حسابات الربح والخسارة في ″مغامرات أردوغان العربية″
تحاول تركيا منذ فترة التمدد خارج حدود نطاقها الإقليمي ربما بعد أن فقدت الأمل في الانضمام للاتحاد الأوروبي. ويبدو أن الحضور التركي المتزايد في العالمين العربي والإسلامي قد بلغ ذروته مع بدء التدخل العسكري في ليبيا. وفي الواقع تجد تركيا نفسها أقرب إلى منطقة الشرق الأوسط ما قد يتيح لها أن تتمدد دون كثير عناء، بعكس إيران التي يُواجه تمددها بالكثير من الخوف والقلق.
ازداد تمدد النفوذ التركي مؤخرا بوسائل شتى ما بين السياسي والاقتصادي والثقافي وحتى العسكري الخشن. فاقتصادياً، ترتبط تركيا بالكثير من العلاقات مع دول كبرى في المنطقة. وسياسياً لا يخفى أبداً دورها الكبير في الملف السوري، خصوصا باستضافتها لأكثر من ثلاثة ملايين لاجئ، الأمر نفسه ينطبق على تواجدها في ليبيا والبحر المتوسط.
ورافق ذلك التحرك على الأرض آلة دعائية ثقافية ضخمة مهدت الطريق لتمدد هادئ في كل الدول العربية تقريباً بمسلسلات تاريخية حظيت بعدد هائل من المشاهدات ما جعل بعض الدول تعتبر الأمر غزواً ثقافياً وقررت مواجهته بكل الطرق:
ويرى فراس رضوان أوغلو، الكاتب والمحلل السياسي التركي، أن السبب الأول لازدياد الحضور التركي هو "الفراغ السياسي في المنطقة المحيطة وهذا الفراغ سيملأه أي كان، تركيا أو إيران أو روسيا وبالتالي فالتمدد التركي طبيعي"، مضيفاً في أنه "يجب ألا ننسى أن في المنطقة العربية كثير من المؤيدين لتركيا وللرئيس أردوغان وهو ما يمثل بدروه عامل جذب قوي أيضاً".
كلمات رضوان أوغلو لم تكن الأولى في هذا السياق، فهناك جدل كبير يدور حول تراجع أدوار الدول العربية الكبرى كمصر والسعودية في الآونة الأخيرة، ما شجع تركيا كثيراً على أن تحاول رسم صورة جديدة لها كقائد للعالم السني.
ويتابع رضوان أوغلو تحليله بالقول إن "الملفات الاقتصادية خاصة تلك المتعلقة بضمان حقوق تركيا في الغاز بمنطقة البحر المتوسط والحفاظ على مصالح الشركات التركية من ضمن أسباب التمدد التركي في المنطقة".
ويرى المراقبون السياسيون أن هناك المزيد من أوراق اللعب التي استغلها أردوغان "للتسسل" الى المنطقة ومد نفوذ بلاده، وهي غياب الديمقراطية في معظم دول العالم العربي باعتباره رئيسا منتخبا ديمقراطياً، بجانب افتقاد صورة الزعيم (في العالم العربي) وهي النقطة التي لعب عليها أردوغان كثيراً بدغدغة مشاعر الشارع العربي بكلمات تتعلق بالقضية الفلسطينية والوقوف أمام "الهجمة على الإسلام".
اقرأ أيضًا: مقالات مختارة من موقع قنطرة
حفتر...مشروع إسقاط الإسلام السياسي في ليبيا
دور أوروبي خجول إلى متفرج ومتردد في الأزمة الليبية
الأنظمة العربية.... من مشاريع قومية الى مزارع عائلية
الثورات المضادة أحدثت انتكاسة هائلة في العالم العربي"
عودة مصر إلى العسكريتاريا الشعبوية: مصر من ثورة يناير إلى الإخوان ثم السيسي
الدكتاتوريات العسكرية هي العدو الأول لثورات الربيع العربي
تركيا في أزمة...حلول بديلة لاقتصاد مأزوم
"على الرغم من كون الاقتصاد التركي متنوع المصادر، حيث تنتج تركيا وتصدر الأغذية والملابس وقطع الغيار والحديد والصلب والمنتجات الكيميائية وقائمة واسعة من الآلات والتجهيزات المنزلية ومواد البناء، لكنه يعاني من أزمات مختلفة في الفترة الأخيرة لعل آخر تجليات تلك الأزمات الهزة الكبيرة التي شهدها عقب تهديد الرئيس الأمريكي بتدمير الاقتصاد التركي والتي أفقدت الليرة نحو 6 بالمائة من قيمتها في غضون أسبوعين.
ويعاني الاقتصاد التركي من ركود طال معظم القطاعات الأساسية بسبب السياسة الاقتصادية المعادية للتعددية السياسية والاقتصادية التي يتبعها أردوغان. وفي هذا الصدد يشير فادي حاكورة، الخبير في الشأن التركي بالمعهد الملكي البريطاني للشؤون الدولية، إلى أن الاقتصاد التركي في انحدار مستمر "ما جعل أردوغان يحاول الخروج من هذا الوضع الضاغط بالبحث عن امتداد سياسي واقتصادي للنفوذ التركي في المنطقة"، مضيفاً أن "الوضع الاقتصادي الحرج في تركيا هو دافع اردوغان للتحرك والامتداد سياسياً واقتصادياً".
ويعتقد الخبير في الشأن التركي أن مساعي أردوغان لتحقيق ذلك قد "فشلت في السودان بخلع البشير وكذا انهيار علاقاته السياسية في مصر وخسائره المستمرة في سوريا فبقيت ليبيا الوحيدة التي يحاول مد نفوذه إليها ولا أعتقد أنه سينجح لأن أعداءه الداعمين لخليفة حفتر كثيرون وأقوياء".
وبحسب خبراء، فإن الاستثمارات الخليجية في تركيا ضعيفة كما أن قطر منيت بخسائر كبيرة. بالإضافة إلى ذلك فشل أردوغان في إغراء دول الخليج للاستثمار بكثافة في بلاده، إلى جانب انخفاض قيمة الليرة التركية وفقدانها نحو 13% في فترة تقارب العامين وارتفاع الديون الخارجية إلى نحو 444 مليار دولار.
ويختلف فراس رضوان، أوغلو الكاتب والمحلل السياسي التركي، مع هذا الطرح مذكراً بالأزمة الاقتصادية في إيران "والتي لم تثنيها عن استمرارها في سياساتها وتمدد نفوذها الإقليمي"، ويتابع قائلاً: "إذا انتصر المحور الثاني في ليبيا قد ينتج عن ذلك إخراج النفوذ التركي والمصالح التركية الاقتصادية تماما ً من ليبيا، وهذا أسوأً كثيراً من الحفاظ على قيمة الليرة التركية".
وكانت تركيا قد أبرمت - من خلال شركات تركية - تعاقدات مع ليبيا في عهد القذافي بنحو 16 مليار دولار ومع مخاوف من سيطرة قوات حفتر بشكل كامل على ليبيا قد يعني ذلك فقدان تركيا لهذه العقود وبالتالي قد يكون أحد مخارج أردوغان من الأزمة الاقتصادية لبلاده هو مزيد من الانخراط في الملف الليبي والذي ربما يضمن له مصدراً جديداً من الغاز الطبيعي في المنطقة البحرية الممتدة بين البلدين بحسب اتفاقيات ترسيم الحدود الجديدة.
[embed:render:embedded:node:31743]
تأثيرات جانبية "داخلية"
لم تمر سياسة الرئيس التركي أردوغان الخارجية دون أزمات، فبعد أن ساند ثورات الربيع العربي ودعم الرئيس المصري الراحل محمد مرسي اكتسب عداوات الأنظمة العربية السلطوية خصوصاً نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وكذا كلاً من الإمارات والسعودية اللتين أثار فزعهما موجة الثورات العربية.
ليس هذا فحسب، فمع خطط السياسة الخارجية والكثير من المشاكل الداخلية في بلاده، خسر أردوغان الكثير من شعبيته وكذا سيطرة حزبه على عدد من كبرى المدن التركية بجانب ابتعاد أقرب أصدقائه وحلفائه عنه وأيضاً عبد الله غول الرئيس التركي السابق الذي وجه إليه مؤخراً انتقادات حادة لتغييره نظام البلاد من البرلماني الى الرئاسي.
يقول فراس رضوان أوغلو، الكاتب والمحلل السياسي التركي من إسطنبول، إن هذه "الخلافات تتعلق بالشئون الداخلية خاصة أن الرئيس أردوغان له رؤية مختلفة بالنسبة للسياسة الخارجية وربما تكون هي محور الخلاف الأساسي بينه وبين المعارضة باستثناء ليبيا التي ربما يتفق الكثيرون معه حول مدى أهمية الحفاظ على المصالح التركية فيها". ويتابع بأن "الخلاف الأساسي بين تلك الأحزاب والرئيس أردوغان يتعلق بالملفات الداخلية التركية، وهي التي أحدثت تلك المشاكل وهذه سنة الكون والطبيعة السياسية المعقدة في تركيا".
على جانب آخر يرى فادي حاكورة، خبير الشؤون التركية، أن سياسات أردوغان سببت له الكثير من المشكلات داخلياً حتى أن "الكثيرين من المتدينين والعلمانيين والأكراد والقوميين يرفضون الكثير من سياساته الخارجية خصوصاً التدخل العسكري في سوريا وليبيا مؤخراً بل وأي بلد عربي إسلامي، فهو يفقد شعبيته شيئاً فشيئاً".
ويرى حاكورة أن كل تلك التأثيرات السلبية سياسياً واقتصادياً ناجمة في الأساس عن طول مدة حكم الرئيس التركي الممتدة لنحو 17 عاماً، " فكلما طال حكم الشخص للبلاد غلبت عليه الإيديولوجية وقلت عنده البراغماتية وهذا ما حدث مع أردوغان الذي أصبحت العاطفة تتحكم عنده في السياسة الخارجية بشكل أكبر من العقل والمنطق ويلاحظ ذلك جيداً في خطابه الأخير المليء بالعاطفية والمشحون بنظرية المؤامرة".
وماذا بعد؟
لكن هل يمكن أن يستمر هذا "التمدد" التركي في المنطقة؟ والى متى؟ هذا لن يحدث، بحسب فراس رضوان أوغلو الكاتب والمحلل السياسي التركي، الذي يضيف بأن هذا التمدد التركي قد يتوقف قريبا لكنه لن ينحسر ولن يزيد عما هو عليه حاليا "إلا إذا حدثت انهيارات مفاجئة لأنظمة سياسية في المنطقة قد تتغير معها خارطة التوازنات الإقليمية وكل هذا نوعا ماً يعد طرحاً بعيد التحقق".
لكن الخبير في الشأن التركي فادي حاكورة يرى أن أردوغان لن يوقفه أحد عن خططه وطموحاته "وسيواصل العناد والاعتداد برأيه وهو ما سيكون له المزيد من التاثيرات السلبية على الوضع الداخلي سياسيا واقتصاديا".
ويذكر حاكورة جملة وردت في مراسلات السفارة الأمريكية بأنقرة ونشرت خلال تسريبات "ويكيليكس" مفادها بأن "أردوغان لديه طموح بقوة وحجم سيارة الرولزرويس ومصادر وإمكانيات في حجم السيارة الروفر، بمعنى أنه يريد أن يكون الزعيم الكبير في المنطقة لكن إمكانياته وإمكانيات بلاده لا تسمحان له بذلك أبداً"، متوقعاً خسارته لمزيد من قوته داخلياً وخارجياً.
محمود حسين
حقوق النشر: دويتشه فيله 2020
المزيد من المقالات التحليلية من موقع قنطرة:
تحليل سياسي: هل تطمح تركيا لقيادة العالم الإسلامي؟
تركيا في شرق الفرات: نبع للسلام أم بؤرة جديدة لصراعات مستقبلية؟
ترامب ومودي ونتنياهو...سياسات هوياتية تقوض أسس القانون الدولي
تركيا في مواجهة العالم...شبح لورنس العرب يطل برأسه من جديد؟