السياسة كبرى محظورات "حراس الفضيلة" في عهد السيسي
بعد لكمتين سقط شادي على الأرض. "يجب عليك أن تتدحرج بشكل صحيح، وإلاَّ فإنَّ هذا سوف يبدو غير طبيعي. كما أن هذا مؤلم" - هكذا يقدِّم المدرِّبُ لشادي ولزميله الممثِّل النصيحة الأخيرة من أجل ظهورهما على المسرح في اليوم التالي، حيث يتم تقديم العرض الأوَّل من مسرحية "خمسميات" في مهرجان حكاوي الدولي في دار الأوبرا المصرية. وهذه المسرحية تدور حول البلوغ في مصر، وحول الصديقة الأولى والمشكلات في المدرسة ومع الأصدقاء. وفي هذا العرض يتعيَّن على هذين الشابين أن يضربا بعضهما بعضًا على خشبة المسرح.
سندس شبايك مخرجة هذه المسرحية، تقف في زاوية صالة المسرح السوداء وتعبث بهاتفها الخلوي بعصبية. وفي الواقع لقد كنا على موعد معها من أجل إجراء مقابلة. تقول لنا معتذرة: "عفوًا، ولكنني لا أستطيع الآن. لأنَّ لدينا مشكلة كبيرة". وحول هذه المشكلة الكبيرة تم في اليوم التالي نشر ما يلي على صفحة المهرجان في موقع الفيسبوك: "بسبب وجود مشكلات تقنية تم إلغاء عرض مسرحية خمسميات".
إنَّ "الحديث حول وجود مشكلات تقنية هو تعبير معدَّل دبلوماسي للغاية. لقد كان ذلك بكل بساطة: رقابة"، مثلما تقول المخرجة سندس شبايك. وتضيف أنَّ إدارة المسرح انزعجت من مشهد في المسرحية: "نحن نتحدَّث في هذا المشهد حول ’العادة السرية‘، وهي كلمة دارجة تعني الاستمناء".
وهاتان الكلمتان كانتا كافيتين من أجل إبعاد المسرحية كلها عن مسارح الدولة في مصر. تقول سندس شبايك: "طلبت منا إدارة المسرح أن نعيد كتابة السيناريو وأن نحذف هذا المشهد". بيد أنَّ سندس شبايك رفضت، لأنَّها التزمت - بحسب تعبيرها - بجميع القواعد، وأرسلت السيناريو قبل ذلك إلى دائرة الرقابة - التي أجازت من جانبها عرض مسرحية "خمسميات" من دون تغييرات وأعطتها التصنيف "زائد 13".
"في مصر توجد لدينا ثلاثة محرَّمات كبيرة: الدين والجنس والسياسة"، مثلما يقول حسام علاء. يجلس هذا الشاب الرشيق بين كراتين للنقل على كرسي مكتب، لا يزال مغلفًا بغلاف بلاستيكي رقيق. في زاوية هذا المكتب الأنيق توجد لوحة كتب عليها "مؤسَّسة حرية الفكر والتعبير"، واختصارًا: afte.
تحديد شكل ذوق الجماهير
يعمل حسام علاء مند أعوام في البحث حول خلفيات الرقابة وتأثيرها في مصر. وقد نشر العديد من الأبحاث حول هذا الموضوع. بيد أنَّه مع ذلك لا يزال يجد صعوبة في الإجابة على السؤال عن سبب هوس السلطات بالرقابة. وحول ذلك يقول: "أعتقد أنَّهم يحاولون خلق نوع من مواطن نموذجي، لكي يتمكَّنوا من تحقيق إيديولوجيتهم. وهذا أسهل عندما يكون الجميع يفكِّرون التفكير نفسه. أنا لا أرى أنَّ هناك تفسيرًا آخر".
وهذا يعني في الممارسة العملية فرض قيود كبيرة على الفنَّانين والمبدعين. قبل التمكّن على الإطلاق من البدء في مشروع ما، يجب أن يتم عرض هذا المشروع على دائرة "الرقابة على المصنفات الفنِّية المصرية" - وهي دائرة رسمية تعتبر جزءًا من وزارة الثقافة المصرية. ورئيسها هو فتحي عبد الستار، وهو رجل شائب في نحو الخمسين من عمره لديه تصوُّرات واضحة عما يندرج تحت الفنِّ الجيِّد وما لا يمكن اعتباره كذلك.
إنَّ "كلَّ مبدع متمكِّن من أدواته هو مع الرقابة. اسألي الناس الراسخة، اسألي أي مخرج كبير عندنا". يقول ذلك فتحي عبد الستار في فيلم: "مسموح عرضه"، الذي نشرته قبل عدة أسابيع مؤسَّسة حرية الفكر والتعبير. وفتحي عبد الستار مقتنع بأنَّ دائرته الرقابية تُقدِّم خدمة للمبدعين في البلاد.
يقول فتحي عبد الستار: "يوجد ناس كثيرون جدًا، يأتون إلينا بعدما نُرَخِّص لهم بعمل، لأنَّنا ساعدنا في صياغة هذا العمل بالشكل الواجب. كان لا بدّ من التدخُّل لأنَّ هؤلاء الناس، هؤلاء الرقباء والمفتشين أصبحوا عيونًا مُدرَّبة وآذانًا مُدرَّبة". فالجمهور المصري لا يتقبَّل ببساطة كلَّ شيء - على حد قول فتحي عبد الستار: وبالتالي فإنَّ الذي يريد أن يحقِّق نجاحًا في السوق المصرية، يجب عليه أن يراعي ذوق الجماهير، الذي يحدِّد شكله فتحي عبد الستار والرقباء العاملون في دائرته.
السياسة أكبر المحظورات
وفي الحقيقة تأتي معظم الشكاوى على الأفلام والأغاني أو المسرحيات من قبل مواطنين مستائين. وذلك لأنَّهم يشعرون أحيانًا أنَّ الآداب العامة تُنتهك من خلال إظهار الكثير من العري، أو من خلال الإساءة إلى الدين. ومع ذلك فإنَّ السياسة تمثِّل أكبر المحظورات. "لقد توقَّف المبدعون عن تقديم الأعمال المثيرة للجدل، لأنَّ في ذلك خطرًا كبيرًا للغاية"، مثلما يقول حسام علاء ويلاحظ هو وزملاؤه أنَّ المعايير الخاصة بالمنشورات أصبحت أشد بكثير من ذي قبل، منذ تولي الرئيس الجديد عبد الفتاح السيسي الرئاسة في مصر.
يذكر حسام علاء أنَّ في عهد مبارك كانت لا تزال توجد مجالات صغيرة للأفلام والمسرحيات أو الكتب الناقدة. وبعد ثورة عام 2011 اتَّسعت هذه المجالات فجأة إلى حدّ كبير. ونشأ نقاش عمومي مفعم بالحيوية حول السياسة والمشكلات الاجتماعية وحول مختلف النماذج المجتمعية.
ولكن "هذه النافذة تم إغلاقها بقوة منذ عزل الرئيس الإسلامي محمد مرسي قبل عامين". كما أنَّ كلَّ شخص يجرؤ على انتقاد أصحاب السلطة، ينتقل إمَّا إلى ما وراء القضبان أو يتم إبعاده عن وسائل الإعلام أو يتم إجباره على الرحيل إلى المنفى. وأبرز الأمثلة على ذلك المدِّون علاء عبد الفتاح والإعلامي الساخر باسم يوسف.
لا يوجد فنَّانون حقيقيون في البلاد
وهكذا فإنَّ ما يبقى هو التيار العام. يقول حسام علاء مؤكدًا: "لم يعد لدينا فنَّانون حقيقيون في بلدنا". ويضيف أنَّ "جميع الأفلام التي تم إنتاجها في الأعوام الأخيرة تبدو متشابهة". وأنَّ مَنْ يُعتبر موهوبًا حقًا يعمل إمَّا تحت الأرض أو في خارج مصر.
وهذا خيار غير مطروح بالنسبة لسندس شبايك، حيث تقول: "بطبيعة الحال بإمكاني أن أشكو وأقول: ما أصعب العمل في مصر! ولكن هذه نصف الحقيقة فقط". وتضيف أنَّ حين تتمكَّن ذات مرة مسرحية من مسرحياتها من الوصول إلى خشبة المسرح، فعندئذ تجعلها ردود فعل الجمهور تواصل العمل. "كثيرًا ما يعبِّر الجمهور عن امتنانه، لأنَّنا طرحنا مشكلات، يعرفها الجميع من خلال تجربته الشخصية، ولكن لا يدور الحديث حولها أبدًا. وهذا يعوِّضنا تمامًا في كثير من الأحيان عن نضالنا في مرحلة الإعداد".
يجلس ممثلو مسرحية "خمسميات" الخمسة على خشبة المسرح الصغيرة بعضهم مقابل بعض ويتهامسون فيما بينهم. ويتم سؤال شادي عما إذا كان قد مارسها - أي "العادة السرية". يضحك الجمهور بصوت مرتفع. فالجميع يعرفون حول ماذا يدور الحديث، من دون أن يتم ذكر كلمة "العادة السرية" حتى لو مرة واحدة فقط. لقد تمكَّنت في آخر المطاف مسرحية "خمسميات" من الظهور على مسارح مصرية، حتى وإن ظهرت على الأقل على مسارح خاصة.
إليزابيت ليمان
ترجمة: رائد الباش