ما هي أسباب طول أمد السلطوية الفاشلة في بلاد العرب؟
باستثناء منطقة الخليج، ما تزال معدلات الفقر والبطالة والأمية في عموم العالم العربي مرتفعة للغاية بينما تتدنى إلى مهابط غير مسبوقة مستويات الخدمة العامة المقدمة في قطاعات حيوية كالتعليم المدرسي والجامعي والصحة والضمانات الاجتماعية لإعانة محدودي الدخل والفقراء والعجائز.
ويستمر إخفاق الأنظمة السلطوية الحاكمة في مكافحة ظواهر خطيرة مستشرية ومعطلة للتنمية الحقيقية كالفساد والمحسوبية واستغلال المنصب العام والغياب شبه الكامل للشفافية والمحاسبة كمبادئ يتعين أن تحكم عمل المؤسسات العامة والخاصة.
غياب الحكم الرشيد
وعلى الرغم من ذلك، لا تواجه السلطوية الحاكمة تحديات حقيقية أو واسعة النطاق من قبل مجتمعاتها ولا تحتاج إلا إلى توظيف القمع الواسع النطاق وقليل الكلفة للسيطرة عليها.
تكمن المفارقة، إذاً، في تواكب عجز نخب الحكم العربية الاجتماعي والاقتصادي وفقدانها لشرعية الإنجاز مع استمرارية مريحة وغير مكلفة للسلطوية.
ولشرح وتحليل المفارقة هذه، يمكن استدعاء عدة مقاربات يقدمها علم السياسة وعلم الاجتماع السياسي.
يتمثل جوهر المقاربة الأولى في تحليل فعل المؤسسات العسكرية والأمنية والاستخباراتية التي تغولت بصورة واضحة وأضحت مخصصاتها المالية تستحوذ على نصيب يتزايد باطراد في الموازنات العامة.
لم تعد أدوار الأمنيين قاصرة على تعقب ومراقبة قوى المعارضة والتوظيف الممنهج للأدوات القمعية إزاء من تراهم نخب الحكم مصدرا لتهديدات آنية أو محتملة قد ترد على سيطرتها، بل تجاوزت ذلك بوضوح. تجاوزته باتجاه تغليب منطق الإدارة الأمنية المباشرة للعديد من الملفات المجتمعية والسياسية الحيوية، بدءا من ملفات كتعيين حدود نشاط منظمات المجتمع المدني والنقابات المهنية والخطوط الحمراء لممارسة الحريات الإعلامية مرورا بهوية وتفاصيل النظم الانتخابية المعمول بها على المستويين الوطني والمحلي وكيفية تقطيع الدوائر الانتخابية وانتهاء بتعديل مواد دستورية وقوانين تنظم مباشرة الحقوق السياسية والمدنية.
لا صوت يعلو فوف صوت الأمن
اليوم، المؤسسات العسكرية والأمنية والاستخباراتية هي صاحبة الكلمة الفصل في تحديد توجهات نخب الحكم ووضعها موضع التنفيذ متقدمة في نفوذها على كل ما عداها من الجهات التنفيذية الأخرى، وزارات كانت أو هيئات متخصصة. كما تضخم تمثيل الأمنيين في بيروقراطية الدولة وأجهزتها خاصة تلك المضطلعة بتسيير شئون الجهات والمحليات بصورة بلورت شبكة شاملة ونافذة للإدارة الأمنية والاستخباراتية «الناعمة» للمجتمع يصعب معها على المواطنين التحرك المنظم لمجابهة السلطوية الجاسمة، ويسهل على نخب الحكم استخدامها لإطالة أمد السلطوية (الجزائر نموذجا) أو لإعادة تأسيسها كما حدث في مصر بعد 2013.
يتبع تحليل تغول المؤسسات العسكرية والأمنية والاستخباراتية مقاربة ثانية مناط نظرها هو شرح تداعيات نزوع نخب الحكم العربية نحو شخصنة وتركيز السلطة وأدوات ممارستها حول مجموعة صغيرة العدد ذات مصالح متجانسة وتربطها تحالفات عضوية تحد كثيرا من الإمكانية الفعلية لنشوب صراعات داخل النخب، وهذه شكلت في بعض الخبرات العالمية المعاصرة لانهيار أنماط الحكم السلطوي إما قاطرة التغيير الديمقراطي أو حفزت بداياته.
فوراء واجهة تبدو تعددية لبعض نخب الحكم العربية بمكوناتها العسكرية والأمنية والمدنية وبالأجيال المختلفة الممثلة داخلها من كبار السن ومتوسطي العمر وبحساسيتها المتنامية لثنائية النوع التي صعدت في إطارها بعض الوجوه النسائية إلى المستويات العليا للمسؤولية التنفيذية، ثمة استمرارية لافتة لشخوص الممارسين الحقيقيين للسلطة وتدوير مستدام لهم في جنبات الحكم والحياة السياسية وفقا لاستراتيجيات محكمة.
ففي مقابل عدد محدود من العوائل النافذة لا يخلو أي تشكيل وزاري أو موقع عسكري وأمني هام من أسماء منتمين لها في الأردن على سبيل المثال، يسيطر على مفاصل ممارسة السلطة في المغرب ومصر شخصيات معروفة منذ زمن ليس بالقصير قد يجدها الباحث في مواقع تشريعية وتنفيذية وحزبية مفصلية لا تغادرها (المغرب) وقد يتتبع أحيانا عبر عقود ومراحل تدويرها من موقع إلى آخر وفقا لقراءة النخب لظروف المرحلة المعنية واستحقاقاتها (مصر).
أما المقاربة الثالثة الممكن استدعائها لشرح طول أمد السلطوية في بلاد العرب، فمحورها هو توفر نخب الحكم العربية بالرغم من فقدانها لشرعية الإنجاز وعجزها عن تقديم المنتظر منها مجتمعيا على خطابات رسمية لا تعدم القدرة الإقناعية لدفع مواطنين يعانون من ظروف معيشية قاسية إلى تفضيل بقاء الحكام الفاشلين ورفض مطالب التغيير الديمقراطي.
توظف النخب مؤسساتها الدينية والإعلامية، إن المدارة حكوميا دون مواربة أو المسيطر عملا على فعلها وممارساتها اليومية، لإنتاج لحظة إدراكية ممتدة في المخيلة الجمعية يرادف في سياقها بين المطالبة بالتغيير وبين تهديد النظام العام وخطر دفع البلاد إلى حالة من الفوضى العارمة، وهو ما يحول دون ترجمة طاقة الرفض لدى المواطنين الناتجة عن سخطهم الحقيقي على أداء النخب إلى عمل شعبي منظم يتخطى حدود النشاط الاحتجاجي العفوي والجزئي الذي تشهده بعض بلاد العرب.
ولا ريب في أن القدرة الإقناعية لخطابات «التخويف من التغيير» الرسمية ليست بمنقطعة الصلة عن الانهيارات المتكررة للسلم الأهلي والدول الوطنية في سورية وليبيا واليمن والعراق أو عن إخفاق قوى المعارضة، التي ترفع شعاري الديمقراطية وحقوق الإنسان في تمثل المضامين الفعلية للشعارين في فكرها وممارساتها.
وكذلك عجز تلك القوى عن صياغة تصور برنامجي للتغيير المرتجى واضح المعالم ومطمئن لمواطنين تفرض عليهم قسوة الظروف المعيشية الحذر المستمر وعلمتهم تجارب الماضي المريرة الخوف على القليل المتهافت الذي يتمتعون به اليوم من تداعيات تغيير مستقبلي قد يأتي عليه.
عمرو حمزاوي
حقوق النشر: قنطرة 2017
عمرو حمزاوي كاتب ومحلل سياسي معروف من مصر.