أن أناضل على المستوى الشخصيّ لإخراج نفسي من زنزانة الزواج التي كتبت عليها الثقافةُ الذكوريّة الأبوية أن تكون عبوديّة للمرأة باسم الدين".
وتعتقد صاحبة "في ثناء الجميل" أنّ الجسديّ الحسيّ والروحيّ المعنويّ ضفيرة مهمة في تجربتها. وكانت وصفت نفسها بأنها في الحبِّ والشعر "ابنةُ كَمالَيْن: كمالِ الجسد في الشعر الجاهلي وكمال الروح في التجربة الصوفيّة".
أصدرت زليخة أبو ريشة تسع مجموعاتٍ شعريَّةٍ، ومجموعة قصصيةً واحدةً "في الزنزانة"، وأربعَ قصصٍ للأطفال، ودراسة في أدب الأطفال "نحو نظريةٍ في أدبِ الأطفال"، وكتابين في اللغة والجندر "اللغة الغائبة: نحو لغة غيرجنسوية"، و"أُنثى اللغة: أوراق في الخطاب والجنس"، ولديها كتب تحت الطبع. وما تزال تكتب مقالة أسبوعية، وتشارك بفاعلية في الحراك العام، وبخاصة عبر صفحتها على "الفيسبوك".
هنا تفاصيل الحوار:
توصفين بالكاتبة المشاكسة، والشاعرة المتمردة، والمثقفة المتطرفة. هل يضيرك ذلك. هل الاختزال هنا منجاة أم مأزق؟
زليخة أبو ريشة: لا منجاة ولا مأزق، ولكنه اختصارٌ مُخلّ ويحدّدني كردّة فعل. ومع أنّ التمرّد على السائد خلّةٌ شريفة وضروريّة، إلا أنّ التمرُّد وحده لا يكفي ما لم تكوني جذريةً، تبحشين (بالشين) في الأغوار البعيدة. وأظنّ أنّ هذه مهمّتي ككاتبة، وكشاعرة أيضاً. فما يمسّ حياتي كإنسانة وكمواطنة، ناهيك عما يعصف بها، يعصر حياتي ككاتبة. ولذا كان رفض السائد جزءاً من الاستشراف بل سابقة عليه، لأنّ السائد ساكن ما لم ترمه بمُقترَحٍ تِلوَ مُقتَرَحٍ يحرِّك راكده. ومقترحات الاختلاف تكون عادةً قاسيةً مثل حجارة، وردود الأفعال عليها عنيفة مثل صخور وسيوف قواطع، ولذا يلقى الإصلاحيُّ والإصلاحيّةُ عنَتاً، وأنت أدرى بذلك!
يبدو اهتمامك بالشعر على هامش انشغالاتك الأخرى. معاركك خيضت بسبب كتاباتك الصحفية وآرائك التي تصادمت مع "أعراف القطيع". ألا تغضبين من ذلك، أعني من حُصة الشعر الضائعة؟
زليخة أبو ريشة: ليس الشعر على هامش انشغالاتي. إنه معنى وجودي. وإذا كان لدي من الدواوين تسعة حتى الآن، واثنان تحت الطبع، وما بدأتُ النشر قبل 1999 (يعني ثمة ربع قرن على الأقل من الصمت الشعري نشراً)، ولديّ بضعُ دواوين مخطوطة لا أجد لها ناشراً (لأنهم يتأفَّفون من نشر الشعر)، وبضعةٌ أخرى قديمةٌ وأدتُها، علمتَ أنَّ الشعر ينزُّ من وجودي وينفجر.
وإذا كنتُ خضتُ معاركي بسبب مقالاتي، فأرني شاعراً عربياً مهماً (بعيداً عن نزار قباني) خاض معاركَ مهمةً بشعره (أدونيس يخوضها بآرائه خارج الشعر)! ساحة الشعر في التلقي والنقد باردةٌ صقيعيّة، وغاية المنى لشُداة الشعر أن يخترقوا تابوات المجتمع، وخصوصاً الدين، حتى يأتي الرقيب فيصادر الكتاب، أو يحاكم صاحبه، وعندئذٍ تقوم ضجة بين طرفين ليس الشاعر أحدهما؛ بين مؤيّدٍ لحرية التعبير ومؤيّدةٍ، ومناهض للمسِّ بالمقدسات ومناهِضةٍ. وهذا لا يعني أنّ هذه المعركة ليست بذات أهميّة؛ حرية التعبير، ولكنها في النهاية معركة تدور خارج الشعر (ولو أنَّه ينبغي الانتباه إلى هذا الدور المخيف للإبداع في مآل الحرية في الواقع)!
فبعد الحروب التي شهدَتْها الساحة بين أنصار القصيدة الحديثة وأنصار القصيدة العموديّة في منتصف القرن الماضي، والحروب التي شُنَّت على مجلة شعر وقصيدة النثر، لم نشهد أو نشارك في معركةٍ شعريّةٍ فنيّة. لا بل إنّ الحدث الشعري المهمّ يمرُّ، غالباً، دون ضجيجٍ أو صدىً نقديّ، إلا إن كان الشاعر أو الشاعرة ذات باعٍ في العلاقات العامة. فأنت تعلم أنّ النقّاد اليوم يتجافون عن نقد الشعر ومتابعته، وأنّ قلة قليلة على أصابع اليد الواحدة (من الـ 300 مليون) من أخلصت له، ومن المستحيل أن تحيطَ بالنتاج من المحيط إلى الخليج! مما يعني أنّ الوضع الحالي لنقد الشعر كارثيٌّ. ولذا أغضب! لا لأنّ حصة الشعر في حياتي ضائعة، بل لأنّ الناشر يدفّع الشعراء ثمن الكتاب، وفوق هذا لا يروِّج له ولا يوزِّعه. ولأنّ تجارب شعريّة مهمة لم تحظ بعناية النقد؛ عائشة أرناؤوط ونوال العلي وجمانة مصطفى وهدى نعماني نموذجاً.
رغم ضلوعك اللافت في الفكر العربي الإسلامي، إلا أنك لم تخوضي، تأليفاً، في هذا المضمار. ألذلك علاقة بعدم كفاية المهارات، أم خشية التسلّل إلى تخصص آخر أو حقل معرفي محفوف بالفخاخ، أم ماذا؟
زليخة أبو ريشة: كان لقراءاتي المعمَّقة في الإسلاميات سبب شخصيّ؛ إذ تخصصي واهتماماتي كانت في اللغة والأدب العربي. ولكن في فترة من حياتي حوصرتُ بالنصّ المقدَّس لإرغامي أن يدير حياتي وعلاقاتي ومظهري، وكنت أفتقر إلى المعرفة، فذهبتُ إليها، محفوفةً بشعور غريزيّ أنه لا يمكن للنصِّ المقدَّس إلا أن يكون عادلاً، وأن كلَّ ما أُدعَى إلى تطبيقه ليس إلا تفسيرَ هوىً ونتاجَ آلةٍ بطركية ذكوريّة ضخمة لإعادة إنتاج السلطة على المرأة أولاً.
وهكذا وقعت على تاريخيّة الإسلام، أي أنّ نصوصه خاضعة لظروفها وأسباب "نزولها"، وأنّ التدريجيّة الزمنية، التي تحدَّث عنها الطاهر حداد في ثلاثينات القرن الماضي، تُفضي إلى عدل مطلق ومساواة مطلقة بين البشر (حيث لا تعدد زوجات، ولا حجاب، ولا نصف شهادة أو إرث، ولا رقّ ولا عبيد)، وأنّ الفقه الإسلامي بشريٌّ من أَلِفِه إلى يائه، يعتريه فسادُ الرؤية والرأي، بل إنّ الشريعة الإسلامية (خارج العقيدة والعبادات والأخلاق) كلها عَلمانية، أي تخضع لاجتهاد البشر وحسب المصلحة العامة.
هذه النتائج التي توصَّلتُ إليها آنذاك دفعتني إلى كتابة المقالات فيها وتلقّي نيران الخصوم الإسلامويين، ما دمتُ قد زعزعتُ، أو هدّدتُ بزعزعة، اليقينَ الثابتَ المستقرَّ لديهم، أو بالأحرى السلطة التي يملكونها باسم الدين لخلقِ قطعان منضبطة.
أما التأليف في كتب فما الذي سأضيفه؟ هل سأضيفُ شيئاً على العظيم محمد أركون؟ أو على سيد القمني أو محمد شحرور أو الطاهر حداد أو محمد عابد الجابري أو مصطفى عبد الرازق أو جمال البنا؟ إن ما أكتبه في المقالات في الإسلاميّات لا يعدو أنه صدىً، بدرجةٍ أو بأخرى، لقراءاتي واختياراتي.. وعندما أكتشف منطقةً تحتاج إلى حفرٍ في هذا الحقل فسأنهض إليها. وسأُفضي إليك بسرّ صغيرٍ؛ وهو أني لا أبحثُ إلّا في الحقول البكر. فعلتُ ذلكَ في "نحو نظريّة في أدبِ الأطفال" ()، وفي "اللغة الغائبة: نحو لغة غير جنسوية" ()، و"أنثى اللغة: أوراق في الخطاب والجنس" ()، حيثُ كانت الإشاراتُ إلى هذين الحقلين؛ أدب الأطفال، واللغة والجندر، في المدونة العربية نادرة، والمعاني غير واضحة.
تكتبين، في الصحافة، بحرية ترتفع وتتدنّى بحسب السقف. هل لديك سقف، كيف تراودين الرقيب الذي في داخلك عن نفسه، فيغرق في النوم، وتصحو أفكارك المشاغبة؟
زليخة أبو ريشة: يبدو أن لتكويني الشخصي دخلاً في موضوع السَّقف، فمنذ الصغر كان لديّ نزوعٌ ما نحو الحريّة، وابتدأ معي وأنا مراهقة بموضوع المرأة، حيث كنت أتحسّس ألَمَ أن تكون المرأة أقلّ. ثم، مع الوعي، انصرفتُ إلى الحريّة خارج كلِّ إطارٍ إلا الإطار الأخلاقي بمعناه العميق. ولذا كان عليّ أن أناضل على المستوى الشخصيّ لإخراج نفسي من زنزانة الزواج التي كتبت عليها الثقافةُ الذكوريّة الأبوية أن تكون عبوديّة للمرأة باسم الدين وباسم "أعرافنا وتقاليدنا" حيثُ لخّصتها بمجموعتي القصصيّة "في الزنزانة"! وهذا الفعل بحدِّ ذاته كان إيذاناً بإعادة تعريف الشجاعة والحرية، والدخول إلى الوعر لاكتشاف ما تَعِد به مغامرةُ الحريّة. وقد ساعدني في هذا أني عاينتُ إمكانات الحرية لدى شعوبٍ أخرى وثقافاتٍ أخرى، عندما عشتُ في مجتمعٍ لا يدير وجهه، عندما أمرُّ به، ليتأمَّل قفاي، أو ليدسَّ ذكورته في خصري أو صدري، أو لا يستهجن آرائي، أو لا يعلّق على خياراتي. الرقيب الداخليّ يفرُّ في هذه الثقافات أو ينتحر، ويقف الضميرُ والقانون وحدَهما حارسَيْن لك. ولذا لا سقف يُذكرُ عندي، سوى أني أراعي أحياناً، بالاحتيال والحكمةِ التي علّمتنيها رئيسةُ التحرير الباسلة مؤخَّراً، سقفَ الجريدة التي أنشر فيها. أما الشعر والأدب والإبداع فلا سقف للحريّة فيها.
في شعرك نوع من "الإيروتيكا" هل للأمر اتصال بحالة التمرد التي تسكن في المخيلة؟
زليخة أبو ريشة: الجسديّ الحسيّ والروحيّ المعنويّ ضفيرة مهمة في تجربتي. ولربما أنها أتتني من الشعر الصوفيّ الذي يظهر فيه الحسيّ ترميزاً للروحيّ، فهناك عيون ذابلة وخدود متوهجة وقُبَلٌ وريقٌ بارد وعناق وصبوات. ولربما من الشعر الجاهلي الذي درستُه بحبٍّ وتعمّق، ووجدته يجوسُ في ديار المرأة وجسدها كمعبودةٍ! ولربما من افتتاني في وقتٍ مبكّر بشعر بني عُذرة ومما تنشّقتُ من دخانِ حريقِ لوعاته! ولربما من هذا كلّه!! وقد وصفتُ نفسي يوماً في شهادةٍ لي أني في الحبِّ والشعر "ابنةُ كَمالَيْن: كمالِ الجسد في الشعر الجاهلي وكمال الروح في التجربة الصوفيّة".
ولذا تشكَّل مصيري الشعري من هذا المِزاج، ولا أرى ثالث لهما. وما تنسبه إلى الإيروتيكا هو منسوبٌ أصلاً إلى حرية القول في المذاهب الطبيعية.. حرية تأليف المشاعر والصور.. حرية الإحساس البشريّ بالذات وبالآخر.. حرية الإباحيّة.. أجل الإباحية! الإباحية التي ليست حكماً أخلاقيّاً والتي تعبد الحرية ولا تخرج عنها.مررت في بداية حياتك بأزمة الزيّ، عندما خلعت الحجاب. هل كان الخلع رمزياً أم أنه تساوق مع خلع لأفكار وذهاب نحو أفكار أخرى؟
زليخة أبو ريشة: لطالما كان الحجابُ عندي مشكلةً، ومنذ الطفولة. ففي بيت صوفيٍّ محافظ كانت النساء فيه بأغطية الرأس في داخل المنزل وبأغطية الوجه في خارجه (وكان هذا في دمشق)، كان عليَّ أن ألحقَ بهن؛ فصرتُ أضع الإيشارب خارج البيت وأنا طفلةٌ في التاسعة، ثمَّ أجبِرتُ على منديل الوجه لمدة عامٍ كم كان ثقيلاً. كنتُ مُدركةً أن هذا الحجاب مفروضٌ عليَّ كأنثى، وأنه يقيّد إنسانيّتي ويزدريها، وأنه ينضافُ إلى قائمة الممنوعات مجتمعياً على الأنثى أن تفعله، وأنني أكرهه.
وقد أنقذني منه أنّ الأسرة انتقلت إلى عمان في بداية الستينات، وأنّ عمان ليس فيها غطاء الوجه هذا.. فظلَّ الإيشارب الذي لم يستعمله سواي من بنات جيلي. ولكني في الجامعة حوَّلته إلى غطاء أبيض طويل (يانس) كان يلفت النظر أكثر مما يتوافر عليه حجاب. فعلتُ ذلك إكراماً لوالدي الذي نشأ في الزاوية اليشرطيّة الشاذلية في عكا، حيث جميع النساء يستخدمنه، وإكراماً لوالدتي التي كان غطاء لرأسها ولم أرها يوماً من دونه. ولكن أن يتحوَّل إلى مقدَّسٍ وفرض، فذلك ما عدتُ أطيقه! فقد طال الحِجاجُ حوله، وصار من الأوَّليات، وتعرّضَ للأدلجة، ورُبط بالتُّقَى والورع والأخلاق.. فاندفعتُ أبحث خارج كهنوت الإخوان عن حقيقة الحِجاب في القرآن حتى وجدتُها، ولما وجدتُها خلعته. وطبعاً كان خلعه رمزياً (على عكس سؤالك)، أي إني خلعت معه كثيراً من اليقينات والأفكار والتأليهات الفارغة. ومن هناك استمرت الرحلة وإلى الآن في البحث والتنقيب، ولن تتوقف حتى النفس الأخير.
وضعتِ مؤلفات عن ذكورية اللغة، ومضيت تحاولين إيجاد قاموس لغوي يمحو أو يخفف من الهيمنة الذكورية على اللغة، هل بالإمكان تحقيق ذلك، أم أنّ الأمر يزيد اللغة مشقة فوق مشقتها؟
زليخة أبو ريشة: اللغة أداتي الأولى ومادتي الأولى وبيئة تفكيري وكتابتي، ولذا كان طبيعيّاً أن يتبلور اهتمامي بها عندما أخذ وعيي بقضية المرأة وبالجندر يتشكَّل. وقد قادني هذا الوعي إلى فحص اللغة كمادة ثقافية يستترُ فيها الوجَل الذكوريّ من المرأة، والتحيّز ضدّها، بل وأحياناً كثيرة كرهها (Misogyny). ذلك أن اللغة حاملةٌ ومحمولة، وتأثير ومؤثِّر، وفاعلةٌ ومفعول بها. وكانت النتيجة كتابيَّ: "اللغة الغائبة: نحو لغة غير جنسوية" (1996 عمان)، و"أنثى اللغة" (2009، دار المدى، دمشق). وهما محاولتان لتخليص اللغة من ذكورية الثقافة.
إلا أنّ الأمر ليس بهذه البساطة. فمع أنّ علم اجتماع اللغة ينضوي تحته علم "التخطيط اللغوي" الذي يهدف إلى إحداث تغيير وتوجيه في استعمال اللغة مبنيٍّ على تصور ودرسٍ، أي أن لا تُترَك اللغة لتُحدِثَ فيها التغييرَ ظروفُ المجتمع وتطورُه، إلا أنّ التغيير المطلوب حدوثه في إطار الجندر يمسُّ منطقةً عميقةً بعيدة الغور في الثقافة والتاريخ، مما يجعلُ المسَّ بها يصلُ إلى بنية التعبير العربي وطريقة إنشائه. فمن أجل أن يكون النصُّ عادلاً مع المرأة سيصبح النصُّ مهلهَلاً ركيكاً؛ مثل أن لا تكفَّ عن مخاطبة النساء كما الرجال، أو ذكر النساء كما الرجال في كلِّ مهمة يشتركان فيها. مع العلم أنّ العربيّة تختلف عن الإنجليزية مثلاً في أنّ التأنيث يطال الأسماء والأفعال والضمائر المنفصلة والمتصلة.. يعني إن أردت أن تذكر المعلمات والمعلمين فسيتبع ذلك تأنيث الأفعال وتذكيرها، ثم تذكير الصفات وتأنيثها، ثم تأنيث الضمائر وتذكيرها.... وهكذا. وهو مأزقٌ ما زلتُ أواجهه وأحتال عليه بالهروب أحياناً إلى جمع المتكلم، وإلى المثنى أحياناً.
أنت ناقمة على الإسلاميين أو المتأسلمين، وهم ناقمون عليك.. ألم تلن قناتك؟
زليخة أبو ريشة: لا تلين ما داموا يصادرون الحياة والمصائر. إنهم، وكلُّ من يماثلهم من الأيدولوجيات الأخرى، الخطر الأكبر على البشريّة، لأنَّ عقيدتهم تقومُ على استبدادٍ مطلَق بالبشر باسم الدين، حيثُ يتحوَّلُ أيُّ جاهلٍ أو "زنديقٍ" أو "قاطع طريق" أو "فاسق" إلى قاضٍ "شريفٍ" وجلّاد... ولذا هم مشروعُ فوضى كونيّة هدّامة، ومستنقعٍ فاحشِ المساحة والدَّور لتخريبِ العمرانِ الإنسانيّ، وتقويضِ أساساتِه.
لك آراء ومواقف من كتابة المناهج المدرسية في الأردن. وقد وعد المسؤولون بتصويب الأمر في المستقبل. هل يمكن الثقة بتلك الوعود؟
ولأنَّهم استعجلوا الاستجابة للضغط الفوقي، أخرجوا الكتبَ دون تخطيطٍ واعٍ ومدروس. ومع أنّ الكتبَ المدرسيّةَ المعدَّلة توافرت على قدرٍ جيّدٍ من الإصلاح، إلا أنّ هجمةً شرسةً من قوى الشدِّ العكسي وقوى الإسلام السياسي والمُتَأخْوِن أقامت الدنيا، وملأت فضاء التواصل الاجتماعي بالزعيق وبالوعيدِ والتهديدِ والتكفير، وأُحرِقَت الكتب الجديدة في مشاهد حزينة أُشرِكَ فيها طلبةُ المدارس، وأُرسِلَت تهديدات بالقتل لي ولحسني عايش ود. ذوقان عبيدات وآخرين، على اعتبار أنّا "مسؤولون" عن هذا "التحريف" للكتب المدرسيّة وكأنَّها "مُنَزَّلة"!!
بعد كل هذا وفوقه، هل نثق بالحكومة للقيام بأيِّ إصلاح؟ فقط هناك أمل واحد في وزيرٍ واحد، من مجموعة صغيرة من الوزراء المتنورين، جاء إلى وزارة التربية هو د. عمر الرزاز، الذي استُقبِلَ أسوأ استقبال وأكثره إسفافاً، من القوى ذاتها التي تكرهُ إلا أن يظلَّ الشعبُ قطيعاً! وعلى هذا الوزير والعدد القليل نعقدُ الأمل.
"نعقد الأمل".. تختمين مقالاتك باستمرار بعبارة "دعونا لا نفقد الأمل" هل ثمة أمل، وأين يتبلور أو يتجسّد؟
زليخة أبو ريشة: لا أستطيع أن أتنازل عن الأمل، مع أنَّك إن قلَّبتَ الكلمة، وجدتَ صداها في "ألم". وهذا الألم الهائل الذي نغسل به وجوهنا صباحاً ونغطّي به أرواحنا مساءً وطوال الوقت، لآملُ أن يكون هو المخاض الذي سينبلجُ عنه صبحٌ ما.. لا الحضيض الذي تحته حضيض وتحته حضيض!
وقد أجد الأمل في فقاعات من الأوكسجين تنبتُ وسطَ هذا "الخراب القطيعيّ". فقاعات وجيوب فيها شبابٌ واعٍ يتحرّك، تنويريون وتنويريات ومبادرات لم ترد في تاريخنا الثقافي والمجتمعي من قبل؛ مبادرات في الفنون، في تحقيق الجمال، في الإصلاح، في النضال من أجل العدالة وضد النظام البطركيّ والسياسيّ المتجهّم والفاسد، ضدّ الفساد، حملات للتضامن والاتحاد العَلمانيّ، ارتفاع صوت الأحرار، التقاء الأحرار والتنويريين والتنويريات في حلقات، مقاومة الاستبداد..... كل ذلك لمّا أراه أعرف أنّ الأمل والتغيير قادمان.
حاورها: موسى برهومة
حقوق النشر: قنطرة 2017