انطلاقة لبنان الجريح؟
قُتل أكثر من مائتي شخص ودُمِّرت أجزاء كبيرة من مدينة بيروت عندما انفجر في مرفأها في الرابع من آب/أغسطس 2020 نحو ثلاثة آلاف طن من مادة نترات الأمونيوم. لقد كانت موجة الضغط الناجمة عن هذا الانفجار قويةً جدًا لدرجة أنَّها ألحقت أضرارًا بنحو ستة آلاف وأربعين مبنًى تاريخيًا. وباختصار كان انفجار مرفأ بيروت كارثةً جديدة بالنسبة للبنان المعروف بمعاناته من حرب أهلية وأزمات سياسية وتدهور اقتصاده.
وأصاب الانفجار العديد من المواقع الثقافية أيضًا. وتضرَّر كثيرًا من الانفجار متحفُ نِقولا إبراهيم سُرسُق، وهو أقدم مؤسَّسة ثقافية مستقلة في لبنان. استمرَّت أعمال ترميم هذا المتحف ثلاثة أعوام تقريبًا وتم تنفيذها بأكثر من ثلاثة ملايين دولار أمريكي بدعم من فرنسا وإيطاليا ومنظمة اليونسكو.
وقد تم افتتاح المتحف من جديد في آب/مايو 2023. وحول ذلك يقول كلاوس ديتر ليمان، وهو الرئيس السابق لمعهد غوته الألماني ومؤسَّسة التراث الثقافي البروسي: "هذه معجزة وبارقة أمل"، لا سيما وأنَّ متحف سُرسُق كان لعقود من الزمن "مرساةً للمشهد الثقافي اللبناني ومعرضًا للإنتاج الفني في لبنان". وحتى أنَّ مديرة المتحف كارينا الحلو قالت: "هذا الافتتاح يرمز إلى الأمل وإلى عودة الحياة الثقافية في لبنان".
ولعل كارينا الحلو محقة فيما تقول. وذلك لأنَّ بيروت التي كان يُطلق عليها في السابق لقب "باريس الشرق" ليست فقط كما يصفها كلاوس ديتر ليمان بأنَّها "مدينة منهكة". وانفجار مرفأ بيروت أصاب أيضًا قلب الحياة الثقافية في العاصمة اللبنانية.
حيث تم في منطقتي الجميزة ومار مخائيل تدمير المقاهي والمساحات البديلة التي كانت تقام فيها أمسيات شعرية وندوات أو حفلات موسيقية حية صغيرة، وكذلك تدمير استديوهات لتصميم المجوهرات والأثاث والملابس.
المسؤول عن الانفجار ما يزال مجهولًا
ما يزال العديد من المتضرِّرين من الانفجار -ومن بينهم العديد من العاملين في المجال الثقافي- يخشون مثل ذي قبل من أنْ يتم الآن شراء المباني التي يعملون فيها من قِبَل مستثمرين كبار. وسيكون هذا نهاية المشهد الثقافي البديل في بيروت. ولكن توجد احتجاجات: فكثيرًا ما نشاهد على جدران المباني لافتات كبيرة كُتب عليها بأحرف حمراء مثيرة للانتباه وبتحدٍ: "نحن باقون".
تقول الفنانة الألمانية اللبنانية أندريه صفير زملر متذكِّرةً: "دمَّر الانفجار الكثير. والكثير من الموسيقيين فقدوا آلاتهم والكثير من الرسامين فقدوا أعمالهم الفنية". وهي متخصِّصة في الفن العربي المعاصر وتدير -بالإضافة إلى معرضها في هامبورغ- فرعًا له في بيروت يقع مباشرة مقابل المرفأ وقد دمَّر الانفجار الضخم في آب/أغسطس 2020 صالات معرضها بالكامل. وحتى يومنا هذا لا يزل من غير الواضح مَنْ هو المسؤول عن هذه الكارثة.
ويقول كلاوس ديتر ليمان: "لا يزال المشهد الفني اللبناني موجودًا ولكنه يتضاءل في داخل لبنان". ويشير بذلك إلى أنَّ ما يقلق لبنان هو تزايد الهجرة الجماعية غير المحدودة للعاملين في مجال الثقافة أكثر بكثير مما كانت عليه قبل الانفجار. فقد دفعت الأزمة الاقتصادية والفساد كثيرين من المبدعين إلى الهجرة خارج لبنان.
وفي هذا الصدد تقول أيضًا آنه إيبرهارد، وهي مديرة معهد غوته في بيروت، إنَّ: "المشهد الثقافي في بيروت اليوم منتشر في جميع أنحاء العالم". وتضيف أنَّ هناك أوساطًا فنية لبنانية كبيرة ظهرت في الشتات وخاصة في فرنسا وألمانيا. وتقول مازحةً إنَّ "برلين باتت تتحوَّل وعلى نحو متزايد إلى ما يشبه العاصمة الثقافية العربية".
دور الفن والثقافة المحوري
وفي المقابل اضطرت في بيروت الكثير من المؤسَّسات الثقافية إلى الاستسلام أو تقليص حجمها. ولكن ماذا عن الحياة الفنية الرومانسية؟ حول ذلك قالت آنه إيبرهارد لدويتشه فيله: "يجب على المرء هنا أوَّلًا وقبل كلِّ شيء أن يكون قادرًا على تحمُّل تكاليفها!".
وهي تصف لبنان بأنَّه بلد التناقضات الصارخة بين الأغنياء والفقراء فيه العديد من الجماعات العرقية وثماني عشرة طائفة دينية - في "عالم سلطوي مقسَّم". وفي لبنان الذي عشرون في المائة من سكَّانه لاجئون سوريون: تقول آنه إيبرهارد إن "الفن والثقافة يمكن أن يكونا مُسَيَّسين جدًا هنا!".
من المعروف أنَّ ميزان القوى في لبنان يعتبر في الواقع هشًّا منذ أن تقاسمت الجماعات الطائفية السلطة فيما بينها في اتفاق الطائف عام 1989 الذي وضع بذلك نهاية للحرب الأهلية اللبنانية. لقد أوقعت الحرب الأهلية التي استمرت خمسة عشر عامًا من عام 1975 وحتى عام 1990 لبنان في حالة فوضى.
"الفن والأدب بات يتم تسييسهما وأدلجتهما على نحو متزايد"، مثلما يوضح الوسيط الثقافي كلاوس ديتر ليمان. كما أنَّ المعارك العنيفة -على جبهات وتحالفات متغيِّرة بسرعة- أدَّت فجأة إلى إنهاء حقبة بيروت الإنتاجية بعد الاستقلال عن فرنسا في عام 1943.
لبنان كان دائمًا بلد الثقافة
أصبح الفن والثقافة يلعبان اليوم دورًا محوريًا بالنسبة للبنان أكثر من أي وقت مضى. ويتجلى هذا من ناحية في مشهد "الفنانين الناشئين" الشباب الذين -بحسب آنه إيبرهارد- يحدِّدون شكل الحياة الثقافية ويساهمون فيها: على سبيل المثال عرض بعض الفنانين الشباب مسرحيات في الشوارع وفي مخيمات اللاجئين.
وكذلك نظَّم آخرون مهرجانات خارج بيروت أيضًا وحملوا هكذا الثقافة إلى المناطق المهملة جدًا من قِبَل السياسيين. ويساعد معهد غوته في مثل هذه المشاريع ماليًا -بحسب آنه إيبرهارد- وكذلك من خلال العلاقات والاتصال ويقدِّم "مساعدات هيكلية" حيث يوجد نقص في التمويل الثقافي الحكومي: يدعم على سبيل المثال برنامج معهد غوته "آرت إيڤولوشن" (ArtEvolution) الفنانين الشباب في إنتاجهم الخاص.
يعمل الكثير من الفنانين اللبنانيين ضدَّ عقلية التكتُّلات المنتشرة الخاصة بالطوائف الدينية، وتدور أعمالهم حول تجارب اللجوء والمخيمات والمنفى والفقر المدقع والحرب الأهلية والتشرُّد السياسي.
وتقول القائمة على قاعة غالري صفَيْر زملِر الفنية إنَّ "الفن اللبناني المعاصر أصبح اليوم السلطة الوحيدة في لبنان التي لا تعتمد على واحدة من الطوائف الدينية الثَّمانيَ عشرة". وتضيف أنَّ بيروت ما يزال يسود فيها بين الناس قدرٌ معيَّن من التسامح أكثر من أي مكان آخر في العالم العربي.
"لماذا يوجد مثل هذا المشهد الفني في لبنان وليس في سوريا أو في مصر أو في دول الخليج؟"، مثلما تتساءل الخبيرة الفنية أندريه صفير زملر، وتُقدِّم الجواب مباشرة بقولها: "لأنَّه لا توجد أية مدينة عربية يتمتَّع فيها الناس بالحرية كما في بيروت".
خطط لمتحف فني جديد
ويزدهر في ظلّ هذا الوضع المعقَّد أحدثُ مشروع ثقافي في بيروت، ولكنه لا يخلو تمامًا من الجدل: فمن المقرَّر إنشاء متحف بيروت للفنون BeMA في موقع ليس بعيدًا عن المتحف الوطني الذي يحفظ كنوز لبنان الأثرية، وبجوار متحف خاص للمعادن والمركز الثقافي الجديد "بيت بيروت". ومن الممكن لمتحف بيروت للفنون أن يضم مجموعة وزارة الثقافة اللبنانية ويعرضها لأوَّل مرة للجمهور.
وهناك نحو ألفين وثلاثمائة عمل فني من الفن الحديث والمعاصر معظمها لفنانين لبنانيين ما تزال مخزونة في المستودعات في حالة بائسة - بحسب معلومات المتحف: توجد لوحات مليئة بالثقوب وبعض الأعمال يغطيها الغبار والعفن وتماثيل ومنحوتات مكسورة - فقد تركت الحرب الأهلية آثارها هنا أيضًا. بدأ ترميم هذه الأعمال في عام 2016 بدعم من ألمانيا.
ولكن ربما لهذا السبب بالذات قد تم اختيار تصميم مبنى المتحف المقدَّم من المهندسة المعمارية اللبنانية آمال أندراوس، التي تعيش في الولايات المتحدة الأمريكية. يبدو هذا التصميم وكأنَّه يدعو الناس إلى زيارته: تتكَّون واجهته الأمامية من شرفات مفتوحة ويمكن النظر من الخارج إلى الدرج وداخل المبنى. وقد جمع المتبرِّعون من القطاع الخاص جزءًا كبيرًا من تكاليف بناء متحف بيروت للفنون والمقدَّرة بثلاثين مليون دولار. وقد تم قبل فترة قصيرة وضع حجر أساس المتحف.
ولكن يبدو أنَّ المبادرين بمشروع بناء المتحف يراودهم الشك في كون هذا المشروع لا يزال مناسبًا في ظلّ تدهور الوضع الاقتصادي في لبنان، حيث "كانت السنوات القليلة الماضية متقلبة كثيرًا"، بحسب صحيفة فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ الألمانية نقلًا عن ميشيل حداد، الذي كان حتى شهر أيَّار/مايو 2023 مديرًا لمتحف بيروت للفنون. وأدَّى -بحسب تعبيره- الوضع المتدهور إلى إعادة النظر في هذا المشروع.
وعلى الرغم من جميع المخاوف من المقرَّر إنهاء بناء المتحف بحلول عام 2026. وبحسب موقع المتحف على الإنترنت فإنَّ "متحف بيروت للفنون ينظر إلى المجتمع كشريكٍ مساهم وفعَّال في عملية تحفيز التفاعل الاجتماعي وتعزيز ثقافة الإبداع. سيشكِّل المتحف حيِّزًا مخصَّصًا لتمثيل تاريخ لبنان الغني، ولنشر وتوسيع الذاكرة الثقافية المشتركة".
لا تمدح القائمة على قاعة غالري صفير زملر الفنية المتحفَ فقط: "سنرى كيف سيجد الناس هندسة بناء المتحف الجديد وما الذي سيجري فيه ومن أين ستأتي الأعمال الفنية ومن سيدفع ثمنها في النهاية"، كما تقول أندريه صفير زملر. وتضيف: "لكنه على أية حال أفضل من لا شيء!".
شتيفان ديغه
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: دويتشه فيله / موقع قنطرة 2023
[embed:render:embedded:node:41133]