"خطأ جوهري في فهم المسألة الليبية"
تم تكليف المثقف الأكاديمي غسان سلامة (ولد سنة 1951) بمهمة مبعوث أممي في ليبيا خلفا للألماني مارتن كوبلر. شغل غسان سلامة منصبه مستشاراً سياسياً لكل من كوفي عنان وبان كي مون ثم للأمين الحالي أنطونيو غوتيرش.
وكان قد تقلد منصب وزير الثقافة في الحكومة اللبنانية بين عامي 2000 و2003 ثم عمل مستشارا سياسيا لبعثة الأمم المتحدة في العراق عام 2003 في فترة إنشاء مجلس الحكم الانتقالي في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين.
وحينها نجا من التفجير الإرهابي الهائل الذي دمر مقر بعثة الأمم المتحدة في العراق سنة 2003 والذي قضى فيه مبعوث الأمم المتحدة إلى العراق البرازيلي سيرجيو فييرا دي ميلو وأسفر عن عشرات القتلى.
مفكِّر سياسي بارز
غسان سلامة في الأصل مفكِّر سياسي بارز في السياسات اليومية وأستاذ العلوم السياسية في جامعة السوربون وعضو في المجلس الأعلى للفرنكوفونية. حاصل على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة باريس الأولى ودكتوراه في الآداب من جامعة باريس الثالثة. صدر له العديد من المؤلفات بالفرنسية والعربية منها "المجتمع والدولة في المشرق العربي" و"السياسة الخارجية السعودية منذ عام 1945 دراسة في العلاقات الدولية" و"نحو عقد عربي جديد - بحث في الشرعية الدستورية" و"التسوية: الشروط، المضمون، الآثار" و"من الارتباك إلى الفعل التحولات العالمية وآثارها العربية" و"أمريكا والعالم إغراء القوة ومداها".
وعلى هذه الخلفية الأكاديمية الفكرية والتجربة السياسية يأتي سلامة إلى مشهد "الربيع العربي" الخائب في وضعه الليبي المعقد في محاولة للاستفادة من رؤيته السياسية التحليلية الثاقبة لإشكاليات الواقع العربي المأزوم وتأثيرات التحولات العالمية عليه عله وعساه أن ينجح في اجتراح حل أخفق فيه قبله ثلاثة مبعوثين أمميين سابقين. أولهم كان ابن موطنه اللبناني طارق متري وهو أيضاً وزير ثقافة سابق. فما الذي يمكن أن يفعله خلافاً لما فعله الذين سبقوه؟! هل ستفيده معرفته الفكرية التحليلية العميقة للواقع العربي في إحداث اختراق جوهري في المسألة الليبية يفضي إلى استحقاق توافق سياسي جامع واستقرار أمني مستتب. أم أنه سينضم بعد فترة ما إلى قائمة زملائه المبعوثين السابقين الفاشل؟!
هكذا تكوَّن مشهد ليبي فوضوي عنيف
يأتي سلامة إلى المشهد الليبي الفوضوي العنيف بفكرة أن البلاد تعيش حرباً أهلية في ربط ذهني بالحرب الأهلية اللبنانية حسبما غرد على حائط صفحته في موقع تويتر قبل نحو سنتين. وهو بذلك يرتكب خطأ جوهرياً في فهم المسألة الليبية المبعوث للمساعدة في حلها، لأن ما يحدث في ليبيا (التي أعيش فيها وأراقب وأحلل دقائق أحداثها يوم بيوم) ليس به من طبيعة الحرب الأهلية شيئا. ليبيا تعيش حالة فوضى عامة.
فوضى من انتشار الأسلحة والصراع السياسي الإيديولوجي والجهوي على السلطة. فقد كان لدينا لأربعة عقود نظام الشخص الواحد. قُتل الشخص الواحد على يد المتمردين المسلحين بمساعدة حلف الناتو فاندثر نظامه السياسي وانهارت مؤسسات دولته الأحرى شبه دولته التي كانت عبارة عن مؤسسات حكومية ذات وظيفة خدمية لصالح توجيهات وتعليمات "الأخ القائد". اختفى عناصر الجيش والشرطة كأنهم فص ملح وذاب في بحر الناس. وبرز بدلا منهم ما أنزل الفراغ الأمني من مئات الميليشيات المتحاربة التي تتبع إيديولوجية إسلاموية (معتدلة/ متطرفة) أو مصالح جهوية وقبلية وبينها ميليشيات مصغرة لصوصية.
ثم ظهر في شرق ليبيا (إقليم برقة) العام 2014 حركة "الكرامة" العسكرية التي قادها اللواء المتقاعد خليفة حفتر اعتمادا على قوات من الجيش النظامي المنهار ومدعوماً من مجلس النواب المنتخب والحكومة المنبثقة عنه. بينما كانت الميليشيات الإسلامية تسيطر على غرب البلاد (إقليم طرابلس الغرب) حيث أقامت حكومة لها تحظى بتأييد من المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته والمؤسسة الدينية المتمثلة بدار الإفتاء برئاسة المفتى المتشدد الصادق الغرياني المبغوض شعبياً.
أما جنوب البلاد (إقليم فزان) فكان مسرحاً للتقاتل القبلي وتجارة تهريب البشر (الأفارقة) إلى أوروبا عبر البحر. والآن، فيما المبعوث سلامة يبدأ دراسة وقائع الملف الليبي، نجد المشهد العام للمسألة الليبية قائماً على الوضعية التالية: في طرابلس تمكنت الميليشيات التابعة للمجلس الرئاسي (المنبثق عن اتفاق الصخيرات) من طرد ميليشيات حكومة الإنقاذ الإسلامية خارج العاصمة.
بينما تسيطر القوات المسلحة بقيادة الجنرال حفتر على إقليمي برقة وفزان اللذين يشكلان نحو 80 في المئة من مساحة ليبيا وتقع ضمنهما معظم آبار وموانئ النفط.
فريقان رئيسان متنازعان في هيئة أجسام سياسية
إذن أمام المبعوث الأممي فريقان رئيسان متنازعان في هيئة أجسام سياسية على شرعية الحكم. من جهة الشرق يتواجد مجلس النواب (منتهية ولايته) والحكومة المؤقتة المنبثقة عنه والقيادة العامة للقوات المسلحة. وفي طرابلس يتواجد المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق المنبثقة عنه ومجلس الدولة الاستشاري. ويبدو ليّ، حسب متابعتي التشخيصية للأحداث والمتغيرات السياسية على مدى سبع سنوات، أن الحل السلمي الممكن لابد أن يقوم على التوصل إلى توافق سياسي بين الفريقين المذكورين.
ومعروف أن مناط الخلاف بينهما مرده الاتفاق السياسي الذي وقع عليه 22 برلمانياً ليبياً يمثلون أطراف الصراع في المؤتمر الوطني العام ومجلس النواب بمدينة الصخيرات المغربية العام 2015 تحت رعاية منظمة الأمم المتحدة. لكن مجلس النواب رفض اتفاق الصخيرات واعتبر أعضاءه الموقعين عليه غير مخولين رسمياً بالتوقيع نيابة عن مجلس النواب. وطالب بإجراء تعديلات على الاتفاق بالتوافق مع المجلس الرئاسي ومجلس الدولة الاستشاري بحيث يتم تقليص عدد أعضاء المجلس الرئاسي من تسعة إلى ثلاثة بواقع رئيس ونائبين وتشكيل حكومة مصغرة يكون فيها الجنرال خليفة حفتر قائدا عاما للجيش الليبي. وهناك إجماع وطني واسع على ضرورة إجراء تعديلات على الاتفاق وتولي الجنرال حفتر قيادة الجيش.
وقد تبني المبعوث الأممي السابق مارتن كوبلر مطلب التعديلات قبل نهاية ولايته بأشهر قليلة دون أن يتمكن من جمع الفرقاء حول طاولة الحوار. وهو ما ينبغي، في نظري، أن يعمل عليه المبعوث الأممي الجديد غسان سلامة إذا أراد أن يوفر الوقت والجهد بدلاً من استهلاكهما دون نتيجة في التعاطي مع أطراف محلية ليست ذات صلة مركزية بالأزمة السياسية مثل أعيان القبائل الشكليين أو التنظيمات السياسية الفاشلة أو منظمات المجتمع المدني القزمية أو أمراء الميليشيات المنبوذين اجتماعياً.
كما عليه أن يتخلص من تركة المستشارين الليبيين الذين أحاطوا بالمبعوثين السابقين وكان معظمهم سواء كانوا المقيمين منهم خارج ليبيا أو داخلها يمثلون مطامع شخصية ومصالح جزئية: حزبية وإيديولوجية وجهوية (مناطقية). وأن يأخذ في الاعتبار أن قوى الإسلام السياسي كالإخوان والجماعة الليبية المقاتلة ما عاد لهم وزن سياسي يُذكر ولا حاضنة شعبية وقد خسر غالبية مرشحيهم في انتخابات مجلس النواب يوليو 2014. كما لم يعد لهم وجود مسلح في برقة وفزان والعاصمة طرابلس. وما تبقى منهم عبارة عن جماعات مسلحة صغير منتشرة في بعض المدن والبلدات غير قادرة عسكرياً على العودة للعاصمة.
وينبغي على سلامة ألا يعطي أي وزنا سياسيا في معادلة الحل الوطني التوافقي لنفوذ مدينة بعينها مثل مصراتة المسلحة أو خصمها مدينة الزنتان المسلحة.
إن ركيزة الحل السياسي الممكن، حسبما تتبدي من قراءة المشهد الليبي، ماثلة في جمع ممثلي الأجسام السياسية المتخاصمة حول طاولة حوار وطني: من جهة المجلس الرئاسي (في طرابلس) ومن جهة أخرى مجلس النواب (في برقة) علاوة على الجنرال حفتر الذي تسيطر قواته على نحو 80 في المئة من أراضي البلاد. وأخيراً على سلامة ألا يرضخ لضغوط المتدخلين الدوليين (الأمريكي البريطاني الفرنسي الإيطالي.. تحديدا) وإليهم المتدخلين الإقليميين (السعودي الإماراتي القطري الجزائري التركي.. تحديداً) على حساب استحقاق حل سلمي توافقي ناجم عن حوار ليبي ليبي بحت.
فرج العشة
حقوق النشر: فرج العشة/ موقع قنطرة 2017
[embed:render:embedded:node:26851]