لجوء إلى الجنون هرباً من تزمُّت التقاليد
كثيرون مصابون بداء المدن التي ولدوا فيها وعاشوا فيها طفولتهم. ففي هذه المرحلة العمرية تتشكل قصص الأهل والجيران والاصدقاء، وتتحول القصص مع مرور الزمن إلى أحداث وحكايا وذاكرة عن المدينة وعاداتها. ويصبح الفكاك منها شيئا مستحيلا، حتى لو غادرناها إلى مدن أخرى.
ينطبق هذا الشي على الروائية السعودية رجاء عالم. إذ تحاول في روايتها (باهبل مكة 1945_2009) إكمال مشروعها الكتابي حول تاريخ مكة الاجتماعي والثقافي. فالمدينة -التي طالما ارتبطت في ذهنية المسلمين بالبيت الحرام وردائه الأسود- تبدو في جانب آخر وهي تتبدل بسرعة كبيرة.
كان المؤرخ الباكستاني ضياء الدين سردار قد لاحظ في كتابه (مكة.. المدينة المقدسة) أنّه في هذه المدينة -وبالرغم مما حظيت به من وصف في نصوص الرحالة- عاش المكيون في المقابل مهمشين في هذه الكتابات. فقد بقيت العيون في الغالب تتركز في وصف الأبعاد الروحانية للحج. ولعل هذا الفراغ هو ما حاولت تجاوزه الروائية المكاوية رجاء عالم في عملها الروائي الحالي والسابق (طوق الحمام)، اللذين أخذت تكشف فيهما عن مكة الأخرى غير المقدسة، أو لنقل مكة المهمشة والفرعية، حيث الحياة الدنيوية، والعادات والأخيار والأشرار، وحيث عدم المساواة، والظلم الذي تعرضت له نساء المدينة وبعض شبانها، باسم العادات والتقاليد والماضي.
في هذا النص يبدو السحر جزءا من حياة المدينة. وتظهر مكة مدينة تقليدية وذكورية أيضا. فالرجال يغمزون ويقللون من قيمة بعضهم بعبارات مثل (فلان ينتحر عشان حرمة/سيدة).
أدب مكيّ في ألمانيا.."رُبَّ جملة واحدة أنشأت أعمق الروابط"
الكاتبة رجاء عالم، المنحدرة من مدينة مكة في شبه الجزيرة العربية، صوت بارز على الساحة الأدبية العربية. وتتميز رواياتها المكتوبة باللغة العربية الفصحى بوشائجها العديدة مع الموروثات الشفهية وبأنسجتها الفنية المؤلفة من مختلف الخيوط الروائية. وفي حوارها التالي مع روت رايف لموقع قنطرة، تقول الكاتبة رجاء عالم: "أكتب بحرية مثلما أطير في الحلم".
تدور الرواية حول بنات عائلة السردار (سكرية، حورية، نورية) اللواتي يعيشن ما يسمينه بالاستبداد السرداري، في إشارة للقمع الأبوي على وجه الخصوص.
وفي ظل هذا القمع تقرر سكرية تغيير هذا الواقع. ومع هذا الجنون -الذي أصبح مرادفا لأي فعل ينتهك تقاليد العائلة- نتعرف على أشياء كثيرة من الحياة اليومية والاجتماعية التي مرت بها مكة منذ النصف الثاني من القرن العشرين. ولذلك يمكن النظر إلى الرواية بوصفها تتحدث عن بعض مجنونات ومجانين مكة الذين حاولوا تجاوز القوانين الاجتماعية التي تشكّلت في المدينة على مدى قرون طويلة. وفي الوقت الذي يبدو فيه العقلاء (الذكور) قابلين بالمعادلة وباستمرار الحياة -كما هي- تقرر سكرية (ابنة الجارية) ببراءتها استعارة طقوس الجنون علها تتمكن من تحقيق حريتها.
كانت تسير وراء سيدها في شوارع مكة، تلاحقه في أسواقها ودكاكينها. لكن بين ليلة وضحاها، أصبح الخروج إلى شوارع مكة ممنوعا عليها. ونظراً لأنّ الفتاة اصبحت مؤهلة للزواج كان لزاماً أن يُعترَف بها من قبل مصطفى السردار (كبير العائلة). وبعد أخذ وجدل، جرى الاعتراف بها، وغدا اسمها الجديد سكرية، كي تذوب في أعراف المكيين وعاداتهم.
لم تسمح عادات أهالي مكة آنذاك للفتاة بالخروج أو حتى زيارة الحرم إلا بين سنة وأخرى. فَـ"بنت الأصل والفصل لا يلمح ظفرها غريب"، خوفا من الكلام والقيل والقال. حاولت سكرية الخروج عدة مرات، وعندما فشلت قررت خلع ملابسها وسط ساحة منزلهم الكبيرة. فطالما أنّ قرارات الرجال وعادات المدينة ترفض حضورهن في المشهد العام فلا بأس إذاً من حمل صفات الجنون لمحاولة كسر قوانين أهالي مكة الأصليين. حملت سكرية مرتبة سلطانة المجانين في العائلة. وهنا تعتمد رجاء عالم على اللهجة المكاوية، فالقصص المحلية لا تصل للسامع/للقارىء إلا بشرط التعبير عنها بموسيقى لهجة محيطها.
نساء سعوديات بارزات سبقن الرجال في الحياة المهنية والمجتمعية
يصرخ والد سكرية المجنونة "أحيانا لا يردك لصوابك إلا الكرباج.. ينزل الجني اللي رأسك لرجليك". وبعد أن تكررت ثورات سكرية قررت العائلة إرسالها إلى جدتها نازك في القاهرة، وهي سيدة مصرية أصابها الجنون أيضا عندما صرخت في وجه أكبر شنب مكاوي مستخدمة عبارة "طز فيك"، مطالبةً إياه بالطلاق. رحلت سكرية وعادت بعد سنوات من "بلاد البسط وهز الوسط" لنرى جنون الفتاة وقد نضج، دافعا بالأحداث والفتيات في مكة مرة أخرى إلى انتهاك طقوس العائلة والمدينة.
أولى طقوس الجنون، والتي غدت مرادفة لأي جديد، تمثلت في محاولة سكرية إجبارهم في الخمسينيات على تناول وجبة الغداء على الطاولة، وأن يكون لكل شخص طبق، وملعقة يتناول بها الطعام بدلا من تناوله باليد، وعلى يمين كل طبق سكين، وعلى يساره تلك الأداة التي أثارت الكثير من الجدل والتعليقات: الشوكة، والتي لم تكن رأتها معظم تلك العيون المراقبة. تعلق سكرية "لِمَ لا نكون على الموضة، نأكل على طاولة مثل أهل قصر عابدين"، فيرد الأب "وإيه خطاطيف الشيطان هذه؟ يا بنت إيش فنطزة الفراعنة". لكن جنون سكرية لا يقف عند عالم الطعام، بل راحت تخيط لهم فساتين بخصور قصيرة تصمّمها وتزينها بفن "الشخلعة" الشبيهة بفساتين الممثلات المصرية من أمثال فاتن حمامة وشادية وليلى مراد.
كبرت خطوات سكرية، وأخذت تحلم بأن تصبح هدى شعراوي المكاوية، لكن سرعان ما تصطدم بقرار والدها تزويجها بشاب دون أن تراه. وبذلك كان ثورة سكرية في مكة تخمد شيئا فشيئا، خاصة في ظل رجل لم يكن يحبها، مما حوَّلها إلى قرار الانعزال والعودة إلى منزل أهلها لاحقا، والسكوت.
حين تكون مكة مدينة النساء
مهرجان القيس في شهر الحج في مكة اختفى في الستينيات فقط وفيه تخلو مدينة مكة من الرجال لأيام بعد رحيلهم لخدمة الحجيج في المشاعر المقدسة وتحتفل النساء وحدهن بالمدينة. الكاتب إبراهيم مشارة.
كريم شانتيه وجهيمان العتيبي
لا يهدأ عفريت الجنون في منزل السردار، فها هو يقف مع صعود موضة التليفونات. حينها أخذ الاولاد وحريم العائلة يتجمعون في حلقة حوله ويتصلون على الناس. على أي رقم ليقولوا أي كلام يفشون به غلهم مثلا. كنَّ يرغبن بشق جدران البيت والطلوع إلى الخارج، أو فعل أي شيء ليقولوا للناس: نحن هنا عايشين في عالم أبو الهول (الأب). وفي أحد الأيام قرر العفريت الوقوف عند باب الأخت حورية، وهي كبرى بنات مصطفى السردار وجميلة جميلات مكة، تتناقل الخاطبات بمدن الحجاز أوصاف قامتها الرشيقة وعنقها الطويل كعنق غزال وأنفها المسمسم. وبالرغم من بلوغها الخمسين كلما سأل أحدهم والدها عن خطبتها قال لهم "ما عندنا بنات"، فمن هو هذا الرجل الذي يليق بابنه عائلة السردار التقليدية العريقة، ولذلك ظل شعور حورية بأنها أقرب ما تكون إلى "كريم شانتيه يحمض في حر مكة".
وفي أحد الأيام قررت السير في طريق الجنون، من خلال الخروج لأداء صلاة الصباح في حرم المسجد دون إعلام والدها. دخلت حورية المسجد، وما أن أعلن المؤذن عن إقامة الصلاة حتى دخل رجل الحرم -اسمه جهيمان العتيبي- معلناً أنّ المهدي برفقته. بدت مكة تعيش مغامرة ذكورية أيضا بعد عقود طويلة من الهدوء والاستقرار. لكنها ظهرت هذه المرة من نوع آخر، سواء في طقس الإعلان عن نفسه، أو في طريقة إخماده، ومشهد الكوماندوز الباكستانينن والفرنسييين وهم يقتحمون الحرم. هشّم إطلاق الرصاص كل شيء داخل الحرم، معلناً عن بداية تاريخ جديد في مكة والمنطقة عموما. لم يبالِ الرصاص بالمقدَّس أو بأي شيء، فكان نصيب حورية أن تموت في ذلك اليوم، وأن تخمد ثورة جنونها أيضا في وقت مبكر.
أما الأخت الثالثة -نورية- فربما كان حظها أحسن من مصير أخواتها، إذ دفعها الزواج للفكاك من الأب الديكتاتور، إذ غدت مدينة جدة بُعيد الستينيات ملاذاً للمكيين الباحثين عن حياة أخرى. "جدة بلد الفنجرة". بينما مكة مدينة ترفض التغيير، وتخشاه. هي كمثل مدن محافظة عديدة، قاومت التغيير في الستينيات وحتى الثمانينيات تقريباً.
كانت الانثربولوجية السعودية مي يماني قد كتبت عن طقوس المكيين والحجازيين عموماً، ومعها بدا أنّ الحجازيين -بُعيد الثلاثينيات من القرن العشرين وما عرفته تلك الفترة من تغيرات سياسية في الحجاز ونجد عموما- قد باتوا أكثر تمسكا بطقوسهم منهم بها في السابق، كمحاولة منهم لصنع هوية مضادة تتيح الحفاظ على مكانتهم. ولذلك بدت ليماني طقوس وعادات المكاويين تحمل دوافع إيجابية. لكن في مقابل هذه الرؤية المتفائلة -والمتورطة أيضا بالسياسي- تبدو الطقوس والتقاليد في رواية رجاء عالم من جدران طويلة تمنع النساء من التنفس.
أهبل/هبل مكة
خمدت نيران الجنون في حياة عائلة السردار، بعد فشل سكرية وحورية، إلا أنّ مورثات الجنون تبقى كامنة في هذه العائلة، وفي تاريخ مكة عموما. فالتقاليد، التي تبدو وكأنها تحافظ على هوية المدينة القديمة وقيمها، تتحول بذات الوقت -بعيد التسعينيات- إلى المعيق أيضا أمام تحقيق طموحات جيل شاب آخر. وهذا ما بدا هذه المرة مع ابن أخ سكرية وحورية (عباس) الذي وُلِدَ في ظروف صعبة، وبقي يعاني من عيوب خَلْقِيَّة. لكن هذه العيوب بدت وكأنها بمثابة إشارة إلى حمل هذا الشاب لأفكار جنونية شبيهة بأفكار عماته. فعوضا من دراسة الهندسة أو التجارة في أمريكا أعلم والده بحصوله على منحة من شراكة جنرال موتوزر، لتصميم هياكل السيارات.
لكن والده -عوضاً عن ترحيبه بالفكرة- طلب منه العودة لإكمال أعمال العائلة التجارية، فقبل قرون أعلن جده الحادي عشر بأن مغادرة مكة خيانة روحية، وخوفا من الفتن "بكرا الناس يعيرونا، ويقولوا ولدهم فاشل". وفي الوقت الذي حذره صديقه من العودة قرر عباس الانصياع لقرار والده، فأطلق عليه اسم "باهبل أو أهبل". ومنذ ذاك اليوم وكلما حاول عباس طرح أفكار جديدة وُصِفَ بالأهبل.
ولعل اعتماد الروائية هنا على الكلمة العامية أهبل -بدلا من كلمة مجنون- مقصود لما يحمله الاسم من مفارقات. فتعبير أهبل يذكر أيضا بالإله المكي القديم هبل، والذي كان يلوذ إليه المكيون ليمن عليهم بالخير والبركة، وليدفع عنهم الشر. وبالرغم من أن هبل قد تكسّر لاحقا مع قدوم النبي محمد لكن يخال لنا في الرواية بأنّ المكيين عادوا وخلقوا هبلا آخر، مكوناً من تقاليد وأعراف ذكورية. وهذا ما نلمسه في كلام عباس والذي يشير إلى أن "أهل مكة من زمن دنيتهم وهم صناع أصنام: هبل وذو العزة وأبو تمرة.. السردار الكبير صنم".
حاول عباس الأهبل (المجنون) تجاوز هذا العالم، لكن حاله أيضا كان كحال عماته -وبالأخص سكرية- فعندما قرر أن يتزوج، طلب من زوجته أن يحبها بكل حواسه ومخيلته، فكان ردها "بلا خيال بلا تهريج. أنا تزوجت مخلوق من زمن الديناصورات". بدت حال زوجة عباس كحال أسرته الذين هدموا منزل الجد وسكنوا في أحد الأبراج الجديدة المطلة على الحرم المكي، وهي الأبنية التي أخذت تتشكل بُعيد إعادة تشكيل مكة في السنوات الأخيرة. مع ذلك -وبالرغم من هذه التحولات الحضرية- ظلت العائلة المكية تؤكد على مفهوم العيب، وتعتمده أسلوبا في حياتها. في نهاية الرواية قرر عباس الانتحار. وضع حبلا في أعلى السقف وشنق نفسه. وبالرغم من أنّ النهاية تبدو قاسية لكن عباس لم يجد حلا من الهروب من مكة التقليدية بأهلها إلا بالصمت أيضا.
تبدو الروائية المكاوية رجاء عالم في هذه النهاية جريئة للغاية، فمكة التي نلوذ إليها باحثين عن أحلام وذكريات روحية وأمنيات -نحلم بتحقيقها بعد زيارتها- إذ بها تحمل في هوامشها وأطرافها قصص مئات النساء والشبان ممن جنّوا جراء واقعهم اليومي التقليدي. فالنبي محمد الذي قاد المدينة -قبل أربعة عشر قرنا نحو خيال ديني آخر- ها هم أبناؤها يعيشون في ظل مدينة بلا أحلام وخيال. وهي نتيجة ربما لا تذكرها عالم بشكل مباشر، لكن القارىء للرواية يشعر بها من خلال مشهد سكرية وهي تقول "الخوف من العيب قتلنا". ولعل هناك من سبق رجاء عالم في الحديث عن حياة الجنون، كروايات نجيب محفوظ عن القاهرة مثلاً، وروايات خيري الذهبي عن دمشق.
لكن ما يحسب لعالم هنا، أن المساحة التي يتحرك فيها المجانين هي أقدس الأماكن لدى المسلمين، وبالتالي يغدو الاقتراب من هذا العالم جنونا كبيرا. مع ذلك بدا حظها أفضل حالا من نصيب سكرية وحورية وعباس، إذ نجحت في ثورتها الأدبية بشجاعة، مما يجعل من عالمها الروائي يحمل المختلف والغريب عما هو موجود من أدب عربي، وبالأخص في العقد الأخير، والذي أصبحت فيه رسائل السياسة والايديولوجية أكثر وضوحا ومباشرة. بينما تمكنت عالم في نصها هذا من إعلامنا بأنّ الأدب حرفة صعبة، وأن الأدب يكون أدبا عندما يجعلنا محتارين في أمره وملاحقين له، وعندما نظن أننا اقتربنا منه، فإذا به يفاجئنا بنتيجة غير متوقعة.
محمد تركي الربيعو
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023