تونس ومصر....في رحلة البحث عن الطريق الثالث
لقد بيّن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية على السواء أنَّ خزائنهما خاوية وأنه ليس بوسعهما الإسراف نظرًا لأزمة الديون التي تعانيان منها. وكانت أغنى دول العالم قد وعدت في شهر أيار/مايو 2011 في قمة مجموعة الثماني في مدينة دوفيل بإعطاء تونس ومصر عشرين مليار دولارٍ على مدى سنتين، تشمل قروضًا تمت الموافقة عليها قبل قيام الثورات. و الدول العربية بدورها لن تكون في عجلة من أمرها لمساعدة جاراتها في عملية بناء الديمقراطية. أما مشروع الاتحاد الأوروبي لإقامة مصرف البحر المتوسط للاستثمار (الذي يجري التخطيط له منذ عام 1995) فقد تم التخلي عنه نهائيًا في شهر أيار/مايو الماضي. وخِلافًا عن دول أوروبا الشرقية بعد سقوط الجدار، لن يكون تحت تصرّف دول حوض البحر الأبيض المتوسط مصرفًا خاصًا للتنمية وإعادة الإعمار. وبدلاً من ذلك سيتشكل المُقْرِضون الرئيسيون من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبنك الاستثمار الأوروبي (EIB) (الذي يقدم حتى 2013 قروضًا قيمتها ستة مليارات دولارٍ) والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية (EBRD).
آمال ميتة
عُقدت آمالٌ في تونس والقاهرة لفترة ما على مشروع مارشال، على غرار مشروع الولايات المتحدة الاقتصادي لإعادة إعمار أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. وبحسب بعض التقديرات فإنه من شأن تكلفة مشروع كهذا أن تعادل تكاليف حرب العراق مدة شهرين أو ثلاثة في المائة من تكاليف إعادة الوحدة الألمانية في عام 1991. لكن اليوم لم يعُد أحد يتوقع أنْ تأتي مساعدات من الخارج.
تبعا لذلك يشجع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تونس ومصر على متابعة تحرير أسواقها من القيود ولبرلتها وعلى البحث عن إمكانية الحصول على القروض من اتحادات الشركات متعددة الجنسية. مانحو القروض الدوليون واتحادات الشركات الغربية الكبيرة تتمتع بالنفوذ منذ فترة طويلة، ولكنها تريد المزيد من حرية الحركة. وبحسب رؤيتها تشكل الشراكات بين القطاعين العام والخاص (PPP) في الوضع الراهن العصا السحرية الضرورية. تعني الشراكات بين القطاعين العام والخاص (PPP) تولّي شركاتٍ خاصةٍ بدلاً من الدولة لفترة زمنية محددة مهمات توفير الإمدادات والرعاية العامة من ماء ومستشفيات وما شابه، وتحقيق الأرباح من خلال ذلك. ولكن حتى وإنْ كانت هذه الاتفاقات محدودة زمنيًا، فهي تعني خصخصة القطاع العام.
لا يوجد حلٌ سحريُ في الأفق
يعد عالم التجارة والمؤسسات الدولية الشراكاتَ بين القطاعين العام والخاص أداةً شبه طبيعيةٍ لتمويل إعداد البنية التحتية في بلدان البحر الأبيض المتوسط. لكنها تتغافل في هذا السياق عن أنَّ نموذج التمويل هذا لا ينجح إلا في ظل شروطٍ معينةٍ. فأولاً تحتاج هذه الشراكات إلى فوائد متدنية وإلى بنوكٍ قوية ناجحة. بيد أنَّ تونس ومصر لا تملكان أيًّ منهما. ولدى الكثير من البنوك ديون تدفع للريبة كما تنقصها الخبرة في المعاملات المالية المعقدة بشكلٍ عام.
وثانيًا يجب أن يكون القطاع العام قادرًا على فرض مصالحه ومصالح دافعي الضرائب ولديه ما يكفي من القوة ليفرض على الشركاء من القطاع الخاص الالتزام بتعهداتهم. أو لنقل بتعبير آخر: لا بدَّ للدولة ولمؤسساتها المحلية من أن تكون لديها الصلاحيات اللازمة لكي تتمكّن من تقويم شراكاتٍ معيّنةٍ بين القطاعين العام والخاص ومن تنفيذ هذه الشراكات. لا تحتاج الشراكات إلى دولةٍ قويةٍ، إنما إلى دولةٍ ذات كفاءاتٍ قادرة من خلال التفاوض وعلى إرساء شروطٍ عامةٍ سليمةٍ. فهل ستتمكن الإدارات المقبلة في مصر وتونس على القيام بذلك؟
إذا كان هناك طريق وسطي في تحرير الاقتصاد من القيود ولبرلته بتهور أو العودة إلى الاقتصاد المخطط، فلن يتم اكتشافه بالتأكيد من قِبَل الأحزاب الدينية. وقد أظهر الخبير الاقتصادي سمير أمين هذا في بحثه الخاص بجماعة الأخوان المسلمين، حيث بيَّن أن الإسلاموية تخالط بسرور نظريات ليبرالية واقتصادية سياسية ولا تمنح (على نقيض ما يعتقده الرأي العام) القضايا الاجتماعية سوى اهتمامٍ ظاهريٍ عابرٍ. ويقول أمين بهذا الصدد: "تدعم جماعة الأخوان المسلمين شكلاً من اقتصاد السوق يخضع كليًا لفاعلين خارجيين. وقد أبدوا وبخاصةٍ في العقد الأخير مواقف تعارض احتجاجات العمال في المصانع واحتجاجات الفلاحين الذي سعوا لاستعادة أراضيهم. الأخوان المسلمون وسطيون فقط في رفضهم الدائم لصياغة برنامج اقتصادي اجتماعي. زد على ذلك قبولهم بالهيمنة الأمريكية في المنطقة، ما يجعلهم حلفاء مفيدين لواشنطن."
الإسلاموية والليبرالية الجديدة
لطالما يجري الحديث عن الأعمال الخيرية التي تقوم بها المنظمات الإسلاموية. وبسرور يتم في هذا الصدد تجاهل رفض الإسلامويين تطوير سياسة ما أو حتى مجرد وضع أفكارٍ تسعى للحدِّ من الفقر وعدم المساواة بشكلٍ فعليٍ. وبدلاً من ذلك تفضل الإسلاموية سياسة ليبرالية جديدة، وتعارض سياسة إعادة التوزيع التي تعتمد على الضرائب. وتعتبر الضرائب أمرًا مرزولاً، اللهم باستثناء الزكاة، أي الضريبة الإلزامية للأغراض الخيرية، والتي تشكل أحد أركان الإسلام الخمسة.
لم يَسْعَ الإسلاميون قطُّ فهم الحركة العالمية المناضلة من أجل العدالة، ورأوا فيها ببساطة تعبيرًا عن شيوعيةٍ جديدةٍ. وبحق يمكن هنا الإدعاء بأنَّ الأحزاب الإسلاموية الكبيرة لن تُحدِث ثورات اقتصادية كبيرة، حتى وإنْ لم تكن تناهض الديمقراطية.
تقف تونس ومصر إزاء مهمة إيجاد طريقٍ ثالثٍ مناسبٍ. والجدير هنا بالذكر أنَّ معظم بلدان المعسكر الشرقي السابق لم يفلح في تحقيق ذلك. لذا لا ينبغي للثورات الشعبية أن تشكّل بالضرورة أساسًا لرأسمالية جبّارة تقوِّض التحول الاجتماعي للمجتمع في كل من مصر وتونس. إن إمكانية تأمين هذا التغيير ستكون مرهونةً بالقدرة على بناء اقتصادٍ جديدٍ يهتم بالمقام الأول بالحدَّ من التباينات.
أكرم بلقايد
ترجمة: يوسف حجازي
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: صحيفة تاغستسايتونغ/ قنطرة 2011
أكرم بلقايد، صحافي مستقل وناشر المجلة الباريسية "Être Arab aujourdhui". نـُشر هذا المقال للمرة الأولى في "Agence Global" تحت عنوان "خصخصة الصحوة العربية".