"لا شيء يستحق احتفال الليبيين بعد عامين من سقوط القذافي"
تعتبر عملية اختطاف علي زيدان رئيس الوزراء الليبي في بداية شهر أكتوبر 2013 أقوى مؤشر على تردي الوضع العام في ليبيا بعد مضي عامين على سقوط نظام معمر القذافي في إطار ما اصطلح على تسميته بـ"الربيع العربي" كتصوير لحالة المنطقة بأسرها بعد انطلاق الثورات، التي نجحت في الإطاحة بنظم الحكم في كل من تونس ومصر وليبيا.
ولكن الحالة الليبية تظل الأكثر بروزاً من حيث النتائج، التي ترتبت على ما جرى وخاصة من جانب التدخل الأجنبي الذي صاحب الانتفاضة الليبية منذ يومها الأول. كما تمثل ليبيا حالة متميزة بين كل بلدان الحراك الثوري العربي تواجه تحديات معقدة أكثر مما هو الحال في مصر أو تونس مثلا.
ولهذا اختفت مظاهر الاحتفال بمرور عامين على سقوط نظام القذافي وغابت الحكومة كليا تقريبا. وما عدا بعض الاحتفالات المتواضعة في طرابلس لم نر أية مظاهر لإحياء المناسبة تضاهي أو تقترب من بهرجة وضجيج احتفالات العام الماضي.
القول بأن البلد يقف في مفترق طرق قول غير دقيق، لأن ليبيا عبرت المفترق ولكن في الاتجاه المعاكس، أي باتجاه الانهيار الكامل وليس البناء التدريجي للدولة الجديدة وباتت تحث الخطى باتجاه ما يمكن أن يكون "صوملة" ولكن على ضفاف المتوسط. ولعل أهم أسباب هذا أربعة تحديات وهي:
التحدي الأمني
يظل التحدي الأمني الأكثر خطورة على مستقبل ليبيا ووضعها الراهن وجاءت عملية اختطاف على زيدان لتبرهن أن الوضع الأمني حتى داخل أجهزة الحكومة (مع أن سلطتها على الأرض محدودة جدا) هو خارج السيطرة.
فإذا كان يمكن اختطاف رئيس الوزراء من أحد أكثر المواقع أمنا في طرابلس وهو فندق كورنثيا (حيث يقيم أغلب الأجانب ويتمتعون بحراسة مشددة على مدار الساعة)، فكيف يمكن للمواطن العادي أن يحس بالأمان على حياته وحياة أسرته، خاصة في حالات التنقل بالسيارة عبر المسافات الطويلة في ليبيا المترامية الأطراف.
إن العدد الكبير للمليشيات، التي تنفق عليها الدولة ولا تخضع لسيادتها، يمثل خزان بشري لا نهاية له من العاطلين عن العمل والفاشلين والثوار وأشباههم والمجرمين السابقين ـ ممن قاتلوا ضد النظام السابق في حرب دمرت البلد وبات الأمر مختلطا لدرجة يستحيل معها التفريق بين من هم ثوار يمتلكون بعض الشرعية المتأتية من كونهم قاتلوا تحت قيادة حلف النيتو وأسقطوا النظام السابق ومن هم مجرد لصوص وقطاع طرق ومدمنو مخدرات يستغلون الأوضاع الأمنية الهشة في البلد للسلب والنهب وهو ما يحدث يوميا ولكن بعيداً عن وسائل الإعلام.
ولعل وزير الخارجية الليبية لم يجانب الحقيقية حين قال إن هنالك حوالي ستة عشر ألف مجرم يمتشقون السلاح الآن ويتظاهرون بأنهم ثوار. كما أن وفرة السلاح ونوعيته (وجزءاً كبيراً من تلك الأسلحة هي من الكميات الضخمة من السلاح التي ألقتها طائرات النيتو "للثوار" أثناء الحرب وبعضها من مخازن الدولة الليبية التي سُلبت عن بكرة أبيها) تجعل من ليبيا في حالة فلتان أمني يصعب بل يستحيل تقدير نهايتها.
وقد فشلت الحكومات الليبية التي تعاقبت على السلطة مند أكتوبر 2011 الي الآن في تحقيق أحد أهم أولوياتها وهي جمع الأسلحة من الناس وحتى سياسة شراء السلاح من الجمهور لم تنجح إلا في إطار ضيق وهذا الأمر لا يمكن تفسيره إلا من خلال الإشارة إلى تدفق الأسلحة على ليبيا من الخارج.
وهنا تكمن خطورة الأمر إذ تحولت ليبيا في ظرف زمني قصير نسبيا من واحة أمان إلى غابة سلاح ونقطة استقطاب للتطرف بأشكاله وأيديلوجياته المختلفة مما يجعل البلد خطراً على نفسها وجوارها وخاصة دول الساحل والصحراء من مصر شرقا إلي سواحل المحيط الأطلسي غربا، بل ويمتد التأثير السلبي إلى سوريا حيث يمثل المقاتلون الليبيون ضمن المعارضة السورية أكبر نسبة من المقاتلين الأجانب. كما تمثل ليبيا أكبر مصدر للسلاح الي سوريا. فضلاً عن أن ما جرى في مالي في العام الماضي لا يمكن أن يكون قد تم بمعزل عن الحالة السائدة في ليبيا.
التحدي الاجتماعي
فشلت حكومة ليبيا وبشكل ذريع جدا، كما فشل المؤتمر الوطني العام في التقدم ولو خطوة على صعيد المصالحة الاجتماعية الوطنية الشاملة مع أن أهم أولويات المؤتمر منذ انتخابه في يوليو من عام 2012 تمثلت في أن ينجز مصالحة وطنية تسمح لليبيين بالتلاقي والتصالح فيما بينهم لينتج عن ذلك غطاء اجتماعي أو شبكة أمان اجتماعية تسمح بإطلاق مسار العدالة الانتقالية وتتكفل بمعالجة أي قصور في تلك العملية.
بل على العكس من ذلك، المؤتمر الوطني العام لعب دورا تخريبيا على الصعيد الاجتماعي، لأنه تبنى رؤى سياسية قاصرة و جهوية ومنحازة في أحسن الأحوال ولعل مباركته وتقنينه لعملية غزو بني وليد في أكتوبر من العام الماضي تعتبر وصمة عار على جبين ليبيا الجديدة حيث تم غزو مدينة بمباركة أعلى سلطة تشريعية في البلد دون مبررات قانونية حقيقة.
ومع بشاعة عملية الغزو وما نتج عنها إلا أن أحد إيجابياتها القليلة كانت في أنها كشفت لليبيين أن ممثليهم المنتخبين ليسوا إلا أدوات في يد بلدان أجنبية وأطراف داخلية لا تريد لليبيا أن تنهض من جديد. والملفت للنظر أن أحد أهم نتائج الغزو كانت تضامناً قبَلياً شبه كامل مع أهالي بني وليد وأبنائها في كافة أنحاء ليبيا، لأن معركة بني وليد لم تكن إلا من أجل هيمنة قبيلة على حساب أخرى وهي نتيجة حتمية لغياب المصالحة الوطنية الشاملة والدفاع عن المدينة .
كما زادت العملية العسكرية ضد بني وليد من التوجس القبَلي في أنحاء ليبيا، لأن عدداً آخر من القبائل اعتبرت ما جرى تمريناً لما سيأتي في إطار محاولة قبيلة معينة الهيمنة على بقية القبائل.
التحدي السياسي الداخلي
يعتبر المشهد السياسي الليبي فوضوياً وخالياً من النضج السياسي المطلوب. ويتصف أعضاء المؤتمر الوطني أو أغلبيتهم على الأقل بانعدام الخبرة والمواهب القيادية. وكثيرون منهم كانوا مهاجرين خارج البلد وبالتالي فإن معرفتهم بأهل ليبيا والتركيبة القبلية والاجتماعية المعقدة السائدة فيها محدودة جدا.
كما أن عدداً من زعماء بعض التنظيمات السياسية يعتبرون أشخاصاً مشبوهين محليا ودوليا بسبب انتماء بعضهم لتنظيمات موصوفة بالإرهاب ومارست العنف في أفغانستان مثلا، بل إن بعضهم أمضى جزءاً من حياته في سجون دول أخرى على رأسها سجن غوانتانموا الشهير.
وبالإضافة إلى ذلك يعاني أغلب أعضاء الحكومة من نفس جوانب القصور، كما ينتمي بعضهم إلى مجموعة من الفاسدين اللذين يتنافسون على المكاسب الشخصية واكتناز الأموال التي يسرقونها من الدولة.
وقد أثر هذا الوضع على الحالة الاقتصادية وأدى إلى توقف مشروعات البنية التحتية، التي كانت قيد الإنجاز في عام 2011 منذ بداية الاضطرابات في فبراير من ذلك العام، وغادرت كل الشركات الأجنبية الكبرى، التي كانت تتولى تنفيذها ولم تعد حتى الآن.
والأكثر خطورة في هذا الإطار هو أن الفوضى السياسية والأمنية عطلت أحد أهم مصادر دخل الدولة وهو النفط، لأن الجماعات المسلحة منعت تصديره لفترة تجاوزت الشهرين مما كلف الخزينة العامة خسائر تقدر بالمليارات، مما سينتج عنه عجز في الموازنة وخلل كبير في ميزان المدفوعات، خاصة وأن غالبية الليبيين لا يعملون أصلا بشكل حر، بل يتقاضون مرتبات من الدولة بصفتهم موظفين عندها.
التحدي الإقليمي
إن أمر عودة ليبيا إلى تأدية دورها الإقليمي وبالتالي العالمي مؤجل حتى إشعار آخر، وهذا أدى إلى تدهور مكانة البلد الإقليمية والدولية مما جعل جيرانها يتوجسون منها ويشكون في قدرتها والتزامها كجار وشريك على المستوى الإقليمي ولهذا سنرى شبه جمود على مستوى اتحاد المغرب العربي وفتوراً في العلاقات الثنائية بين ليبيا وكلٍّ من تونس والجزائر. وكذلك سنرى شكوكاً متبادلة وريبة متأصلة بينها وجيرانها جنوب الصحراء الدين، تسممت العلاقة معهم في مرحلة مبكرة إثر اتهام المجلس الوطني الانتقالي للعديد من الدول الإفريقية بأنها جندت المرتزقة للقتال إلى جانب النظام أثناء حرب عام 2011.
مصطفى الفيتوري
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013