صعود جيل شاب لنقل رواية فلسطين

رجلان يركعان ويحنيان رأسيهما فوق سترة صحفية زرقاء.
تشييع جثماني الصحافيين محمد منصور وحسام شبات بعد مقتلهما بقصف إسرائيلي في غزة، 24 مارس/أذار 2025. (Photo: picture alliance / Middle East Images | A. Abosalma)

برز جيل جديد من الصحافيين الفلسطينيين المؤثرين في غزة، يُعيدون صياغة الرواية ويكشفون إخفاقات الإعلام الغربي. لكن هذا جاء بكلفة باهظة، إذ قُتل 232 صحفيًا في غزة منذ هجوم السابع من أكتوبر.

الكاتب، الكاتبة : رمزي بارود

لطالما لقي مصطلح "المثقف المشتبك"، صدى واسعًا في الأوساط الفكرية في فلسطين ولبنان وخارجها. ويستند هذا المفهوم إلى أعمال الفيلسوف المناهض للفاشية أنطونيو غرامشي، الذي صاغ مصطلح "المثقف العضوي" أي المفكر المرتبط بالجماهير، الذي يعمل كمثقف ومُحرك للقاعدة الشعبية.

ليس واضحًا متى انتقل هذا المفهوم من النقاش الأكاديمي في فلسطين إلى الوعي العام، لكنه حاز على شهرة متزايدة بعد 6 مارس/أذار 2017، يوم مقتل باسل الأعرج، الذي وصف نفسه بأنه مثقف مشتَبك، برصاص الجيش الإسرائيلي في مخيّم قدورة قرب رام الله.

وقد طرح الأعرج سؤالًا عميقًا في وصيته الموجزة والمؤثرة: هل ينبغي لوصايا الشهداء أن تجيب عن أسئلة الأحياء؟
وكتب متأملًا في استشهاده الوشيك:"هل هناك أبلغ من فعل الاستشهاد؟... هذا السؤال لكم أنتم أيها الأحياء؛ لماذا أجيب عنه أنا؟ أنتم مَن يجب أن يبحث عن الإجابة. أما نحن في القبور، فلا نبحث سوى عن رحمة الله."

دائمًا ما يدهشني مدى استعداد الكثير من الفلسطينيين لتقبّل هذا الدور الوجودي الخاص: دور الشهيد الجمعي، الذي يضحي بحياته من أجل فكرة العدالة التي تتجاوز بكثير مفاهيم الدولة والسيادة والحقوق الأساسية.

لكننا لا نعشق الموت؛ إنما هي قوة الحياة فينا التي تدفع الغزيين إلى الغناء، حتى بعد لحظات من دفن أحبائهم في المقابر الجماعية. ويتجسد هذا الإصرار على الحياة في وجه الفقدان في أغنية شعبية يرددها الفلسطينيون وسط الحشود: "سوف نبقى هنا كي يزول الألم؛ سوف نحيا هنا كي يحلو النغم".

هذا الصمود الفلسطيني—المصقول عبر الحروب والفقدان وقوة الروح الإنسانية—ينتج شكلًا خاصًا من "المثقف المشتبك" الفلسطيني، يتجاوز الأطر النظرية التي تخيلها غرامشي.

يجعل هذا النسيج الفلسطيني المُعقد، من الصعوبة بمكان على أي شخص من خارج التجربة الفلسطينية—صحفي نيويورك تايمز مثلًا، لا يتحدث العربية—أن يعبّر عن الواقع الفلسطيني بصدق.

لهذا، غالبا ما يُفهم الواقع في فلسطين من قِبل الفلسطينيين أنفسهم، الذين يعبّرون عنه في الأغاني والقصائد، حيث تبدو اللغة العقلانية وحدها غير كافية في كثير من الأحيان. حتى الفلسطيني نفسه يجد صعوبة في التعبير عن ألم غزة بالكلمات فقط. فكيف يمكن لصحفي غربي، يفصله حاجز ثقافي وتجريبي، ويتأثر بانحيازات راسخة، أن ينقل هذه التجربة بصدق؟

على مدار مسيرته، نبّه المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي إلى الانحياز الدائم لصالح إسرائيل في الإعلام الغربي.
في مقابلة أجريت في مايو/أيار 1988، تحدث عن "معيار مزدوج استثنائي لصالح إسرائيل". وبعد 26 عامًا، تحدث عن خضوع أمريكا "المخزي" لدعاية إسرائيل "البشعة"، التي تبرر دائمًا أفعال "دولة عدوانية".

حشد من الناس يحملون لافتة مكتوب عليها "جرائم حرب نيويورك"
وُجِّهت اتهامات متكررة إلى صحيفة نيويورك تايمز ووسائل إعلام أمريكية أخرى بالتحيز لإسرائيل. احتجاج في مقر صحيفة نيويورك تايمز، 27 مارس/أذار 2025. (Photo: picture alliance / Anadolu | S. Acar)

ورغم هذا، ربما لم يتوقع تشومسكي حجم العنف الذي نشهده اليوم في غزة، ولا مدى تبني الإعلام الغربي للسرديات الموالية لإسرائيل، رغم الأدلة المتزايدة على الدمار والإبادة الجماعية.

كيف يمكن لهذا الانحياز أن يستمر، وقد قُتل أو جُرح أو فُقد أكثر من 180,000 فلسطيني خلال 19 شهرًا فقط؟ حتى هذه الأرقام الضخمة لا تعبّر عن التأثير الإنساني الكامل للإبادة. إذ يمكن بسهولة تبرير الأعداد الكبيرة للضحايا بسلسلة من الحجج الملتبسة، مُصمّمة لتسكين ضمير الغرب.

ويبقى الشعار المكرّر: "لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها". لكن هذه العبارة الجوفاء تفقد معناها عندما يتضح أن الغالبية العظمى من الضحايا هم من المدنيين الأبرياء، ومعظمهم من النساء والأطفال.

أصوات جديدة من غزة

في أكتوبر/تشرين الأول 2023، منعت إسرائيل جميع الصحفيين الأجانب من دخول غزة، ورغم أن السبب الرسمي كان "الحرص على سلامتهم"، إلا أن الدافع الحقيقي كان واضحًا: السيطرة الكاملة على الرواية.

لكن، ومن دون قصد، مكّنت إسرائيل بذلك الصوت الفلسطيني. فقد اضطر الفلسطينيون المحاصرون إلى أن يصبحوا رواة حكايتهم بأنفسهم، وهكذا وُلد عصر جديد من "المثقف المشتبك" الفلسطيني، الأمر الذي أقلق إسرائيل بشدة. ارتدى صحفيو غزة المحترفون، بشجاعة مذهلة، سترات الصحافة وخرجوا إلى الشوارع.

هذه المرة، أصبحت رواية غزة—ورواية النضال الفلسطيني بأسره—تُروى بشكل أساسي بأقلام وأصوات الفلسطينيين أنفسهم. ورغم تجاهل الإعلام الغربي لحجم الجرائم الإسرائيلية، تمكنت وسائل الإعلام البديلة، بما فيها منصات التواصل الاجتماعي، من إيصال أصوات الفلسطينيين بفعالية. 

وقد تصاعدت الرقابة في هذه المرحلة، وكان لشركة "ميتا" دور كبير في ذلك. لكن، رغم المجاعة والإبادة، استمر الفلسطينيون في غزة في إيصال رسائلهم، متحدّين الخوارزميات المنحازة. ورغم أن سجل إسرائيل في استهداف الصحفيين الفلسطينيين موثق، لم يتوقع كثيرون أن يتم استهدافهم جميعًا. وسرعان ما أصبح الواقع قاتمًا مع مقتل أكثر من 230 صحفيًا منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وفقًا للسلطات في غزة.

لكن مع سقوط هؤلاء الصحفيين، ظهر جيل جديد من الأصوات، مدعوم بشبكة من الناشطين والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، كثير منهم من الشباب. فيما مُحيت كثير من الأصوات المؤثرة، مثل وفاء العديني، التي استُشهدت مع عائلتها في 30 سبتمبر/أيلول 2024. 

وقد عرفت العديني لسنوات، وتنقل كتاباتها، بلغة إنجليزية بسيطة، مشاعر عميقة. كتبت لي قبل الحرب الأخيرة بسنوات: "أريد أن أشارك قصة شعبي مع العالم"، شارحةً التحديات التي تواجهها بسبب الحجاب والنقاب. وبسرعة، أصبحت هذه المرأة الفلسطينية الصامدة صوتًا معترفًا به، ليس فقط في وسائل الإعلام المستقلة، بل أيضًا في الإعلام الغربي التقليدي.

اختفى كثير من الزملاء والأصدقاء والطلاب بالطريقة نفسها، وكانت وفاتهم تصلنا عبر رسائل حزينة قصيرة. وقد تعلّم غالبية الصحفيين الشباب في غزة، حيث قيّد الحصار الإسرائيلي حركتهم. ولم يكن لديهم علاقات بمؤسسات إعلامية غربية، وكثير منهم لم يحصل على شهادات جامعية أو كانوا لا يزالون طلابًا. لكنهم نقلوا الرواية الفلسطينية بصدق افتقده الإعلام منذ زمن. لقد بدأ وضوح وقوة النضال الفلسطيني، كما نقلها شباب غزة، في كسر عقود من الانحياز الإعلامي الغربي. 

"لا نحتاج صحفيين غربيين ليرووا قصصنا"

يظل كتاب "منهجيات فك الاستعمار: البحث والشعوب الأصلية" للمفكرة الماورية (لماوري: السكّان الأصليّون في نيوزيلندا حاليًّا)، ليندا توهيوي سميث، شديد الصلة بسياق غزة وسرديات الشعوب المهمّشة حول العالم. فهو يُبرز كيف أن السرد من داخل الإطار الثقافي واللغوي للشعوب المتأثرة يخلق ديناميكيات مختلفة للسلطة والأولويات والتأثير.

ورغم الدمار في غزة، بدأت تتشكل رؤى جديدة للواقع المأساوي هناك وفي كل فلسطين. ستبقى هذه الدروس، وأحدها: أن الفلسطينيين، كغيرهم من ضحايا الاستعمار والعنف، لا يحتاجون إلى الغرب لكي تُعرف حقيقتهم ويُعترف بها.

في 24 مارس/أذار، قُتل الصحفي الفلسطيني الشاب حسام شبات بقصف إسرائيلي. وقبل عام من ذلك، كتب على مواقع التواصل الاجتماعي: "المشكلة الكبرى ليست في أن الصحفيين الغربيين لا يستطيعون دخول غزة، بل في أن الإعلام الغربي لا يحترم الصحفيين الفلسطينيين ولا يقدّرهم".

وأضاف: "زملائي وأنا نُخاطر بحياتنا يوميًا لننقل هذا الدمار. لا أحد يعرف غزة كما نعرفها، ولا أحد يفهم تعقيداتها مثلنا. إذا كنتم تهتمون بغزة، فدعّموا الأصوات الفلسطينية. لسنا بحاجة لصحفيين غربيين كي يرووا قصصنا؛ نحن قادرون على روايتها بأنفسنا".

حملت كلماته حقيقة عميقة، وزادها مقتله عمقًا. فقد كان يدرك تمامًا رغم صغر سنه، أنه، كمثقف وصحفي فلسطيني، لا يحتاج إلى إذن خارجي ليسرد قصة شعبه. استهدفته بسيارة مفخخة مُسيّرة بدون طيار في شرق بيت لاهيا، شمال قطاع غزة. ومثله مثل عشرات الصحفيين والأكاديميين والمعلمين والطلاب والفنانين، نقل مفهوم "المثقف المشتبك" من النظرية إلى الواقع الحي.

ولو كان غرامشي حيًا، لأدرك مدى صدى أفكاره في السياق الفلسطيني، ولشعر بلا شك بالفخر بمن ورثوا إرثه من مثقفي فلسطين.

قنطرة ©