الأسد يستأسد على شعبه!
عندما أمر الرئيس السوري السابق حافظ الأسد بقتل عشرة آلاف شخص في مدينة حما كان ابنه بشار لم يتجاوز السادسة عشرة بعد، وكان بعيداً كل البعد عن بحور السياسة. آنذاك لم يكن في سوريا سوى رد واحد على التمرد: القمع والقتل. كان ذلك في عصر الحدود المغلقة، عصر خلا من الإنترنت والفضائيات. منذ ذلك الحين أضحت حما رمزاً للرعب.
تولى بشار الأسد مقاليد الحكم في سوريا خَلَفاً لوالده في عام 2000. واليوم تتجه أنظار العالم كله إلى سوريا لتراقب الأسد الشاب في صراعه للبقاء على كرسي الحكم. كاميرات التليفونات المحمولة تصور الدبابات في درعا، والمتظاهرين الذي قتلوا ضرباً بالرصاص في جبله، وكذلك الجنود المدججين بالسلاح في ضواحي دمشق. في الأيام الماضية وحدها لقى أكثر من مئة شخص حتفه، كما تم إلقاء القبض على مئات من المتظاهرين المنادين بالديمقراطية، هذا عدا المئات الذين اختفوا.
التظاهرات ضد الديكتاتور ما زالت مستمرة. رئيس البلاد يقف أمام اختيارين: أن يلين أو أن يقضي على الأخضر واليابس. أما الطريق المؤدي إلى الإمكانية الثالثة – أي البدء في عملية إصلاح شجاعة وسريعة – فيبدو أن الرئيس السوري قد أغلقه تماماً. هل سيتجاوز بشار الأسد هذه الأزمة؟
تنازلات متأخرة ومتواضعة للغاية
ارتكب الأسد خلال الأسابيع الماضية أخطاء كثيرة. أكثر من اللازم. كان يريد السماح بالتغيير وفي الوقت نفسه منعه. يعلن نهاية حالة الطوارئ ويأمر الشرطة بضرب المتظاهرين. يعد بالإصلاح ("في الوقت الصحيح والمناسب") ثم يرسل الجنود إلى مناطق الاحتجاجات. لقد سمح الأسد للنواب في البرلمان الشكلي في دمشق بأن يحتفلوا به حاكماً حكيماً. كان ذلك ينم عن التعجرف وهو ما جعل عدداً أكبر من المتظاهرين يخرجون إلى الشارع.
بعد أسابيع من الاحتجاجات تجاوز الأسد أخيراً مخاوفه وقدّم في يوم الجمعة (22 أبريل / نيسان) تنازلات سياسية، فرفع حالة الطوارئ وألغى المحاكمات الخاصة ذات السمعة السيئة. ولكن سرعان ما أعقب ذلك التدخل الوحشي للجيش – فسالت الدماء على شوارع درعا ودمشق وقمعت الاحتجاجات بعنف غير مسبوق. كيف يصدق الإنسان هذا الرجل بعد ذلك؟ وإلى أي حد يستطيع المرء أن يأخذه مأخذ الجد؟
كان لدى بشار الأسد منذ شهر يناير / كانون الثاني ما يكفي من الوقت لدراسة كافة تفاصيل الأخطاء التي ارتكبها الرئيسان بن علي في تونس ومبارك في مصر. كان بإمكانه أيضاً أن يرى كيف كان الحاكمون في المملكة العربية السعودية يقمعون كل حركة احتجاجية ويئدونها في مهدها.
الدرس الذي رآه في الرياض: إذا أراد المرء أن يبقى صلباً فعليه أن يقبض على مَن يبدأ بالتظاهر، وأن يصدر قراراً بمنع كافة الاحتجاجات في البلاد، وأن يُنعم على شعبه بسيل من الهدايا النقدية. أما الدرس الذي تعلمه من مصر وتونس: من يلين ويستجيب فعليه أن يقدم تنازلات جدية، وإلا فإن المرء سيظل يعدو خلف مطالب المحتجين.
التكتيك الدفاعي الذي استخدمه الأسد يشبه فيما يتعلق بالتنازلات تردد بن علي ومبارك: تنازلات أقل من اللازم، أصغر من اللازم وبعد فوات الأوان. على ما يبدو فإن ذلك يكمن في جينات الحكام العرب. أو ربما يرجع إلى بشار الأسد نفسه. فحتى الآن حصل بشار على كل ما كان يريده تقريباً. لقد تمتع لفترة طويلة – وخلافاً لمبارك – بحب الشعب بسبب موقفه الصلب تجاه إسرائيل وتحفظه تجاه الولايات المتحدة. لماذا إذن سيكون الفشل من نصيبه في هذه المرة تحديداً؟
السلطة على طبق من ذهب
لسنوات طويلة كان الحاكمون في الشرق الأوسط ينظرون بحسد إلى زميلهم البالغ من العمر خمسة وأربعين عاماً. لم يكن بشار الأسد مرغماً في يوم من الأيام على خوض صراع من أجل الحصول على السلطة. لقد قُدمت له على طبق من ذهب. عندما كان والده يأمر الجيش بشن حملة على الإخوان المسلمين المتمردين في حما كان بشار الأسد يدرس في المدرسة الثانوية الفرنسية العربية في دمشق. بعد ذلك درس دراسة مدنية، ألا وهي الطب، في سورياً في البداية ثم في لندن. وهكذا تخرج طبيباً للعيون.
لم يفكر حافظ الأسد في بشار ليخلفه على كرسي الحكم في سوريا، بل في أخيه باسل. غير أن الأخير لقي نحبه في عام 1994 إثر حادث بالسيارة. عندئذ بدأ نجم السياسي بشار الأسد في الصعود. وعندما توفي والده بعد ذلك بست سنوات كان كل شيء قد رُتِب. في منطقة تسود فيها الدسائس والمكائد والحاجة أحياناً إلى استخدام الرصاص للتخلص من شخص بعينه، فإن هذا المرشح للرئاسة أمسك بكل سهولة بمقبض المكتب وجلس على كرسي الرئيس مبتسماً.
كان شاباً ذا شعبية. بدا وكأنه بعيداً تماماً عن وحشية الأب ومكره الفطري الذي مكنه من البقاء على كرسي الحكم طويلاً. كان الانطباع الذي يولده لدى الزائرين – أيضاً من الغرب – أنه إنسان عملي ولطيف. إنسان منفتح أمام التغيرات. في عام 2000 أعلن بشار الأسد تنفيذ برنامج للإصلاح السياسي ووعد بمكافحة الفساد. السوريون الظامئون إلى الديمقراطية صدقوه وتجرأوا بعد عقود طويلة عاشوها في قبضة النظام الحديدية على الحديث بصراحة وإعلان آراءهم بحرية. هكذا أُسست منتديات النقاش المستقلة.
بين الاستمرارية والتحديث
غير أن الربيع الدمشقي لم يستمر إلا لوهلة قصيرة، إذ سرعان ما تم إلقاء القبض على المعارضين في العام التالي، 2001، كما تم الحكم على المدافعين عن حقوق الإنسان. وهكذا بقي حزب البعث القوة الوحيدة المسموح لها بالعمل السياسي في البلاد. كشف بشار الأسد عندئذ عن وجهه الحقيقي. لم يكن مصلحاً بل – وكما يقول فولكر برتس، مدير مؤسسة العلوم السياسية في برلين – محدِّثاً؛ تكنوقراطياً يعمل على تحديث البلاد عبر القيام بتحسينات تزيد من الفعالية ليس إلا، ولكن دون أن تهدد نظام الحكم أو أن تسمح بالمزيد من الحريات.
شرع بشار الأسد في إدخال الكمبيوتر إلى الجهاز البيروقراطي البالي، وفي تجديد دماء الاقتصاد عبر إقامة نظام مصرفي ومالي راسخ، وفي تزويد أجهزة الاستخبارات بأحدث الوسائل التكنولوجية. قام الأسد بتحديث أسس الحكم والاقتصاد.
تماماً مثلما فعل مبارك في مصر. الفارق الوحيد هو أن بشار الأسد كان محظوظاً لأن سوريين كثيرين كانوا لفترة طويلة راضين عن ذلك، بينما كان المصريون يكرهون مبارك، وابنه جمال على وجه الخصوص، بسبب عمليات التجديد الاقتصادي والخصخصة وما ساد فيها من سلب ونهب.
أيضاً على صعيد السياسة الخارجية كان الأسد محظوظاً. كان الوضع يبدو متأزماً بالنسبة له بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في عام 2005 وبعد أن أشارت المؤشرات الأولى تجاه دمشق. أحنى الأسد رأسه أمام العواصف النقدية التي هبت عليه من جانب عديد من العرب، كما انحنى أمام العقوبات التي فرضها الفرنسيون والأمريكيون. تحتم عليه أن يسحب قواته من لبنان. التف الحبل حول رقبته، ولم يعد يقف أحد بجانبه سوى إيران.
ولكن، وبعد مرور سنوات قليلة، اختلفت الأمور وتغيرت الأقدار. كان عدواه اللدودان جاك شيراك وجورج دبليو بوش قد تقاعدا، ووصلت التحريات ضد سوريا إلى طريق مسدود ثم توقفت. وهكذا استطاع الأسد أن يستقبل ضيوفه الأجانب مرة أخرى في دمشق: من تركيا والسعودية وألمانيا وفرنسا.
وفي يناير / كانون الثاني هذا العام أرسل الأمريكان مرة أخرى سفيراً إلى دمشق. وفي لبنان بدأ النفوذ السوري يتزايد من جديد. علت الابتسامة عندئذ وجه الأسد. لقد قاوم بنجاح كل الضغوط الخارجية، وشعر بالأمان كما لم يشعر من قبل. ولكن سرعان ما بزغ عندئذ الربيع العربي، وتفجرت الموجة الثورية التي طالت سوريا.
الصراع مع الديكتاتور .. من أجل البقاء على قيد الحياة
غير أن الرئيس السوري ما زال يسيطر على أجهزة الاستخبارات والحرس الجمهوري والشرطة والجيش، كما لا زالت في حوزته البنادق والدبابات والطائرات الهليكوبتر. خلافاً لمصر وتونس فإن الجنود في سوريا لا يقفون في صف الشعب بل في صف الحاكم. إنهم يساندون نظام حكم الأقلية العلوية برئاسة بشار الأسد في بلد تسكنها غالبية من السنة. إنهم يصارعون مع الديكتاتور من أجل البقاء معاً على قيد الحياة.
وبينما يسفك الجيش في كل يوم المزيد من الدماء فإن بروباغندا الأسد تتعمد إرسال رسائل الخوف. إن الثورة في سوريا، هكذا ينشرون، لن تكون احتفالية شعبية بهيجة كما حدث في ميدان التحرير في القاهرة. الثورة في سوريا ستعني حرباً أهلية كما حدث في العراق، ستكون عملاً من أعمال القاعدة، وستعني النصر للأصوليين من السنة. غير أن الخوف لم يعد يمثل رادعاً للمتظاهرين في درعا.
في تلك المدينة الواقعة في جنوب البلاد يحاول النظام منذ أيام أن يعيد إلى الذاكرة أحداث حما في عام 1982: قام النظام بقطع الاتصالات التليفونية، كم تم تعطيل شبكة الهواتف المحمولة، كما أغلقت الحدود مع الأردن والطرق المؤدية إلى المدينة، ثم تحركت الدبابات في اتجاه درعا. ورغم ذلك اخترقت الأخبار الوحشية والقمع هذا الحصار ووصلت إلى الرأي العام العالمي.
لم يعد القمع الصامت ممكناً في عصر الانترنت. إن التحديث الذي سانده الأسد العاشق لأجهزة الكمبيوتر يقف الآن حجر عثرة في طريقه خلال هذه الأزمة. لا يستطيع الأسد أن يقتل بالرصاص السوريين أسبوعاً تلو الآخر ثم تبقى سمعته كما كانت.
بشار سعيداً – كان هذا في الماضي. لقد فقدَ الأسد خلال التمرد السوري هالته كمستبد "عادل". ما زال السيناريو الحموي بعيداً إذا نظرنا إلى حجم ما يحدث وعدد الضحايا. غير أن بعض الأعوان من أجهزة الاستخبارات يقدمون مشورتهم للرئيس بالضرب بقضبة من حديد حتى يستطيع التغلب على الأزمة والبقاء في الحكم. لكي يهابه الجميع، نعم، ولكي يكرهه جميع السوريين. هل يريد بشار الأسد أن يقوم بهذا الدور بالفعل – ربما لا يستطيع هو نفسه تقديم الإجابة على هذا السؤال حتى الآن.
ميشل تومان
ترجمة: صفية مسعود
مراجعة: هشام العدم
حقوق الطبع: صحيفة "دي تسايت" / قنطرة 2011