ماذا لو انتصر داعش؟
"ماذا لو انتصر داعش؟" سؤال طرحه مؤخرا ستيفن والت البروفيسور المرموق في العلوم السياسية بجامعة هارفارد في مقال نشرته مجلة "فورين بوليسي"، والبروفيسور والت هو صاحب الدراسة التي أثارت جدلا عالميا في عام 2010، حول نهاية العصر الأميركي، وتنبأ فيها بنهاية الهيمنة الاميركية على العالم، ودعا فيها الولايات المتحدة إلى إعادة ترتيب أولويات سياساتها الخارجية والتخفيف من أعبائها والتزاماتها تجاه الخارج بما بتناسب مع الأولويات الجديدة، وبما يضمن الحفاظ على موقع الولايات المتحدة ومكانتها في النظام العالمي الجديد، وتفادي المغامرات العسكرية التي تؤدي إلى هدر الموارد الأميركية في حروب لا طائل من ورائها كما كان الحال في حربي أفغانستان والعراق.
طروحات البروفيسور والت ذات قيمة في الأوساط البحثية والأكاديمية، ومن ثم فإن تساؤله عن احتمالية انتصار داعش في المعركة الدائرة حاليا معها في العراق وسوريا، تعبر عن توجه بحثي حقيقي وجاد، وليس مجرد افتراض خيالي لا أساس له، لاسيما أن والت انطلق في مقالته من التعبير عن قلقه من هكذا احتمال، وأنه لا يعني بالانتصار أن يتمكن قادة داعش من تحقيق طموحاتهم بنشر نفوذهم في جميع أرجاء العالم الاسلامي واقامة دولة الخلافة المزعومة من بغداد إلى الرباط، بل يعني تحديداً أن يحافظ داعش على سيطرته على المناطق التي استولى عليها، وأن ينجح في تحدي الجهود الخارجية الرامية إلى تقويضه وتدميره، وهو احتمال وراد بدرجة في ضوء تطورات الأحداث على الأرض وعجز الجيش العراقي عن شن هجوم مضاد ناجح بحسب مايقول البروفيسور والت.
المقال يعبر عن الذهنية البحثية الأميركية القائمة على التفكير في الاحتمالات كافة بغض النظر عن الموقف الذاتي تجاه هذه الاحتمالات، أو بمعنى آخر القيام بالدور المتوقع من مصانع الفكر في دراسة السيناريوهات كافة، السىء منها والجيد على حد سواء، لا تقديم "دراسات تبريرية" للسياسات والخطط القائمة.
الخبر الأسوأ في فرضية البروفيسور والت أن داعش قد يتحول إلى "حقيقة" تتطلب تدخلا عسكريا عربيا بريا لإزالة وجود هذا التنظيم من الأراضي العراقية والسورية، لاسيما أن المزاج السياسي الأميركي لم يعد يقبل بفكرة التدخل العسكري لتحقيق أهداف ذات اولوية لدول أخرى وأقل أهمية ضمن أولويات المصالح الأميركية، والاكتفاء بإستراتيجية "القيادة من الخلف" التي ابتكرتها إدارة أوباما وباتت تحظى بتقدير ملموس داخل الأوساط الأميركية.
القاعدة الاستراتيجية التي تحكم القرار الأميركي في الآونة الراهنة تنطلق من حسابات المصالح البحتة، وهذا يتطلب أن تتفوق المصالح الاميركية في التدخل البري ضد داعش ماعداها من مصالح وهذا أمر مشكوك فيه، لأن "الهدف" لم يزل أولوية قصوى عربية وليست أميركية، وبالتالي يصعب توقع لجوء واشنطن إلى خوض حرب برية ضد داعش.
البروفيسور والت طرح في مقاله بديلاً للتعامل مع داعش، وهذا البديل ينطوي على خطر استراتيجي حقيقي وهائل، وهذا البديل يتمثل في انتهاج سياسة الإحتواء تجاه "دولة داعش"، معتبرا أن التنظيم ودولته المزعومة لن يكونا لاعبا عالمياً كي يتم إهدار القوة الأميركية في مواجهتها، ومبررا ذلك بأن حشد نحو 25 ألف جهادي من بين سكان العالم الذين يبلغ تعدادهم نحو سبعة مليارات نسمة ليس بالأمر الذي يثير قلق القوة العظمى الأولى.
الاعتراف بالأمر الواقع والقبول بفكرة وجود دولة لداعش
ما يثير القلق أن البروفيسور والت يتحدث بنوع من الاعتراف بالأمر الواقع والقبول بفكرة وجود دولة لداعش في الاقليم، ويقول أن داعش بدأ بالفعل يؤسس هياكل إدارية للدولة من خلال فرض الضرائب ومراقبة الحدود وبناء القوات المسلحة والتعاون مع الجماعات المحلية، وأن بعض الدول المجاورة باتت تعترف بهذا الواقع ضمنياً من خلال غض الطرف عن عمليات التهريب التي تملأ خزائن التنظيم، والاشارة هنا غالبا إلى تركيا. وبالتالي يتساءل: كم من الوقت سيمر حال استمرار هذا الوضع قبل أن تشرع الدول الأخرى في الاعتراف بداعش كحكومة شرعية؟ ويجيب قائلا: هذا قد يبدو غير معقول، ولكن المجتمع الدولي حاول كثيراً عزل حركات ثورية قبل الاعتراف بهم على مضض في النهاية. وإذا نجح داعش في التمسك بالسلطة وتعزيز مكانته وإقامة دولة فعلية في ما كان في السابق جزءاً من العراق وسورية، فسوف تحتاج الدول الأخرى إلى العمل معا لإطلاعه على وقائع الحياة في ظل النظام الدولي.
ربما يكون ستيفن والت مبالغاً بعض الشيء في طرحه من وجهة نظر البعض في منطقتنا، ولكن العقل البحثي الموضوعي يفكر بطريقة مغايرة للساسة والقادة العسكريين، ويتعامل مع حقائق مجردة؛ ولو نظرنا من هذه الزاوية تحديداً ربما يكتسب طرح والت قدراً لا بأس به من المنطقية والوجاهة البحثية على الأقل من الناحية النظرية، فهناك احتمالية ـ ولو ضئيلةـ لافلات داعش بجريمته وتحوله إلى كابوس مزمن في خاصرة المنطقة العربية.
ولذا، فإن صانعي الاستراتيجيات العربية باتوا في مواجهة مصادر خطر إضافية جمة، إذ أن داعش لن يكتفي كما يعتقد منظرو الغرب بالبقاء ضمن فلك دولته المزعومة في العراق وسوريا، ففكرة "الجهاد" ذات قوة دفع عقائدية متجددة ينبغي أن تؤخذ بالاعتبار على المستوى التحليلي، ومن ثم فإن سياسة الإحتواء قد تغري التنظيم بمزيد من التمدد والتوسع.
لا أريد ـ شخصيا ـ أن أبدو في مظهر المتشائم أو المهتم بسيناريو ذا احتمالية ضعيفة، ولكن في المقابل ينبغي الاعتراف بأن الخطط الأميركية حول داعش لا تبشر بزوال وشيك لهذا التنظيم البغيض، ومن ثم فإن عامل الزمن ليس في صالح الدول العربية، فأفكار التنظيم تتمدد يوميا تقريبا في مناطق جديدة، و"نموذجه" يغري آخرين باستنساخه ومن ثم فإن مقدرة التنظيم على البقاء باتت بمنزلة "انتصار" معنوي ربما يلهم البعض لتكراره، بما لهذا الانتصار المزعوم من مغزى ودلالات لو نظرنا إليه في ضوء الفكر المتشدد الذي تعتنقه التنظيمات الارهابية المتطرفة، فلا يجب أن نتجاهل بعض الحقائق على هذا الصعيد ومنها ان داعش قد انتقل إلى مرحلة متقدمة في ترجمة خطة "إدارة التوحش" التي طرحها منظرو تنظيم "القاعدة" كخارطة طريق لبناء الدولة الإسلامية المزعومة.
من هنا يفترض أن يكون مصير داعش ـ الوجودي والفكري ـ الشغل الشاغل لمراكز الدراسات والبحوث العربية، لوضع سيناريوهات وبدائل وحلول للتعاطي مع وجود محتمل ـ ولو بنسبة ضئيلة ـ لداعش مع بروز محتمل أيضا لتوجه غربي ما لغض الطرف عن هذا الوجود وتوظيفه استراتيجيا لمشاغبة قوى إقليمية عربية.
سالم الكتبي
حقوق النشر: سالم الكتبي 2015
سالم الكتبي كاتب من الإمارات