مفارقات الربيع العربي...... بذار العلمانيين وحصاد الإسلاميين
منذ عدة سنوات أعلن الكثير من أوراق البحث والندوات بأن جذوة الليبرالية العلمانية العربية قد خبت. وبالرغم من أن ذلك يبدو في ظاهره صحيحاً، إلا أن أمل الليبراليين والعلمانيين العرب كان معلقاً على كون المحللين السياسيين مخطئين، وعلى أن العصر الذهبي للقيم الليبرالية والأيديولوجيات العلمانية العربية سيأتي يوم ما.
فالليبرالية في العالم العربي شهدت مجدها وفشلت، إلى جانب التجارب الأيديولوجية الفاشلة للاشتراكية العربية في مصر وسوريا والعراق، وهذا ما أبرزه الربيع العربي بكل وضوح للأكاديميين وللمراقبين العاديين على حد سواء، فالإسلاميون لم يقودوا الانتفاضات في بادئ الأمر في تونس ومصر بداية العام الماضي، بل كانت هذه الانتفاضات علمانية وغير مأدلجة، مما أعطى الليبراليين أملاً في أن تشهد قيمهم نهضة جديدة. لكن النجاحات الانتخابية للإسلاميين في مصر وتونس بددت هذا الحلم بما لا يدع مجالاً للشك.
فشل في استغلال الانتفاضات
ويشير كارل شارو، الخبير في شؤون الشرق الأوسط، بكل مرارة إلى النقص الذي يعاني منه العلمانيون في نقد الذات، وعدم قدرتهم على مخاطبة الجماهير، ويقول: "هذا الانفصال بين النخب العلمانية والجماهير العربية يتضح من خلال مواقفهم المتعالية، فهم يتحدثون بشكل دائم عن "التعليم" و"التوعية"، وهي أدوات الهندسة الاجتماعية التي يفضلون استعارتها من الديمقراطية الليبرالية في الغرب".
ويدلل كارل شارو على ذلك بالطرق غير الملائمة التي اتبعها الليبراليون من أجل كسب التأييد، مضيفاً أنهم "بدلاً من مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية الحقيقية ببرامج طموحة قد تؤدي إلى كسب التأييد الشعبي، فهم يصرون على صرف انتباه جماهيرهم من خلال مبادرات سطحية لا تخاطب الواقع المعيشي للناس إلا نادراً. إنهم يستمرون في توظيف كم هائل من الوقت والطاقة في مبادرات تافهة، مثل التفكير بمواضيع تستميل المستخدمين في موقع "تويتر"، أو حركات إعلامية حمقاء، كالمجموعات العشوائية المفاجئة في العواصم الغربية، وكأن ذلك أصبح قمة الصراع السياسي. إنهم يفضلون أن يفوزوا بلقب الضحية في وسائل الإعلام الغربية على أن يؤسسوا قاعدة دعم جماهيري حقيقية في أوطانهم".
يشعر الليبراليون العرب والغربيون بخوف شديد من الربط بين النزعات السياسية والواقع الاجتماعي، وكأن مناقشة موضوع الطبقة الاجتماعية قد ينهي وجودهم. أما الفقراء في مصر، فإنهم يسارعون إلى مقارنة الليبرالية بالنخب الاجتماعية والغرب "الدخيل"، ويعتبرون أن قيم أبناء الطبقة المتوسطة العليا الأغنياء، الذين يتكلمون الإنجليزية، لا تمثلهم، بل هي عبارة عن ألعاب تمارسها طبقة مترفة لا تخاف على نجاتها.
هذا الأمر يتخذ طابعاً أشد حدة في بلد يعيش نصف سكانه تقريباً عند أو تحت خط الفقر، وحيث الفصل الواضح بين الفلاح و"الباشا" موجود منذ قرون، وحيث ضربت الإمبريالية السياسية والثقافية جذوراً عميقة في التاريخ. لقد أبرزت "الفضائح" القاسية والمبالغة إلى حد ما للدكتور محمد البرادعي غياب الثقة بالمعارضة المغتربة، التي تلقت تعليمها في الغرب وتتكلم الإنجليزية، إضافة إلى ازدياد النزعة المحافظة داخل البلاد. وما أضرّ بحملة البرادعي أيضاً تردده في اتخاذ القرارات ومماطلته في تقمص دور قائد ثوار ميدان التحرير. وبالرغم من أن خطته للمرحلة الانتقالية بعد الثورة كانت من بين الأقرب إلى الواقع، إلا أن غياب الكاريزما في شخص البرادعي وبُعده عن المواطن العادي دمر حملته ودفعه إلى الانسحاب من سباق الانتخابات الرئاسية.
أسباب الدعم الشعبي للحركات الإسلامية
رغم أن كتاب كاري ويكهام، الذي يحمل عنوان "التعبئة الإسلامية"، منشور قبل عشر سنوات، إلا أنه يوضح بشكل جليّ أسباب التوتر بين الأغنياء والفقراء، ويشرح كيفية صعود الإسلام السياسي بسبب الحاجة وكردّ على تجاهل النخب لمشاكل الفقراء. وعندما فشلت الأنظمة الاستبدادية العلمانية في توفير النمو الاقتصادي والمساواة الاجتماعية والحقوق السياسية للمواطنين، فإن كثيراً منهم اتجه إلى الحركات الإسلامية، ليس دعماً لها بل احتجاجاً على الوضع السائد. إن التواجد المتزايد لحركات المعارضة الإسلامية لم يسلب بالضرورة التيارات الليبرالية العلمانية فرصة إعادة تحديد دورهم وكسب قاعدة دعم صلبة بين ثوار التحرير والشعب المصري بشكل عام. لكن بينما قضى الليبراليون الثلاثين عاماً الماضية مشتتين ومجزئين وممزقين بسبب تفاصيل صغيرة ومنصرفين عن أي سياسات واقعية، كان الإسلاميون يعملون بجد واجتهاد ويجندون الأعضاء ويؤسسون أنفسهم كأحد أعمدة المجتمع المهمة.
إن تركيز الليبراليين على الكتاب والفنانين والصحافيين المثقفين، أمثال حمدين صباحي وبثنية كاملة، يختلف تماماً عن قاعدة الدعم للإخوان المسلمين، التي تضم شريحة أعرض من المجتمع، رغم أنها ركزت تقليدياً على الفقراء والمهمشين. كما يمكن أن يقال الكثير عن تقديم الإخوان المسلمين الدعم لهذه الفئات، لتملأ بذلك الفراغ الذي خلفته الحكومة، إذ قاموا ببناء المستشفيات والمدارس والمطابخ الشعبية لمن كانوا بأمس الحاجة إليها. أحد أبرز الأحداث التي لا تزال محفورة في ذاكرة غالبية الشباب المصري هي الهزة الأرضية التي ضربت مصر سنة 1992 وأحدثت دماراً واسعاً، لاسيما في الأحياء الفقيرة بالقاهرة. آنذاك سارع الإخوان المسلمون بتقديم المعونات الطبية وبناء المساكن بعد ساعات من حدوث الزلزال، بينما تطلب الأمر من الحكومة عدة أيام كي تبدأ باتخاذ خطوات لمساعدة المنكوبين. وعلاوة على ذلك، فقد شكل الإطار المؤسساتي للحركات الإسلامية حافزاً إضافياً لدعم الإخوان المسلمين، إذ إن العضوية قد تفتح أبواب الاتصالات التي يحتاجها المرء للحصول على فرصة عمل جيدة، أو تزوده بالواسطة اللازمة لذلك. لكن النخب الليبرالية لم تقدم حتى مثل هذه الفرص للتشبيك وللتحرك بين الطبقات الاجتماعية.
حاجة لنهج جديد
إذا كان ليبراليو مصر جادين في إيجاد موطئ قدم لهم في السياسة المصرية، فيجب عليهم أن يكونوا مستعدين لتقبل النقد وتجنب إلقاء اللوم في فشلهم على الأمية أو على جهل الطبقات الفقيرة. يجب عليهم أن يبتعدوا عن أضواء الإعلام الدولي وأن يركزوا على الخروج بسياسات اجتماعية واقعية وعملية يمكن تطبيقها بشكل كامل.
إن ليبراليي مصر بحاجة إلى كسب ثقة المصريين، وإثبات أنهم لا يهتمون بمشاكل حياتهم اليومية وحسب، بل وأنهم يتفهمون هذه المشاكل أيضاً ويعملون جاهدين على إيجاد حلول لها وإظهار النتائج، فمصر الآن في القرن الحادي والعشرين، ولم يعد فيها من السهل على الأغنياء تجاهل الفقراء، تماماً كما بات من المستحيل - بفضل وسائل الاتصال الجماهيري والإعلام - على الفقراء ألا يلاحظوا الهوة الثقافية الواسعة الموجودة في المجتمع. على ليبراليي مصر أن يثبتوا مصريتهم، ليس من خلال الخطابات، بل عبر مد يد العون لمن هم أقل منهم حظاً، ووضع رخاء البلاد على رأس أولوياتهم.
أميرة جلال
ترجمة: ياسر أبو معيلق
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012