نضال تونسية من وراء الشاشات إلى ساحة المهرجانات لاستعادة ابنتيها
لأكثر من 9 سنوات ظلت السيدة التونسية ألفة الحمروني تناضل لاستعادة ابنتيها رحمة وغفران من براثن تنظيم "داعش" في ليبيا، بمناشدة السلطات من وراء الشاشات تارة وبالتظاهر تارة أخرى. بيد أن قصتها خطفت أنظار المخرجة التونسية كوثر بن هنية لتحولها إلى فيلم وثائقي طويل ينافس على جائزة الأوسكار في مارس/آذار 2024.
في أمسية فنية استضافت العاصمة الألمانية برلين -الخميس 18 يناير/كانون الثاني 2024- العرض الأول لفيلم "بنات ألفة" في ألمانيا -بقاعة السينما "كولتور براوراي" Kulturbrauerei بوسط برلين- بحضور أبطال القصة الحقيقية وبتنظيم من السفارة التونسية في برلين ومركز ديوان وعدد من صناع الفيلم.
في سبتمبر/أيلول 2014 فرت رحمة وشقيقتها غفران من منزلهما وانضمتا إلى داعش. تبين لاحقا أن رحمة تزوجت من نور الدين بن الطاهر شوشان قائد فرع تنظيم "داعش" في مدينة صبراتة الساحلية في ليبيا. وهنا بدأت الأم في النضال لاستعادتهما.
بعدها بعامين في ذروة قتال الجماعات المسلحة الليبية -بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية- ضد داعش، استهدفت غارة جوية مقر التنظيم في صبراتة. قتلت الغارة 41 شخصا معظمهم تونسيون. نجت من الغارة رحمة وغفران -ولدى إحداهما آنذاك طفلة عمرها 5 أشهر- لكنهما اعتقلتا وتقبعان في أحد السجون الليبية منذ ذلك الحين، بحسب الأم.
حصد الفيلم وهو من بطولة الممثلة التونسية البارزة هند صبري، العديد من الجوائز في مهرجان كان السينمائي لعام 2023، منها جائزة "العين الذهبية" التي تذهب للأفلام الوثائقية، وجائزة "السينما الإيجابية" التي تُمنح للفيلم الطويل الأكثر إيجابية، وتنويه خاص من لجنة الناقد فرنسوا شالي والتي تقدمها جمعية فرنسوا شالي على هامش مهرجان كان.
على هامش العرض سنحت لموقع "قنطرة" لقاء ألفة الحمروني وابنتيها آية وتيسير الشيخاوي بطلات القصة قبل أن يتجهن إلى هامبورغ لحضور العرض الذي ضم عددا من المدن الألمانية "كولونيا وَدوسِلدورف وَفرايبورغ وَميونيخ".
كندا - فيلم "صناعة التهديد"
تزايدت حوادث الإسلاموفوبيا مجددا في الغرب عقب هجوم حماس 07 /10 /2023 على إسرائيل. جنكيز فارزي شاهد لموقع قنطرة فيلماً وثائقياً يذكرنا بمدى ما قد تذهب إليه الحكومات لتحقيق نتائج تعتقد أن الناس يريدون رؤيتها.
وإلى نَصّ الحوار:
هذه ثاني زيارة إلى ألمانيا من أجل حضور عرض الفيلم. ما المختلف هذه المرة؟
ألفة: كانت زيارتي الأولى لمهرجان كولونيا لحضور عرض الفيلم، لكن هذه أول مرة تسنح لي الفرصة لكي التقي مسؤولاً تونسياً (السفير واصف شيحة السفير التونسي في برلين) وجهاً لوجه لكي يشاركني المسؤولية التي تحملتها لوحدي طوال عشر سنوات كأم "أخطأت في تربية ابنتيها وكانت قاسية عليهما" وتسعى لاستعادة ابنتيها، لأنني تحدثت كثيرا عنهما في غياب المسؤولين. أنا لا أنكر أن تربيتي لهما كانت خطأ لكن الدولة أيضا مسؤولة معي في حمايتهما. بعد العرض التقيت السفير واصف الذي تعاطف مع قصتي ووعدني بإيصال صوتي إلى أعلى المستويات.
لكن كيف تحولت القصة من مناشدة طوعية للسلطات إلى شاشة التلفاز؟
ألفة: القصة بدأت بخطأ لوزارة الداخلية التونسية وقتئذٍ بعد تخليها عني في استعادة ابنتي "غفران" التي هربت أولا أثناء عملي في ليبيا بعد استدراجها للانضمام لتنظيم داعش الإرهابي، ثم طلبت منهم حماية ابنتي (رحمة) من نفس المصير. وكنت أمدهم بكل المعلومات قبل سفرها هي الأخرى للانضمام للتنظيم في ليبيا، لكنهم تجاهلوني وتخلوا عني، عندها وجدت صحفيا تحدثت معه لينقل قصتي، ومنذ ذلك الحين لجأت لوسائل الإعلام لمساعدتي في استعادة ابنتي.
استغرق إعداد الفيلم سنوات منذ عام 2016 حتى 2021، لماذا وافقتِ على تلك الفكرة، ولماذا احتاج كل هذه المدة للخروج للنور؟
ألفة: وافقتُ على الفيلم علَّه يساعدني في استعادة ابنتيَّ. في البداية أتت لنا المخرجة كوثر بن هنية لكنها وجدتنا غير مستعدين، ومنذ ذلك الحين كانت تأتينا وتعايش مشاكلنا كواحدة من العائلة لأننا كنا منبوذين في مدينتنا -المُنَستير بتونس- ولم يكن لدينا أنا وابنتيَّ آية وتيسير تواصل مع الخارج، وكنا نتشاجر أمامها أيضا نحن الثلاث حتى أنها كانت تفض شجارنا. في عام 2021 عادت إلينا مجددا لتصوير الفيلم.
المخرجة كوثر بن هنية قالت في حوار سابق لها إنكِ نصبتِ الفخ لها كي تروي قصتكِ، فكيف حدث ذلك؟
ألفة: المخرجة لم تكن تنوي التركيز على ماضينا أو تناوله بشكل درامي ونحن أيضا كذلك، وإنما أرادت فيلما وثائقيا مختصرا عن قصة رحمة وغفران، وفي إحدى المرات سألتها سؤالا: هل ممكن أن يصدق الناس قصتنا؟، ردَّتْ: من الممكن أن يصدقوها، فرددت عليها: لا لن يصدقونا لأننا ناس عاديون، لكن إذا كان هناك ممثلون حقيقيون فسيصدق الناس القصة. وهنا أتت لها فكرة الاستعانة بممثلين حقيقيين للتمثيل معنا في الفيلم، وسألتني: هل توافقين على الفكرة؟ قلت لها: نعم أوافق.
كما أنني لم أكن أنتظر أنني سأظهر في الفيلم بالبداية، وكنت أعتقد أنني سأحكي القصة وهند صبري هي التي ستمثل، لكني شاركتها في التمثيل.
كيف تفاعل الناس مع قصتك قبل وبعد الفيلم؟
ألفة: قبل عرض الفيلم كان ينظر المجتمع التونسي إليّ كمجرمة ومذنبة، لكن بعد عرض الفيلم الذي قدم قصتي من البداية والحقيقة الكاملة والمعاناة التي مررنا بها نحن الخمس بجرأة وخلفيات اعتناق ابنتي للأفكار المتطرفة وأنه لم يكن نابعاً عن تدين حقيقي أو تشدد ولكنه كان هروباً من الواقع المأساوي والفقر الذي كانتا تعيشانه معي والحرمان من كل شيء، حينئذٍ تغيَّرت نظرة الجمهور التونسي لنا ووجدنا تعاطفاً كبيراً معنا صراحةً، في كل العروض يأتيني الجمهور ليدعمني ويقول: نحن نصدقك.
كيف كانت أجواء التصوير في الفيلم؟ وقد لاحظنا أيضا مشاركتك ابنتيك داخل العرض؟
ألفة: كانت مليئة بالتشويق، حتى ونحن نصور الفيلم كانت هناك مشكلات وشجار بيني وبين بناتي، وأحيانا لم أتحكم في أعصابي، وهناك مشهد "نور القمري" التي تمثل دور رحمة بنتي، اضطررت لضربها حتى أصيبت إصابة بالغة من تلك الضربات.
النجمة التونسية هند صبري تقمصت شخصيتك في الفيلم. هل نجحَتْ في أن تعكس مشاعرك؟
ألفة: عكست مشاعري عن حق، ورأيت نفسي وأخطائي في شخصيتها، وكانت بمثابة ظل نقدي لشخصيتي، وتقول لي: "مينفعش عيب"، عندما كنت أهمُ بضرب ابنتي.
وهل شعرتِ بأنه كان يمكن أن تتفادي ما حدث لابنتيكِ؟
ألفة: أَتُصَدِّق أنني لم أرَ الجانب السيئ من شخصيتي إلا بعد مشاهدة الفيلم. لكن تصرفاتي القاسية مع بناتي نابعة مما تربيت عليه كامرأة عربية محافظة على تقاليدها (مثل أن جسم الفتاة ملك لرجلها المستقبلي وحده)، وكان هذا ناتجاً عن ما مررتُ به أيضا من تعرضي وشقيقتي للتحرش من الأب، ثم بعد ذلك سوء معاملة الزوج لي وبعدها زوج الأم.
بالنظر إلى ذلك تجد أن الفتاتين هربتا من وسط عائلي مفكك واضطهاد وفقر، من قسوة أم أيضا كي -لا أبرئ نفسي- وإهمال أب، لكن ابنتيَّ أيضا ضحية دولة أيضاً في ذلك الوقت مهدت وسهلت لهما طريق اعتناق تلك الأفكار بعد تولي الإسلاميين الحكم في تونس من خلال حركة النهضة الإخوانية والتي سمحت بتغلغل الجماعات الإسلامية في المجتمع وكل الوزارات مثل وزارة الداخلية ورئاسة الحكومة ووزارة الشؤون الدينية التي كانت مسؤولة عن إمام المسجد الذي تأثرت به بنتايَ، وارتَدَتا الخيمات (النقاب). فضلاً عن الخيمات الدعوية التي كانت تأتينا في الشارع تحت حراسة الشرطة.
هل تواصلت رحمة وغفران معكِ بعد فرارهما. وكيف تشعران الآن؟
ألفة: كانتا تتواصلان معي عبر رسائل الهاتف والواتس آب منذ أن كانتا ضمن جماعة داعش بصبراتة، وما زلتُ أتحدث معهما من محبسهما في ليبيا. وعند بدء تصوير الفيلم تفاوضت المخرجة مع السلطات الليبية لإشراكهما في الفيلم وبعد الموافقة في البداية، رفضت لاحقا مشاركتهما.
بالطبع تشعران الآن بالندم الشديد، ولكنهما أرادتا التمرد على الحياة التي كانتا تعيشان فيها وتحلمان بالعيش بطريقة أفضل وحياة كريمة مثلما أوهمهما قادة الجماعات المتطرفة، ولم تكن في نيتهما السلاح أو الجهاد، وعندما وصلتا إلى هناك وجدتا أنفسهما في قبضة قادة التنظيم الذين استخدموهما جسديا فقط.
في يناير / كانون الثاني 2022، حصلت الفتاتان على حكم بالسجن بـ16 عاما، مع الاستبعاد من الأراضي الليبية، لكن حكومة تونس ترفض استلام الفتاتين. ولهذا أطالب -أهم شيء- بأن يسلموا لي ابنة غفران (فاطمة) الطفلة المحبوسة مع أمها منذ أن كان عمرها 5 أشهر، وبالنسبة لرحمة وغفران أطالب بأن يرجعوهما لبلدهما، يوجد قضاء، تُعاقَبان في وطنهما إذا ثبتت إدانتهما. ومثلما سهَّلت الدولة خروجهما يجب عليها أن تسهِّل عودتهما.
كيف رأيتِ مشاركة الفيلم في المهرجانات السينمائية وفوزه بعدد من الجوائز؟ هل يُعيد الفيلم القصص والمعاناة المنسية لضحايا التنظيمات المتطرفة؟
ألفة: بالطبع أتصور أن الفيلم لمس الكثير من الفئات لطرحه أكثر من مشكلة وقضية، ومن المؤكد أنه سيغير الواقع.
كما تحدث موقع "قنطرة" مع الابنة آية عن مشاركتها في الفيلم، وكواليس علاقتها بأمها وشقيقاتها:
الفيلم مليء بالتناقضات في علاقة الأم وبناتها بين المرح وكذلك العنف. كيف كانت علاقة "ألفة" مع بناتها الأربع؟
آية الأبنة: نضال [والدتي] ألفة إلى الآن لاستعادة شقيقتي هو أكبر دليل أنها ليست أم سيئة أو قاسية. تقاتل رغم قسوة الناس وحديثهم وتقول "أنا أذنبت، لكن أريد إصلاح ما فعلته بيدي واستعادة بناتي".
كما أنها لم تنظر إلى نفسها مثلما فعل الأب الذي طلقها وتركها مسؤولةً عن 4 فتيات دون أموال، لهذا فهي كانت بمثابة الأم والأب. تحملت مسؤوليتنا وكانت تعمل مرتين في اليوم لتوفير احتياجاتنا. ربما أخطأت في طريقة تربيتنا، لكن ذلك كان نابعا من خوفها علينا من أن نرتكب أخطاء. ورغم ذلك تلك التربية الصعبة ساهمت في تقوية شخصيتي.
ألهذا قالت ألفة في الفيلم: "زرعتُ فيهن القوة فاستخدمناها ضدي"، كيف تمردت شقيقتاك عليها وهربتا إلى ليبيا؟
آية: والدتي كانت تسافر من تونس إلى ليبيا للعمل هناك كمساعدة في المنازل، و(رحمة) و(غفران) كانتا في سن المراهقة وأنا وتيسير كنا الأصغر، وبدأتا التمرد على الحياة وتذهبان للسهر. فقررت ألفة أن تصحبنا معها لأنها كانت تخشى علينا من أن نجلس لوحدنا بالمنزل.
قضينا 3 أشهر في ليبيا ثم هربت غفران أولا. حينها عادت أمي بنا إلى تونس وذهبت إلى قسم الشرطة أكثر من مرة للإبلاغ عن ذلك ومساعدتها في استعادتها، لكنها لم تتلقَّ رد فعل من الحكومة. وسرعان ما هربت (رحمة) أيضا للحاق بها بعد استدراجهما من شباب وشابات أكبر منهم في السن ينتمون إلى التنظيم.
هناك مشهد في الفيلم لـ"رحمة" تقوم بجلدكِ وشقيقتك الصغرى في المنزل، لتأخركما في أداء الصلاة، وأيضا مشهد تمثيلي للموت وعذاب القبر.. لماذا؟
آية: عندما تشاهد تلك التصرفات الآن قد تشعر بالصدمة. لكننا كنا نفعل تلك الأشياء على سبيل (الدعابة) أو تربية النفس والتحفيز على الصوم والصلاة. وكنا في سن صغيرة، كأننا نلعب فيديو.
هل تخططين لدخول التمثيل بعد ظهورك في الفيلم؟
آية: لا أحب التمثيل، لكني أردت فقط إيصال صوتي وصوت شقيقاتي والناس الذين لديهم أبنائهم أيضا من ضحايا داعش المنسيين لإعادتهم إلى حضن عائلاتهم ووطنهم.
محمد مجدي - برلين
حقوق النشر: موقع قنطرة 2024