الناشر المصري محمد هاشم..... أحد آباء ثورة 25 يناير
بدون رغبة جامحة تقترب من الهوس لن يصبح أحد ناشراً مستقلاً لكتب جيدة جديرة بالاعتبار في العالم العربي. وبالطبع فإن مصير مثل الناشر سيكون شبيهاً بما تلاقيه دور النشر الصغيرة المستقلة والمجددة في الغرب، أي أن يقوم الكتاب بهجر الدار الصغيرة التي أصدرت كتبهم الأولى بعد أن يصيبوا النجاح والشهرة. ربما يكون علاء الأسواني هو أشهر الكتاب الذين نشروا كتبهم لدى ميريت. وتجري أحداث رواية الأسواني "عمارة يعقوبيان" في نفس الحي الذي تقع فيه دار ميريت في قلب القاهرة، كما أن العمارة التي تضم مقر ميريت تشبه عمارة يعقوبيان التي لا ينقصها في الحقيقة سوى ناشر مثل محمد هاشم ليكتمل التنوع المثير لسكان تلك العمارة الذين ينبضون بالواقعية.
هذا الكتاب الذي مهد للتحول في المناخ السياسي في مصر بالنقد الحاد الذي وجهه إلى الظروف السياسية والاجتماعية، مثله في ذلك مثل كتب أخرى قليلة؛ هذا الكتاب قام محمد هاشم بنشر طبعته الأولى، وهو ما يرمز إلى جهود دار ميريت في هذا الاتجاه، مثلما يشير أيضاً إلى أن الدار لم تكد تستفد من الكتاب مادياً لأن الحقوق – مثلما هو الحال لدى معظم الكتب العربية – تبقى لدى المؤلف. تعرفت إلى محمد هاشم للمرة الأولى في معرض القاهرة للكتاب. كان جناج ميريت – وكما هو الحال بالنسبة لكل دور النشر المستقلة الجادة تقريباً - يعرض إصداراته في سرادق كبير تتلاعب به الرياح من كل جانب. تعادل هذه السرادقات في القاهرة الأجنحة الموقرة في معرض فرانكفورت للكتاب. صحيح أن معرض القاهرة يضم أيضاً عدداً من الأجنحة، غير أنها بالمقارنة بأجنحة فرانكفورت تعتبر متواضعة، كما أنها لا تقل فوضويةً عن السرادقات التي يعرض بداخلها ناشرون مثل محمد هاشم، يجلسون وراء أكوام الكتب المرصوصة كالجنود خلف أكياس الرمل.
الناشرون كباعة جائلين
وهكذا يتحول الناشرون إلى باعة جائلين، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى؛ باعة يجولون من معرض إلى آخر حاملين كتبهم. ومن النادر أن يحقق بائع أرباحاً تستحق الذكر على هذا النحو، وبالرغم من ذلك فإنهم يسافرون كلهم، ويجلسون خلف أكوام الكتب، ويقابلون زملاء لهم أو كتاباً أو ناشرين وقراء. وليس نادراً أن يُهدي أحدهم للآخر هذا الكتاب أو ذاك. في مثل هذه الظروف ليس هناك مفر من أن تدور الأحاديث الكثيرة حول الكتب. ربما يعرف كل ناشر عربي قراءه على نحو أكثر دقة من أي ناشر أوروبي أو أميريكي. ومن المفهوم أن ذلك يحوي إمكانات كبيرة يمكن لنا أن نقدرها عندما ننظر إلى ما تقدمه الشبكات الاجتماعية اليوم.
دار ميريت التي أسسها محمد هاشم ليست سوى شبكة من تلك الشبكات الاجتماعية، ولكنها بالطبع ليست شبكة افتراضية، بل هي شبكة حقيقية للغاية، شبكة من دم ولحم، شبكة تنبض بالحياة. مركز هذه الشبكة هو عنوان الدار، 6 شارع قصر النيل، وهو عنوان يبدو كعنوان إحدى روايات نجيب محفوظ، وما يحدث داخل الشقة التي تضم الدار جدير بأن يقدم مادة أدبية كافية لواحدة من تلك الروايات الملحمية التي كتبها الحاصل على جائزة نوبل في الأدب.
الصالون المفتوح
لقد أُتيح لي أن أدخل عدة مرات هذه الشقة، إذ إن محمد هاشم يقيم فيها ما كان في الماضي يطلق عليه "صالون مفتوح". إن أبواب هذه الدار مفتوحة على الدوام تقريباً، والفرصة كبيرة - لا سيما في ساعات المساء – في أن يقابله الإنسان داخل الدار، أن يقابله ومعه دائرة متنوعة، تصغر أو تكبر، من الأصدقاء والضيوف والكتاب والصحفيين والفلاسفة والبوهيميين والثوريين والقراء بالطبع. عندما أقول "صالون" فإن الكلمة تبدو هنا بالطبع أكثر بورجوازية وأرستقراطية مما أعني، ولذلك من الأفضل أن نستبدل كلمة "صالون" بكلمة "مطبخ مفتوح"، أو مطبخ مفتوح داخل شقة يتقاسمها عدة أفراد، شقة يستطيع كل شخص أن يمر عليها كلما واتته الرغبة، شقة طلابية يجلس فيها أيضاً رجال محترمون متقدمون في العمر بكروش كبيرة، شقة يستطيع فيها جواسيس الحكومة أن يجدوا مادة دسمة للتجسس إذا لم يستنكفوا من الجلوس هناك.
باب دار ميريت مفتوح دائماً، وكل فرد بإمكانه الدخول. حتى نهاية شهر يناير – عندما كانت هذه الشقة، مقر الدار، قد تحولت منذ أيام إلى مخيم، إلى مأوى ومطبخ شعبي لعشرات من المتظاهرين المنهكين الذين طاردتهم الشرطة، حتى نهاية يناير 2011 كانت المخابرات الإسرائيلية ما زالت مقتنعة بأن مبارك يجلس راسخاً على عرشه، في حين أنه كان في الحقيقة يتأرجح تأرجحاً خطيراً على عمره المتقدم.
كانت هذه الدار مركزاً فكرياً، نقطة لقاء، وشبكة اجماعية، نادي للنقاش ومعمل سياسي كانت تجرب وتنشر فيه مختلف الموضوعات السياسية – من "سقوط العالم الإسلامي" مثلما يقول عنوان كتاب حامد عبد الصمد الذي نشره بجرأة محمد هاشم باللغة العربية ونظم صالوناً للنقاش حول أفكاره، وصولاً إلى كتابات رواد حركة كفاية السياسية التي انطلقت لتقول لمبارك "كفى".
"أدباء من أجل التغيير"
كانت مبادرة أخرى قام هاشم بتأسيسها، وفي المظاهرات القليلة التي كانت تنطلق في مصر قبل يناير 2011 كان المرء يرى مجموعة صغيرة من مئة ناشط ربما، أو مئتين، يرفعون لافتاتهم، مثلما يرفعون صوتهم بالهتافات، محاصرين بأربعة صفوف من شرطة الأمن المركزي المرتدين الزي الأسود والواقفين وراء عربات مصفحة – كان التظاهر حقا مكفولاً، ولكن الشركة كانت بالطبع تبذل قصارى جهدها لحصاره وتضييق الخناق عليه.
نعم، محمد هاشم كان بطريقته المتواضعة، وعلى نحو متوار تقريباً، أحد آباء الثورة المصرية. كان كذلك لأنه لم يظهر أبداً على نحو صاخب وحماسي، كما لم يدعي أبداً أنه من قائدي الثورة أو من صناعها، ولم يكن يريد أن يكون شيئاً من هؤلاء أو أولئك: لقد كان أحد آباء الثورة لأنه كان على سجيته، لأنه كان يعمل ما هو يعمله، ولأنه كان يعرف ما هو الضروري، وهذا الضروري كان في أغلب الأحيان الجميل – أي الأدب الجميل – ولأنه لم يسمح للظروف المعوقة أن توقفه عن العمل وعن أن يظل وفياً لاسم دار نشره، ميريت، تلك الربة المصرية التي أعطت الدار اسمها، والتي كانت إلهة موسيقى المعابد والأناشيد الدينية، تلك الإلهة التي كانت تصاحب الشعائر الدينية والاحتفالات بالتصفيق والهتافات الحماسية. إذا كانت الشعائر هنا لا تعني العقائد الجامدة – وهو شيء بعيد كل البعد عن محمد هاشم – بل تعني الثقافة، فإن دار ميريت تستحق هذا الاسم عن جدارة.
شتيفان فايدنر
ترجمة: صفية مسعود
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2011