كفاح من أجل تعرية منظومة القتل في سوريا الأسد
في مدينة كوبلنز الألمانية وعلى مرمى حجر من نهر الراين تقع القاعة رقم 128. القاعة هي إحدى القاعات الكثيرة لواحدة من أعلى محكمتين في ولاية راينلاند-بفالتس.
منذ نيسان/أبريل الماضي دبت حركة كبيرة في القاعة بسيطة الديكور: قضية أقبية التعذيب السورية ودور المتهم الرئيسي أنور ر. في نظام الأسد القمعي. تدرس المحكمة انتهاكات ضد حقوق الإنسان و58 جريمة قتل وتعذيب 4000 شخص على الأقل.
إنها قضية ضخمة. أدلى الكثير من الشهود بشهاداتهم وقدم الناجون شهاداتهم عما عايشوه من أقصى أنواع التعذيب والأساليب اللاإنسانية في التعامل معهم.
خوفاً على سلامتهم قدم أعضاء سابقون في المخابرات السورية شهاداتهم عن "فرع الخطيب" دون الإفصاح علناً عن هوياتهم ومثلوا أمام المحكمة ملثمين. وتم الاستماع لمحققين من مكتب التحقيقات الجنائي الاتحادي ولموظفين من وزارة الخارجية الألمانية. ومنذ أيام قدم واحد من أبرز شخصيات المعارضة السورية شهادته: إنه رياض سيف.
من أجل رؤية الشهود والاستماع لشهاداتهم سافر المخرج السوري فراس فياض خصيصاً من برلين إلى كوبلنز. "لأن لرياض سيف تاريخ طويل مع النظام السوري، فإن ما يدلي به مهم لفهم سياق الصراع والكفاح اللاعنفي"، يقول فراس ذي الـ 35 عاماً والذي كان أول الضحايا الذين أدلوا بشهاداتهم في مطلع حزيران/يونيو.
من المثير للاهتمام في القضية التي تنظر فيها المحكمة ليس السيرة الذاتية لرياض سيف كأحد أبرز رجال الصناعة في سوريا وكونه من المعارضين البارزين للنظام فقط، بل لدوره في حصول الرئيس السابق لـ"فرع الخطيب"، أنور ر.، على تأشيرة الدخول إلى ألمانيا من السفارة الألمانية في الأردن عام 2014.
تحولات أنور ر. المثيرة للدهشة
مرّ أنور ر. بتحولات تستوجب الوقوف عندها. انشق عن النظام السوري عام 2012 وفرّ وعائلته إلى الأردن. هناك انضم الرجل ذي 57 عاماً إلى المعارضة واقترب من الرئيس الأسبق للائتلاف الوطني السوري، أحمد الجربا.
وفي عام 2014 كان ضمن وفد المعارضة السورية لمباحثات جنيف. وقد أكدت ذلك إحدى موظفات وزارة الخارجية في شهادتها أمام المحكمة. وأضافت أن الملفات لديها تظهر أن أحد كبار المعارضين للأسد في ألمانيا هو من سعى لحصول أنور ر. على اللجوء في ألمانيا. هذا المعارض لم يكن أحداً غير رياض سيف.
شهادة عن طريق الفيديو
رياض سيف (73 عاماً) مريض جداً ولا يمكنه المثول شخصياً أمام المحكمة للإدلاء بشهادته. لذا قدم شهادته عن طريق الفيديو. في محكمة في برلين يجلس الرجل مرتدياً سترة زرقاء وقميصاً أبيض اللون. شعره رمادي وقصير. جلس رياض أمام الكاميرا وإلى جانبه مترجمة ومحام.
في البدء سألت رئيسة المحكمة آني كريبر رياض عن قصة حياته. فأجاب رياض بكل سرور: كيف صعد من شخص ينحدر من خلفية بسيطة إلى واحد من أهم مصنعي المنسوجات في سوريا، في تسعينات القرن العشرين أصبح وكيل شركة أديداس الألمانية في سوريا، طور نوعاً ما من الشراكة الاجتماعية مع موظفيه وهو أمر كان غير مسبوق في البلاد، ركز جل وقته على عمله ولم تكن له علاقة بالسياسية ولم يقرأ حتى جريدة، قبل أن ينتخب عام 1994 نائباً عن دمشق في مجلس الشعب السوري (البرلمان)، ومنذ ذلك الوقت سرعان ما دخل في صراعات مع أصحاب السلطة في سوريا.
ربيع دمشق
بعد موت الممسك بزمام السلطة في سوريا حافظ الأسد عام 2000، ساهم رياض سيف في إطلاق "ربيع دمشق" من مكتبه واحتضن بيته "منتدى الحوار الوطني".
كان المنتدى محجاً كل أربعاء لمئات الأشخاص المهتمين بالتحول السياسي. ألقيت المحاضرات ودارت حلقات النقاش. بعد موت أبيه سمح الابن بشار الأسد في بادئ الأمر بالمنتديات، ولكن بعد فترة قصيرة- تنقل المترجمة كلام سيف من العربية إلى الألمانية- "أصيب (بشار الأسد) بالذعر".
عقد رياض العزم على تأسيس حزب، رغم التحذيرات. غير أنه اعتقل في أيلول/سبتمبر 2001. كُرم بـ" جائزة فايمر للسلام" الألمانية عام 2003 وهو في المعتقل. لم يُطلق سراحه إلا في كانون الثاني/يناير من عام 2006. خرج ليجد أن شركته قد دمرت، غير أن فترة الاعتقال قوّت إرادته وتصميمه. أحد البرقيات المسربة عن طريق ويكليكس، تظهر أن رياض سيف التقى بعد أيام قليلة على إطلاق سراحه بأحد دبلوماسي السفارة الأمريكية في دمشق. وحسب البرقية خطط رياض سيف لتأسيس حزب ووضح للدبلوماسي الطريقة التي يمكن للولايات المتحدة بها دعم التغيير السياسي في سوريا.
محاولات قتل
تحدث رياض سيف أمام المحكمة عن اعتقالات متكررة تعرض لها وعن التحذيرات من لقاء دبلوماسيين أو صحفيين. وقد شارك في المظاهرات بداية عام 2011. وروى للمحكمة كيف اعتدى عليه "الشبيحة" (بلطجية النظام) في خريف 2011. "أرادوا قتلي. هاجموني بقضبان حديدية".
أدى المرض إلى ارتعاش يده اليمنى عدة مرات أثناء إدلائه بشهادته، بيد أن صوته بقي بذات الحزم. بعد أن سألته القاضية عن هربه من سوريا بدأ الرجل في البكاء. رُفعت الجلسة لوقت قصير.
يتذكر رياض جيداً: كان يوم 13 حزيران/يونيو من عام 2012 عندما غادر وطنه. في اليوم الذي قبله أطلق النار على بيته. بعد خروجه من سوريا ذهب أولاً إلى القاهرة ومن ثم حط رحاله في برلين. في العاصمة الألمانية التقى رياض في آب/أغسطس من 2012 وزير الخارجية الأسبق غيدو فيسترفيله. "أقدر في رياض سيف سعيه الدؤوب والذي لا مصلحة شخصية له فيه من أجل سوريا مدنية وديمقراطية واجتماعية"، قال فيسترفيله عن رياض الذي أضحى من أهم الشخصيات السورية المعارضة في الخارج.
مساعدة المنشقين
في نفس عام خروجه من سوريا، سمع رياض لأول مرة باسم أنور ر.، وقد حدث الاتصال بينهما عن طريق صديق قديم لابنه في أحد الفروع الأمنية. قال الصديق، حسب رياض، إن أحد كبار المنشقين تقطعت به السبل في الأردن وإنه يخشى على حياته هناك.
رغب رياض في مد يد العون. لذا قام بتقديم ملفه لوزارة الخارجية الألمانية. في ذلك الوقت كانت المعارضة تولي اهتماماً كبيراً للمنشقين. وكان يؤمل أن يقدم أنور ر. معلومات مهمة عن النظام. بيد أن رياض سيف وضح أن أنور ر. لم يقم بذلك.
لدى رياض تفسيراً يوضح سبب إدارة أنور ر. ظهره للنظام وانشقاقه عنه. ينحدر أنور ر. من منطقة الحولة في حمص والتي شهدت واحدة من أوائل مجازر النظام السوري الكبرى، حيث قتل في أيار/ مايو 2012 أكثر من 100 إنسان. يعتقد رياض أن عائلة أنور ر. هي من ضغطت عليه لترك عمله في النظام والانشقاق.
السوريون الحاضرون في قاعة المحكمة لا يصدقون أن أنور ر. أصبح معارضاً بالفعل. في العادة كان المنشقون يسجلون فيديو يعلنون فيهم انشقاقهم أمام الملأ. وفي الفيديو يعرضون بطاقات خدمتهم الشخصية وما يدل على عملهم في أجهزة ومؤسسات النظام وأسباب انشقاقهم. أنور ر. لم يعلن انشقاقه في فيديو كما فعل غيره.
تأثر المراقبون بشدة بشهادة رياض سيف. رغم وضعه الصحي يدلي الرجل بشهادته ويجيب على الأسئلة. ولكن في نهاية يوم طويل وشاق من أيام المحكمة تراجع تركيز رياض سيف. وبعد أربع ساعات من استجواب الشاهد رفعت القاضية الجلسة. يبدو رياض سيف منهكاً. ولكن ليس رياض سيف هو وخده من أنهك؛ إنها محاكمة تؤثر بشدة على كل المشاركين فيها: شهوداً ومتهمين وقضاء وموظفين.
ماتياس فون هاين/خ.س
حقوق النشر: دويتشه فيله 2020