تاريخ الإسلام في الفكر الألماني - من لايبنتز إلى نيتشه
صدر حديثًا للباحث والأكاديمي البريطاني إيان ألموند كتاب " تاريخ الإسلام في الفكر الألماني - من لايبنتز إلى نيتشه – 2009" عن مؤسسة ريم وعمر، وترجمة فاطمة الزهراء علي.
يعد إيان ألموند من المهتمين بالتاريخ المُشترك بين الإسلام وبين الغرب، وقد صدر له كتابان بترجمة عربية: "التصوف والتفكيك: درس مقارن بين ابن عربي ودريدا" (ترجمة وتقديم: حسام نايل، مراجعة: محمد بريري، المركز القومي للترجمة، 2011.) وكتاب "ديانتان تحت راية واحدة: حين قاتل المسلمون مع المسيحيين في معارك أوروبا" (ترجمة، وتحقيق: زينة إدريس، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2014.)
الأطروحة المهمة في هذا الكتاب والتي قد تجعله يستحق القراءة هي إستحضار ألموند للسردية الإستشراقية التي نقدها إدوارد سعيد محاولًا التخلص من الأفكار السلبية أو ما وصفه بـ"الشياطين" التي شكلت ذهنية ونظرة علماء وفلاسفة ألمان للإسلام، وهذا من أجل رسم صورة جديدة بها بعض الجوانب الإيجابية عن العالم الإسلامي المُتاخم لأوروبا.
يقوم ألموند برقصة خَطرة على الحبل ليتمكن من الإلمام بشكل مُعمق لنظرة الفلاسفة والمنظرين والأدباء الغربيين وربطها بالسياق السياسي، والصراع العسكري بين الدول الغربية المسيحية آنذاك "ألمانيا تحديدًا" والدولة العثمانية المُسلمة، خصوصًا أن حصار الأخيرة لڤيينا في عام (1683) كان قد ساهم في صنع رأي مضاد للإسلام لدى أغلب مثقفي الغرب في تلك الحقبة الزمنية، ولكن لا يمكن سحب هذه الآراء وإسقاطها على العالم الإسلامي ككل.
ثنائية الـ "مع – ضد"
قام ألموند بالتعويل على ثنائية (مع-ضد) في آراء المثقفين الألمان، فمثلًا نجد أن أشهر أدباء ألمانيا، يوهان فولفغانغ فون غوته (1749- 1832) كان "مع" التفرقة بين عبقرية الثقافة الإسلامية و "ضد" الوضع السياسي للدولة العثمانية ويؤيد غزوها. وقد فُتن غوته بالأدب الإسلامي الفارسي المثالي، والحس الجمالي الرومانسي في الأعمال الإسلامية، وقد ظهر هذا التأثر في ديوانه الشعري "الديوان الغربي الشرقي" (1819). وأيد غوته الوجود السياسي الإسلامي إن كان سيسهم في نشر قيم القرآن الكريم، ولكنه وفي نفس الوقت كان قد أيد أيضًا غزو نابليون لمصر وهو يحمل في جعبته رواية "آلام فرتر"!
وقد سبق غوته في هذا التفكير الشاعر والفيلسوف اللاهوتي الألماني يوهان جوتفريد هردر (1744-1803) الذي أثنى على الأدب العربي والفارسي، ورأى أنه من الضروري الحفاظ على الكنوز الثقافية للحضارة الإسلامية، لكن وعلى الرغم من انتقاد هيردر لفكر الاستعمار الأوروبي، فقد أيد في نفس الوقت غزو الإمبراطورية العثمانية الإسلامية.
بينما كان الفيلسوف وعالم طبيعة والدبلوماسي غوتفريد لايبنتز (1646-1716) أكثر وضوحًا في مواقفه فقد رأى أن الأراضي الإسلامية كلها "ظلامية، وهجمية، ومتخلفة"، وقد حان وقت غزوها أكثر من أي وقت مضى، على الرغم من إقراره أن "الأطر الأخلاقية، والتشريعية الدينية للإسلام متطابقة لحد كبير مع الأطر اللاهوتية للمسيحية."
الشرق المُفلتر
قام ألموند بمناقشة طريقة بحثية أخرى لجأ لها المفكرون الألمان في تعاملهم مع الإسلام وهي "الفلترة" أو ما يعرف بـ "الإنحياز التأكيدي" فقد لجأ أحد أهم فلاسفة ألمانيا في القرن الثامن عشر "إمانويل كانط (1724-1804) إلى أعمال مؤرخين وعلماء وفلاسفة كرسوا جهودهم العلمية والبحثية من ترجمة وتدقيق في الأعمال الإسلامية التركية تحديدًا من أجل تشويه سمعة العالم الإسلامي، وقد كان لكانط ما أراد وقد كوّن استراتيجية شاملة تتضمن العرق واللاهوت والحضارة وهذا ما لا يتوفر في نظره في الإسلام ودولته الممثلة في الأتراك/العثمانيين ولهذا تم رفض الإسلام كدين وكفكر.
ونتج عن هذا الفكر الإستشراقي العام للمفكرين الألمان موضع البحث (لايبنتز، كانط، هيردر، شليغل، هيجل، غوته، ماركس، نيتشه ) ما يمكنا أن نسميه "شرق مُفلتر"، وهو ما أعتقد أنه عبارة عن حشد من التخيلات المريضة أو الخاطئة أو المتحيزة و التي لا تخلو من بعض الإيجابية أيضًا .
بين رؤية ألموند ورؤية إدوارد سعيد
والرائع لدى ألموند هو تقييم هذه الأفكار؛ فقد رفض أن يتبع الأفكار المُتعلقة بالإسلام في السردية الإستشراقية وأن يسير على النهج النقدي لإدوارد سعيد ويجعل المثقفين خاضعين لبنية فوقية تقودهم وترسم لهم صورة عن العالم الإسلامي وكأنهم آلات تدور بواسطة نظام تشغيل إستشراقي.
ولهذا أصر ألموند على أن هؤلاء المفكرين الكبار، والذين شكلوا ذهنية العقل البشري على مدار قرون كانوا مسؤولين عن أحكامهم وتحيزاتهم، هذه. بل ومقصرين في محاولات قراءة الآخر، وتجاهلوا عن عَمد أعمال أكثر دقة ورصانة لقراءة الواقع الإسلامي مثل أعمال: هينريش فون دييز، فون مولر... وغيرهم.
لكن ألموند لم يترك مجالًا للشك في كون المطروح ضد الإسلام صحيح في جزء منه على الأقل، وهذا يمكن أن نعتبره مُرتكزاً نقدياً لأطروحته؛ فلم يُلقِ ألموند الضوء على اضطهاد الأقليات كالأرمن والفساد المالي والإداري، ووضع المرأة، كما أغفل الأصوات المعارضة للحكم القائم على أساس ديني وما ينبثق عنه من تشريع داخل الدولة العثمانية، ومَثل هذه الأصوات على سبيل المثال لا الحصر: إسماعيل أنور باشا (1881-1922) قائد عسكري عثماني وأحد قادة حركة تركيا الفتاة، وعثمان حمدي بك (1842-1910) هو عالم آثار عثماني ومدير متحف ورسام ومفكر وخبير فني وأحد الرواد التشكيلييين في عصره، ومصطفى فاضل باشا (1842-1910) أحد زعماء حركة "العثمانيون الجدد" والذي بعث برسالة للسلطان عبدالعزيز (1830-1876) خليفة المسلمين الرابع بعد المائة وسلطان العثمانيين الثاني والثلاثين والرابع يندد بمرض عُضال ألم بالدولة (الفساد والترهل الإداري) وصار يعاني منه المسلمون قبل المسيحيين الذين بدأوا ينتفضون من أجل الإستقلال.
وما سبق ذكره من أفكار وشخصيات وأحداث غابت عن أطروحة ألموند كان سيساعده لإستخدام آلية إدوارد سعيد لتفكيك الفكر الألماني الإستشراقي بشكل أكثر فاعلية، عبر وضع الحوادث التاريخية والإجتماعية والإقتصادية، أو ما يُعرف "بالإكراهات" التي كانت مُحيطة بالعالم الأوروبي في سياقها من أجل فهم القصور المنهجي لدى العلماء ومثقفي ألمانيا موضع البحث نتيجة الخطر الإسلامي العثماني على دولهم.
وكان هذا الفهم سيفسر على الأقل التناقض الذي يظهر لدى مفكري ألمانيا من جهة. وسيفسر لنا حجة ثنائية "مع-ضد" من جهة أخرى. فعلى سبيل المثال لا الحصر، في كتابات كارل ماركس (1818-1883) اعتبر أن الفكر الإسلامي العثماني حجر عثرة في سبيل التقدم والتطور العلماني القادم من أوروبا، بالإضافة لآراء ماركس السلبية في الشعب الجزائري. فتارةً إعتبره ضحية الاستعمار وتارة اعتبره شعباً همجياً لا يستحق الحرية.
وهذا التناقض ينطبق على كل مثقفي إلموند الذين تم تضمينهم في الدراسة في ضوء ما بدأ يتكشف من معلومات عن العالم الإسلامي بعد الحملات البونابرتية أو بزيارة مُباشرة من رموز الفكر الألماني للبلاد الإسلامية.
لماذا نقرأ أدبيات الاستشراق .... لماذا علينا أن نرى أنفسنا في عيون الآخر ؟
في النهاية، يعد الكتاب بمثابة تحدي للفهم التقليدي عن الاستشراق وأبرز مفكري ألمانيا. ومُحاولة من إلموند أن يشرح لماذا بقيت صورة المسلمين محصورة بين حدود الفكر العقلاني وغير العقلاني، وخصوصًا في الفترة الممتدة بين (1680-1890)، وكيف تم لصق صفات تترواح بين الخير والشر بـ "المحمديين - المسلمين" منها التعصب والشهوانية والكسل والرومانسية والرضا والبساطة!
كما يأتي الكتاب بمثابة قراءة جديدة في أفكار المدارس الفلسفية الألمانية حول الإسلام، رغم صعوبة هذه الأفكار والتي تُعد نتاج مجموع متنافر من المواقف والانطباعات المتعمقة تارة والمتسرعة أخرى والتي يخرج بعضها من صفحات التراث الألماني لأول مرة بمجهود من المؤلف ألموند محاولًا إيضاح جذور الاضطراب في الفكر الغربي المُتعلق بالإسلام، وهذا دون الوقوع في موقف دفاعي أو هجومي عن الدين الإسلامي، بل محاولة من ألموند لتفكيك المفاهيم الغربية الفلسفية وطرحها للقارئ تاركًا له مُتسعاً من التفكير حول هذا الدين الإبراهيمي.
وبناء على ما سبق تظهر ميزة هذا الكتاب؛ فعلى الرغم من صعوبة إيجاد منهج فلسفي واضح ومحدد للفلاسفة الثمانية حول الإسلام والتشتت الذي قد أشرنا إليه سابقًا حول الدين الإسلامي في كتابات وأفكار كل فيلسوف على حِدة، فقد استطاع الكتاب الإبتعاد كل البعد عن تقديم أي أفكار معلّبة لمعالجة تعقيدات وتبعات الصورة الإشكالية التي تكونت عن الإسلام سواء كثقافة او كنظامٍ للحكم داخل مؤلفات الفلاسفة الألمان.
وفي العموم، فإن قراءة الكتب التي تتناول طرح ونقد لأدبيات الاستشراق الغربية لها أهمية إستثنائية تبعًا للظرف التاريخي السياسي/الإجتماعي المُعاصر فعبر العودة بالزمن لقرون مضت وربط الأفكار ببعضها حتى نصل إلى حاضرنا والذي صار يعاني من صراع هوية/طائفي لا هوادة فيه يمكننا من فهم الجذور التي ينمو منها رهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا) والإرهاب الأبيض وصعود اليمين المتطرف المُعادي للمسلمين والأتراك على حد السواء، وتجدد الصراعات الأثنية الأرمنية والصربية والألبانية والكردية.
اقرأ أيضًا: مقالات مختارة من موقع قنطرة
الإسلام لا يحتاج مصلحاً دينياً مثل مارتن لوثر!
"القرآن كتاب هداية و ليس وثيقة تاريخية نتعامل معها بمنطق الأركيولوجيا"
الإصلاح الديني في الإسلام: الإسلام لا يحتاج مصلحاً دينياً مثل مارتن لوثر!
كيف كان وينبغي أن يكون "تجديد" الإسلام؟
من تحفيز الإصلاح إلى تقوية خصومه...الغرب والإصلاح الديني في الإسلام