إيتيل عدنان- صوت اللغات وسفيرة الثقافات
خصَّك معرض دوكومنتا الثالث عشر بمعرض استعادي لعرض أعمالك منذ بداية إبداعك يضم سبعًا وثمانين لوحة وسجَّادتين جداريتين وفيلمًا وكذلك كتابًا. ماذا يعني هذا بالنسبة لك؟
إيتيل عدنان: كنت أتمنى لو جاءت هذه الدعوة قبل عشرين عامًا! ولكن من المثير للاهتمام أنَّني أعتقد في الوقت نفسه أنَّ هذا التوقيت تم اختياره بشكل جيِّد. وربما كان ما يزال لا يوجد لديّ في السابق هذا الوعي الفنِّي لمثل هذا المعرض الفنِّي الذي يعدّ من أهم معارض الفنِّ العالمية. إذا كان المرء ناجحًا ينتابه القلق أحيانًا من أنَّه لم يعد قادرًا على إعطاء مستواه الفنِّي ما يستحق، ومن ثم يكون الأمر مثل تمجيد فنِّي عندما يتم تقدير أعامل الفنَّان وتُعرض في مثل هذا المعرض العالمي. ومن الطبيعي أنَّ كلَّ فنَّان يحلم في المشاركة ذات مرَّة في معرض دوكيومنتا. وكذلك لأنَّني أشارك في هذا المعرض الكبير غير التجاري فهذا شرف كبير بالنسبة لي.
صدر لك بمناسبة معرض دوكومنتا ضمن سلسلة الكتب التي تم أطلاقها حديثًا تحت عنوان "مائة ملاحظة ومائة فكرة" كتاب يحمل عنوان "ثمن الحبّ الذي لا نريد دفعه". ما سبب تأليفك هذا الكتاب؟
عدنان: لقد طلبت مني المديرة الفنِّية لمعرض دوكومنتا كارولين كريستوف باكارغيف أن أكتب شيئًا حول أعمالي الفنِّية. غير أنَّني نشرت في السابق كتابًا حول هذا الموضوع. وهكذا اختارت استراتيجية ذكية وسألتني كما لو كنا نخوض حديثًا خاصًا: عن ماذا ترغبين الكتابة؟ إنَّ ما يثير اهتمامي وجود الكثير من الأعمال التي تدور حول العنف والجنس والبورنوغرافيا ولكن لا أحد يتحدَّث حول الحبّ. لذلك قرَّرت أن أكتب كتًابا حول الحبّ ومن دون أية رقابة ذاتية. وقد كنت مهتمة بعدم اقتصار الحبّ على العلاقات بين الناس. فالحب يمثِّل طاقة تجري عبر قنوات مختلفة. وبالتأكيد الحبّ الأصعب هو حبّ شخص ما. وذلك لأنَّ الأشياء تنصاع لك وإذا كنت تحبين الرسم فستتعاملين فقط مع الألوان والقماش، ولكن إذا كان المحبوب شخصًا فسيُدخل مشكلاته وقضاياه الخاصة إلى الحبّ.
يشعر بعض الأشخاص بأنَّهم مرتبطون على نحو خاص باللغات. وكذلك تمثِّل اللغة موضوعًا أساسيًا في حياتك...
عدنان: كانت والدتي امرأة يونانية من تركيا من المدينة المعروفة في يومنا هذا باسم أزمير وكان والدي ضابطًا في الدولة العثمانية وقد ولد في دمشق. ووالداي كانا يتكلمان مع بعضهما اللغة التركية، بينما كانت أمي تتكلم معي اليونانية. وكان الناس من حولي في بيروت يتكلمون اللغة العربية وفي مدرستي الفرنسية. واليوم تعتبر اللغة الإنكليزية لغة العمل بالنسبة لي.
ما هي اللغة التي يمكنك اعتبارها لغتك الخاصة من بين هذه اللغات؟
عدنان: إذا أردنا الصدق لا توجد لغة محدَّدة من بين هذه اللغات. كما أنَّني لا أعتقد أنَّ لديّ لغة خاصة بي. وكذلك يعتمد دائمًا ارتباطي بأية لغة على العمل الذي أقوم به وعلى البلد الذي أتواجد فيه. ويتوقَّف هذا على وضعي الخاص. اشتريت في اليونان بيتًا صغيرًا وذلك فقط لأتمكَّن من سماع اللغة اليونانية في أذني، هذه اللغة المرتبطة ارتباطًا وثيقًا للغاية بذكريات والدتي، وعندما أكتب أكاد أكتب فقط باللغة الإنكليزية. وكذلك يرتبط هذا أيضًا بسيرتي الذاتية، إذ تعتبر اللغة الإنكليزية بالنسبة لي لغة الحرِّية فقد هاجرت بمفردي إلى أمريكيا وخضت طريقي بمفردي وكنت أعتمد فقط على نفسي. ولذلك فإنَّ اللغة الإنكليزية تمثِّل هذا الشيء الذي اكتسبته أنا بمفردي ومن دون مساعدة أسرتي. وفي اللغة الإنكليزية يستطيع المرء التعبير بحرِّية، على عكس ما هي عليه الحال في اللغة الفرنسية التي عندما يبتكر فيها المرء بناءً لغويًا جديدًا فعدئذ يعتبر ذلك خطأً لغويًا. وأنا بقدر ما أحب شعر اللغة العربية! بقدر ما أتمنى لو نظمت قصائدي باللغة العربية!
إذا كنت قد اعتدت منذ طفولتك إلى هذا الحدّ على التنقّل هنا وهناك بين اللغات ومن ثم في وقت لاحق بين الأماكن - بيروت وباريس وكاليفورنيا، فهل تشعرين من خلال هذا الوعي الكوسموبوليتي بأنَّك مواطنة عالمية؟
عدنان: لا أعرف. وصحيح أنَّ أهمية فكرة المواطنة العالمية تزداد باستمرار، ولكن لكلِّ هذه التطوّرات ثمنها. دعينا ننظر فقط إلى المشهد الفنِّي العالمي. عندما لا أقول إنَّني لبنانية أو من كاليفورنيا، فمن أين لك أن تعرفين من أين أتت لوحاتي؟ إنَّ كلَّ مكسب يعتبر أيضًا خسارة. والعولمة لها دائمًا وجهان.
ما هو تأثير خلفيَّتك متعدَّد الثقافات على أعمالك؟
عدنان: عندما يكون لدى المرء مثل هذه الخلفية متعدِّدة الثقافات - الأمر الذي سيكون في المستقبل طبيعيًا جدًا - فأين ستكون إذًا الهوية؟ كثيرًا ما أطرح على نفسي هذا السؤال. الهوية هي مزيج من أشياء مختلفة، مزيج من ذكريات الوطن الأصلي والأسرة والحياة الخاصة. ولكن في آخر المطاف نحن من نقرِّر كيف نريد أن نعيش. كان بإمكاني أن أنكر أصلي وأن أصبح أمريكية. أو كان بإمكاني أن أرفض أمريكا وأن أكون امرأة عربية. ولكنني في الحقيقة لا أطرح على نفسي في أغلب الأحيان مثل هذه الأسئلة حول الهوية الوطنية. والهوية بالنسبة لي مثل شجرة تنبت أحيانًا براعمها بسعادة وتفقد أحيانًا أوراقها. وهي عملية تتغيَّر باستمرار.
يرد في مقدِّمة كتاب لك أنَّ "بيروت تلتصق بي مثل الشمع الساخن". هل ما تزال بيروت وطنك بعد كلِّ هذه الأعوام التي قضيتها في المنفى؟
عدنان: بيروت تصبح وطني عندما تعاني من مشكلات، كما أنَّها ليس وطني الوحيد، فقد قضيت حتى الآن في كاليفورنيا وقتًا أطول مما قضيته في بيروت. وكذلك تكيَّفت مع المجتمع الأمريكي ونشأت مع نظام تعليم فرنسي. ولكنني عندما أقرأ في الصحيفة عن الحرب الأهلية في لبنان أو عن أعمال العنف في سوريا فعندئذ أحدِّد هويَّتي في هذه المنطقة. إذ إنَّ السياسة لا تسمح لنا أن ننسى جذورنا أو أن نتناسى ببساطة من أين أتينا. وبصراحة أنا أشعر بأنَّني أحصل على رعاية حسنة في العالم. ولكنني أشعر بأنَّني مرتبطة مع بيروت وشمال كاليفورنيا ارتباطًا خاصًا. حيث أجد نفسي في وطني عندما أكون في هذين المكانين اللذين يعتبران في غاية الجمال. لقد كانت بيروت جميلة في الماضي، ولكن في يومنا هذا يدمِّر القائمون على تخطيطها بالكتل الخرسانية الجديدة جمال هذه المدينة أكثر من الدمار الذي أحدثته الحرب فيها.
هل تعتبرين نفسك فنَّانة أمريكية عربية أيضًا لأنَّك اخترت بيروت وشمال كاليفورنيا وطنًا لك؟
عدنان: صحيح أنَّني من دون ريب فنَّانة أمريكية عربية، ولكن أنا شخصيًا لا أصف نفسي كذلك. ومع ذلك أمريكا قائمة على هذا المفهوم الخاص بإضافة الأصل إلى هوية الفرد مثل أمريكي أسود وأمريكي من أصل إسباني - وأنا أقبل ذلك، ولكنني أشعر بالراحة في أوروبا أيضًا وأقدِّر بصورة خاصة الإبداع في أوروبا.
كثيرًا ما كانت الأزمات تثير إبداعك. الحرب الجزائرية وحرب فيتنام والحرب في لبنان - أحداث عالمية كثيرًا ما ترد في أعمالك. كيف تجري لديك عملية الإبداع الفنِّي؟
عدنان: أنا أتفاعل ببساطة مع ما يحدث في العالم أو مع ما يحدث في محيطي المباشر. ولا أفكِّر بأي موضوع يمكنني البدء قبل أن أبدأ العمل. وكذلك لم أضع أية تصاميم وخطط لأي عمل من أعمالي قبل البدء بإنجازه. وهذه الأعمال أنجزت كلّها بالصدفة ونتج كلّ منها عن وضع معَّن.
كيف تقيِّمين التطوّرات الأخيرة في العالم العربي؟
عدنان: لقد كان العالم العربي برمَّته في أيدي أنظمة استبدادية تعتبر في غاية الفاسد ولا تريد الرحيل ببساطة، لأنَّها مترسِّخة في البنى الهيكلية وذلك أيضًا بسبب الدعم الذي تتلقاه من الخارج. وبناءً على ذلك فإنَّ المشكلة لها وجهان، إذ إنَّ كلَّ بلد لديه مشكلاته المحلية ويعتبر نفسه بالإضافة إلى ذلك معرَّضًا لتأثير القوى العالمية. وعلى سبيل المثال سوريا التي تحكمها حكومة فاسدة منذ أكثر من أربعين عامًا؛ كانت الأوضاع هناك على وشك التحسّن حيث قامت ثورة ما تزال مستمرة ولكن النظام مع ذلك يرفض بشدة إجراء أية إصلاحات. روسيا والصين تساعدان النظام السوري، وصحيح أنَّ بإمكان الشعب السوري المسلكين أن يثور على حكومة بلده، ولكنه لا يستطيع بمثل هذه السهولة أن يثور على روسيا والصين. ولذلك فإنَّ الدول العربية غير متحرِّرة لا من حكوماتها ولا من بقية حكومات العالم. وهذا وضع مأساوي.
إذًا هل تميلين إلى مراقبة الأحداث عند بعد من موقع المراقب غير المنحاز؟
عدنان: لا فأنا قريبة جدًا من التطوّرات، ومثلما ذكرت سابقًا أنا سعيدة في الولايات المتَّحدة الأمريكية وأوروبا ولكنني مع ذلك أتأثَّر مباشرة عندما أراقب كلَّ هذه الأزمات. فأنا لا أستطيع ببساطة تخليص نفسي من ذلك وأحيانًا أرغب في التمكّن من ذلك ولكن فجأة تنهال عليّ العناوين والقصص وتكسر لي قلبي. على سبيل المثال مصر التي قامت فيها ثورة رائعة! ولكن الجيش الآن لا يريد التخلي عن السلطة على الإطلاق. ونحن لا نعرف في الواقع من الذي يقف خلف الجيش ومَنْ مِنْ الحكومات الأجنبية لديها يدّ في هذه اللعبة. وإذًا ما الذي لم يفعلة المواطنون حتى الآن؟ لقد قدَّموا حتى الآن أفضل ما لديهم. إنَّ قلبي ينكسر عندما أشاهد ذلك.
أجرت الحوار: فيرا كيرن
ترجمة: رائد الباش
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012
ولدت الشاعرة والأديبة والفنَّانة إيتيل عدنان في عام 1925 في بيروت لأب سوري مسلم وأم يونانية مسيحية من مدينة سميرنا. ونتيجة الاستعمار الفرنسي لم يكن بوسعها تعلم اللغة العربية في المدرسة. ودرست فيما بعد الفلسفة في باريس وهارفارد وبيركلي كما أنَّها عملت في التدريس في كاليفورنيا، وتعيش الآن متنقِّلة بين باريس وبيروت ومدينة سوساليتو في ولاية كاليفورنيا.