حقوق الإنسان بين الإسلام والغرب...شعارات مبسطة وواقع سلطوي معقد
المقارنات التي تعقد بين واقع حقوق الإنسان وحرياته في الغرب وواقعها في البلدان الإسلامية تقوم في مجملها على خلل رئيسي، إذ تجري ما بين أوضاع غربية لا يوجد تناقض بينها من الناحية التنظيمية في ميادين الحياة والحكم وبين المنطلقات والأسس الحضارية التي تقوم عليها، بغض النظر عن إيجابياتها وسلبياتها، وبين أوضاع قائمة في البلدان الإسلامية قامت إجمالا بعد تقويض دعائم المناهج والنظم المنبثقة عن الحضارة الإسلامية وفرضها اعتمادا على عنصري القوّة من جهة والتغريب من جهة أخرى.
فلا يمكن القول إنّ واقع حقوق الإنسان والحريات القائم حاليا يمثّل الصورة الحضارية الإسلامية مقابل الصورة الحضارية الغربية، إنّما هو أحد إفرازات الانحراف عن الحضارة الإسلامية. لا نملك للمقارنة النزيهة المتوازنة –منطقيا- إلا النظر في الصيغة التطبيقية "المحتملة الممكنة" في ظل معطيات منظومة حضارية إسلامية مقابل الصيغة "التطبيقية الواقعية" في ظل المنظومة الحضارية الغربية.
حقوق الإنسان جزء راسخ في التربية الإسلامية
هنا نجد أنّ اختلاف المنطلقات والأسس هو الذي يحدّد الاختلاف المحتمل على الصعيد التطبيقي. ومنظومة حقوق الإنسان وحرياته في الإسلام وحضارته جزء لا يمكن فصله عن الجوانب الأخرى من منظومة ما رسّخ من مفاهيم وتصوّرات، وعلى وجه التحديد، جانب الوازع الداخلي، ومراقبة النفس، وكلاهما جزء راسخ في التربية الإسلامية القائمة على العقيدة والأخلاق والقيم، وهو ما لا يعوّض عن الجانب التقنيني والنظام القضائي والمنفعة المادية، التي باتت هي العناصر الرئيسية التي يعوّل عليها المنهج الغربي التطبيقي لما يقرّره على صعيد الحقوق والحريات. ولكن في الوقت الذي يعزّز الإسلام التربية التي تكوّن الفرد لتخفيف نسبة انتهاك الحقوق والحريات إلى حدّ أدنى، ثم يقرّر الجوانب التقنينية والقضائية والمادية للتحرّك فيما لا تكفي معه عوامل التربية الفردية والاجتماعية، نجد أنّ هذه العوامل التربيوية التي لا ينقطع الحديث عنها في الغرب، لا ترقى إلى مستوى اعتبارها جزءا مباشرا من العمل على ضمان الحقوق والحريات.
الضحايا من المسلمين في الدرجة الأولى
إنّ الفوارق الحقيقية والأهم على صعيد الحقوق والحريات من الخلافات التاريخية، هي تلك الكامنة على الصعيد التطبيقي، ومن هنا فإنّ تغييب المرجعية الإسلامية إلى حدّ كبير عن صناعة القرار في غالبية ميادين الحياة والحكم في البلدان الإسلامية، جعلت كثيرا من الأطراف فيها ينطلقون من موقع ضعيف على أرض الواقع الراهن، ويتخذون صيغة "الدفاع" في مواقفهم في الدرجة الأولى. على أنّ العامل الأخطر في التأثير على المواقف الصادرة عن منطلقات إسلامية في قضايا حقوق الإنسان وحرياته، يعود إلى حقيقة ما يعايشه الجيل المعاصر من المسلمين، من انتهاكات لا تنقطع لهذه الحقوق والحريات، وضحاياها من المسلمين في الدرجة الأولى، بأبشع الصور وأكثرها انتشارا، دون أن تجد نصرة فعّالة على المستوى الدولي، أو داخل الدول الإسلامية نفسها. وهذا مقابل حملات دولية يشارك فيه بعض الجهات من البلدان الإسلامية، لنصرة من تُنتهك حقوقهم على المستوى العالمي، بصورة –لا يُستهان بها أيضا- ولكن قد لا تصل إلا نادرا إلى ما يجري في الأرض الإسلامية، كما في فلسطين وأفغانستان والعراق والشاشان والصومال وسواها.
صعوبات الدعاة إلى الوسطية
إنّ المرارة في الجيل الجديد المعاصر بدأت تتحوّل إلى نقمة عارمة، وتسبّب ولادة ظواهر شاذة عن الطريق الإسلامي القويم، بل بات الدعاة إلى وسطية الإسلام في تعامله مع الجنس البشري دون تمييز، وحرصه على مواجهة العدوان الذي يواجهه "جنس الإنسان" إلى درجة تشريعه الجهاد لمنع الفتنة في الدين، وتأكيده رفضَ أن يكون "شنآن" قوم مبررا لتجنّب العدل والقسط في التعامل معهم، باتوا يواجهون صعوبات متزايدة، في الدعوة إلى الحرص على ألاّ يتحوّل الإحساس بالنقمة إلى تيار عدائي، لا سيّما وأنّ جنس الإنسان يعاني من غلبة مفعول المادّة على القيم داخل البلدان التي تزعم لنفسها وضع حقوق الإنسان وحرياته في الصدارة بين "القيم" التي تنادي بها. فالحاجة إلى عدالة الإسلام وسماحته وتكريمه للبشر باتت ماسّة في العالم عموما، وليس في البلدان الإسلامية وحدها.
ويتطلّب ما سبق أن يأخذ طرح قضية الإنسان وحقوق الإنسان من المنطلق الإسلامي أبعادا جديدة، وأن يقوم على منهج في مقدّمة عناصره الأساسية: - حقوق الإنسان وحرياته جزء من التراث الحضاري البشري وليست حكرا على منظومة حضارية دون أخرى. - المنهج الإسلامي قائم على "أصالة" هذه الحقوق مع ولادة الإنسان الفرد، وليس على "انتزاعها" وبالتالي العجز عن بلوغها نتيجة الخلل في موازين القوّة داخل المجتمع الواحد أو على مستوى المجتمع البشري. - المنظومة الإسلامية للحقوق والحريات هي المنظومة الأجدر وفق الأسس التي تقوم عليها بوضعها في الصدارة في دعوة البشرية إلى الانطلاق منها والعمل على تطبيقها. - البلدان الإسلامية مطالبة بانتزاع نفسها من مفعول التغريب الذي قضى على الحريات والحقوق فيها كما قضى على مقوّمات وجودها في ميادين أخرى عديدة. - الجماعات والمؤسسات ومعاهد الفكر والأدب ووسائل الإعلام الإسلامية مطالبة قبل سواها بوضع قضية حقوق الإنسان وحرياته في الصدارة انطلاقا من الإسلام نفسه، وليس تقليدا لأي جهّة أجنبية، وإلى جانب القضايا المصيرية الأخرى، وفي مقدّمتها إنهاء مختلف أشكال الاستبداد المحلي والدولي، مع العمل على إيجاد الصور التطبيقية العملية للتعامل معها، حيثما أمكن ذلك، لتكون نماذج حيّة لما يمكن أن ينشأ في ظل عودة الإسلام إلى مكانته الطبيعية في المجتمع الإسلامي وإلى مركز الريادة في حياة البشرية.
قنطرة 2003
نبيل شبيب محرر بالقسم العربي في دويتشه فيله