"تقريبا ثلث اللبنانيين فقراء"
لم أستمتع بمشاهدة فيلم "كفرناحوم" للمخرجة اللبنانية نادين لبكي، ولكن على الرغم من ذلك فأنا أوصي بمشاهدته. لقد فاز هذا الفيلم بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي لعام 2018، وهو معروض منذ نهاية شهر أيلول/سبتمبر 2018 في دور السينما اللبنانية.
يحكي الفيلم قصة الطفل زين، الذي يبلغ عمره اثني عشر عامًا وينشأ في حيّ بيروتي فقير. يعيش زين مع أبيه وأمِّه المثقلين بالأعباء دون اكتراث، بالإضافة إلى العديد من الإخوة والأخوات في شقة صغيرة متهالكة. وبالنسبة لهم يمثِّل كلُّ يوم معركة من أجل البقاء. لا مجال للتفكير في ذهاب زين إلى المدرسة، فهو يعمل عند بائع بقالة يدفع له أجرته على شكل مواد عينية.
عندما يتم إجبار أخته على الزواج من هذا التاجر، يهرب زين من البيت ويبدأ حياته الخاصة. يقيم هذا الصبي علاقة صداقة مع عاملة مهاجرة من إثيوبيا تؤويه في سكنها الفقير. فيلم المخرجة نادين لبكي هذا يشكل مرآة للمجتمع اللبناني.
وما نراه هو صورة قبيحة وقاسية وميؤوس منها. التضامن نادر هنا. لا وجود للدولة إلَّا عندما يتعلَّق الأمر بترحيل الناس أو عرضهم على المحكمة أو رميهم في السجن. كان من الصعب بالنسبة لي تحمُّل مشاهدة هذا الفيلم لأنَّ الكثير من مشاهده مألوفة جدًا لديّ في الحياة اليومية.
انتشار الفقر في جميع أنحاء بيروت
تمثِّل الأحياء العشوائية الفقيرة وتسوُّل الأطفال والنساء مع أطفال رُضَّع والمسنّين طوال اليوم على مفترقات الطرق جزءًا من صورة الشوارع المألوفة في بيروت وغيرها من المدن اللبنانية. حيث يبيعون الزهور والمناديل الورقية والعلكة أو يجلسون بلا مبالاة. وفيلم "كفرناحوم" يدعونا نحن المشاهدين للتفكير في موقفنا تجاه الفقراء من حولنا.
لم أستطع بعد الخروج من السينما إلى الحياة العادية إلَّا أن أسأل نفسي: هل يجب علي أن أعطي بعض المال لهذا الطفل المتسوِّل؟ وإذا أعطيته، فهل أدعم عمل الآباء عديمي المسؤولية أو "مافيا الأطفال" الكامنة وراء ذلك؟ قد يكون من الأفضل توزيع الطعام؟ الموز والماء؟ ما الذي يمكنني فعله؟
بعض المشاهد في الفيلم والأوضاع في الشوارع تمثِّل فقط الجانب المرئي بشكل خاص من الفقر في بيروت، الذي لا يمكن لأحد أن يتجاهله. ولكن هناك جوانب أخرى كثيرة. فأنا محاطة في الحيّ المتنوِّع اجتماعيًا في بيروت الغربية حيث أعيش بأناس يكافحون يوميًا من أجل لقمة العيش من دون أن يتسوّلوا أو يتحدَّثوا حول ذلك.
هنا - على سبيل المثال - أم بشير، وهي أرملة عمرها أربعون عامًا، تجلس كلَّ يوم مع ابنها العاطل عن العمل عند مدخل بيت وتبيع الصحف. تعتمد أم بشير على القروش القليلة، التي تكسبها يوميًا من بيع الصحف. وهنا أيضًا حمودي، وهو طفل عمره ثلاثة عشر عامًا يعمل كلَّ يوم من الصباح الباكر حتى وقت متأخر من الليل لدى ميكانيكي سيارات، بدلًا من الذهاب إلى المدرسة. يحصل والداه على عشرين ألف ليرة لبنانية (أي ما يعادل نحو اثني عشر يورو) في الأسبوع مقابل عمل ابنهما.
وهنا أيضًا الشباب الذين ينقلون لي كلَّ بضعة أيَّام صناديق المياه إلى باب منزلي أو يحملون مشترياتي عند الخروج من السوبرماركت. وجميعهم يعتمدون على البقشيش، الذي أعطيه لهم. في الواقع أنا لست مجبرة على إعطاء أي شيء. وإذا لم أعطهم فلا أحد سيحاسبني على ذلك أو سيغضب.
غير أنَّ هذا - إذا جاز التعبير - قانون غير مكتوب هنا يُلزمني أيضًا بإعطاء شيء ما. الناس الذين يملكون شيئًا يعطون الآخرين الذين لا يملكون شيئًا أو الذين يملكون القليل جدًا. يجب على المرء دائمًا أن يحتفظ ببعض من هذه الأوراق النقدية الخضراء الداكنة من فئة ألف ليرة، علمًا أنَّ ألف ليرة لبنانية تعادل 0.57 يورو.
فوارق اجتماعية واقتصادية هائلة
بحسب تقديرات برنامج الأمم المتَّحدة الإنمائي فإنَّ ثلث اللبنانيين تقريبًا فقراء ويضطرون للعيش بأقل من أربعة دولارات لكلِّ فرد في اليوم. كذلك يضطر نحو مائتي ألف شخص لبناني إلى الاكتفاء بأقل من دولارين للشخص الواحد في اليوم، وبالتالي فهم يُعَدُّون من أفقر الفقراء بحسب تعريف البنك الدولي. توجد فوارق اجتماعية واقتصادية شديدة بين مختلف المناطق اللبنانية. الوضع صعب بشكل خاص في شمال وشرق لبنان.
يعاني من الفقر بشكل خاص اللبنانيون الذين لم يكملوا الدراسة المدرسية أو لا يملكون شهادات ومؤهلات بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية. ولكن حتى الفئات المتضرِّرة من القوانين اللبنانية تعاني معاناة شديدة من الفقر، أي: الفلسطينيين الذين يعيشون في لبنان منذ عدة عقود. فهم لا يتمتَّعون بنفس الحقّ في الحصول على التعليم الحكومي، ولا يُسمح لهم بمزاولة بعض المهن المحدَّدة وامتلاك الأراضي والعقارات. بالإضافة إلى ذلك فهم يحصلون فقط على فرص محدودة للاستفادة من نظام الرعاية الاجتماعية.
أنْ يولد المرء في عائلة فلسطينية في لبنان فهذا يعني بدايةً صعبةً في الحياة. أمَّا اللاجئون السوريون، الذين تقطَّعت بهم السبل في هذا البلد ولا يحملون تصاريح إقامة وتصاريح عمل سارية المفعول فهم لا يملكون أي شيء ويعيشون يومًا بيوم في فقر مدقع. زد على ذلك أنَّ الكثير من اللبنانيين يناصبونهم العداء لأنَّهم يتنافسون كعمالة رخيصة على فرص العمل مع السكَّان المحليين.
إنَّ الحصول على عمل ودخل ثابت يُغطِّي نفقات المعيشة اليومية والرسوم المدرسية للأطفال لا يشكِّل أي ضمان ضدَّ التراجع الاجتماعي (والانزلاق إلى الفقر). وبسبب ضعف نظام الرعاية الاجتماعية يمكن أن تؤدِّي بسرعة إصابة أحد أفراد الأسرة بمرض خطير إلى انهيار مالي.
لا يعتبر التمتُّع بالرعاية الصحية الجيِّدة أمرًا طبيعيًا في لبنان حتى بالنسبة لأبناء الطبقة المتوسطة. كثيرًا ما تنشر الصحف تقارير مرعبة حول رفض استقبال أشخاص بحاجة لعلاج طارئ في المستشفيات، لأنَّ ذويهم غير قادرين على الدفع سلفًا. وفي كلِّ مرة يؤدِّي ذلك إلى موجة غضب عارمة، ولكن سرعان ما تتلاشى الضجة.
"لا توجد دولة"
الفقر في لبنان أكثر وضوحًا وأكثر انتشارًا مما عليه الحال في ألمانيا أو في أي مكان آخر داخل أوروبا الغربية. وهو في لبنان أكثر خطرًا وأكثر انعدامًا للأمل وأكثر انعدامًا للرحمة. يمكن أن يصيب المرء بشكل غير متوقَّع. يتم تقبُّله كواحدة من مشكلات لبنان العديدة غير القابلة للحلِّ منذ عقود من الزمن. الدولة اللبنانية الضعيفة لا يتم تحميلها أية مسؤولية عن الفقر في البلاد. والعبارة الشائعة في لبنان هي: "ما في دولة"، أي "لا توجد دولة".
ومثلما تعتبر الدولة عاجزة عن حلِّ أزمة النفايات أو السيطرة على نقص الكهرباء والمياه، فليس من المتوقَّع بتاتًا أنَّها ستعمل لصالح المحرومين اجتماعيًا. بل على العكس من ذلك. إذ إنَّها تعتبر المدافع عن الأثرياء. كما أنَّ العديد من السياسيين هم أيضًا رجال أعمال أثرياء. الدولة تستعين بمصادر خارجية لمواجهة المشكلة. لذلك فإنَّ المسؤول عن حلّ المشكلات الاجتماعية في لبنان هو المنظمات الخيرية والدينية، أو حتى أفرادٌ يشاركون كمتطوِّعين. وكلُّ طائفة تعتني بأبنائها.
أتساءل عما إذا كانت حقيقة انتشار الفقر على هذا النطاق الواسع في كلِّ مكان في لبنان تجعل الكثيرين من الناس يرغبون في الانعزال عن بعضهم أكثر وأن يظهروا بأنَّهم ليسوا فقراء. هل تعتبر الهيبة والوجاهة لهذا السبب مهمة إلى هذا الحدّ؟ لماذا يُعلِّق الناس أهمية مبالغ فيها على الملابس والسيَّارات الباهظة الثمن؟ ولماذا يتباهى الناس بأنَّ أطفالهم يذهبون إلى مدرسة خاصة مرموقة أو حتى يدرسون في الخارج؟
التعليم هو الطريق الأضمن من أجل الصعود الاجتماعي. الآباء يكافحون ويزاولون عدة وظائف حتى يتمكَّنوا من تسديد نفقات التعليم الجيِّد لأطفالهم. وبالنسبة للشباب اللبنانيين غالبًا ما تكون الخطوة التالية هي السفر إلى الخارج. والكثيرون منهم مقتنعون بأنَّهم يمكنهم في الخارج فقط بناء مستقبل آمن.
منى نجار
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: مجلة التنمية والتعاون / موقع قنطرة 2019