تُركيا والحرب في أوكرانيا: تحدي الإمساك بالعصا من المنتصف
في ظل التطورات المتسارعة التي تشهدها أوكرانيا والعالم، بفعل الغزو الروسي، تقف تركيا في موقف لا تُحسَد عليه. إذ أن تركيا من جهة، مشاطئة عبر البحر الأسود مع كلٍ من روسيا وأوكرانيا، وهي كذلك عضوٌ في حلف الناتو الذي قرر دعم أوكرانيا عسكريًا وسياسيًا ومقاطعة روسيا وفرْض عقوبات قاسية عليها.
ومن جهة أخرى، تحصل هذه الحرب المتصاعدة بين دولتين حرصت تركيا طوال السنوات الماضية على الحفاظ على علاقات قوية متوازنة معهما. حيث تمتلك أنقرة علاقات مميزة -بل وحساسة- مع هاتين الدولتين ما يجعل خسارة أيٍ منهما، عبر الاصطفاف -العدائي- مع أحد طرفيْ الصراع، تهديدًا حقيقيًا لمصالح تركيا.
لذلك ومع تصاعد التوتر بين روسيا وأوكرانيا في الأشهر الماضية حاولت استغلال علاقاتها الجيدة مع الطرفيْن للوساطة،[1] لكن هذه المحاولة لم تنجح في ظل رفضٍ روسيّ متكرر.
خلال زيارة لكييف مطلع شهر شباط المنصرم، أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن تركيا لا تريد حربًا بين روسيا وأوكرانيا وأن حربًا كهذه «ستكون نذير شؤم على المنطقة». ومع بدء الغزو، جدد أردوغان التعبير عن موقف تركيا المبدئي الداعم لسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها ونضالها لحماية استقلالها مؤكدًا على رفضه للهجوم الروسي «غير المقبول» داعيًا روسيا إلى العودة إلى «الحوار والدبلوماسية».
في المقابل، سعت تركيا للمحافظة على خط رجعة مع روسيا من خلال تجنب المواقف العدائية تجاهها، فكانت الدولة الوحيدة، العضو في الناتو، التي لم تُغلق مجالها الجوي في وجه الطائرات الروسية، كما رفضت المشاركة في العقوبات الغربية عليها، إذ رأت أنها «ستضر تركيا أكثر من روسيا».
هذا «التوازن» في العلاقات التي تعمل تركيا لأجل الحفاظ عليه، لخصه أردوغان بالقول: «تركيا لن تتخلى عن روسيا ولا عن أوكرانيا»، في سياسة يمكن لنا أن تسمى بسياسة إمساك العصا من المنتصف.
علاقات روسية تركية متشابكة
تعود جذور هذه السياسة التركية تجاه الأزمة إلى تشابك وتعقيد علاقاتها مع طرفي الصراع.
اقتصاديًا، نمت العلاقات الروسية التركية بشكل مستمر خلال السنوات الفائتة، فمثلًا في عام 2020 بلغ حجم التعاملات التجارية بين الطرفين أكثر من 20 مليار دولار، منها قرابة 15.7 مليار واردات و5.1 مليار صادرات تركية. أمّا في عام 2021 فلقد حطم البلدان أرقامًا قياسية جديدة، حيث بلغ حجم التعاملات التجارية بينهما قرابة 35 مليار دولار، منها 29 مليار دولار واردات و5.5 مليار دولار صادرات تركية، لتحتل روسيا حينها المرتبة الثانية بعد الصين كأهم شريك تجاري لتركيا بنسبة 10.4% من المجموع الكلي للواردات التركية.
كما أن روسيا، وعلى مدى السنوات الفائتة، كانت أهم مورّد للغاز الطبيعي إلى تركيا الفقيرة بموارد الطاقة، فبلغت حصة الغاز الروسي من واردات الغاز التركية الكلية عام 2020 نسبة 33.6% أمّا عام 2021 فارتفعت النسبة لتصل 44%. كما أن مرور الغاز الروسي في تركيا، عبر خط أنابيب «ترك ستريم» عام 2020، وهو خط ينقل الغاز من روسيا عبر البحر الأسود إلى تركيا ثم إلى أوروبا، قد عزّز من المكانة التركية في سوق نقل الطاقة إلى أوروبا.
أنقرة تسير على حبل مشدود بمنع سفن الناتو من دخول البوسفور
إضافة إلى الغاز، تستورد تركيا العديد من المنتجات الزراعية من روسيا، وفي 2021 كانت تركيا المستورد الأكبر لهذه المنتجات من روسيا إذ تستورد منها احتياجاتها الأساسية من البقوليات والشعير وزيت عباد الشمس، لكن أهم ما تستورده زراعيًا هو القمح بلا شك، إذ وبسبب الجفاف والصناعات التصديرية تعتمد تركيا بشكل كبير على الخارج في تلبية احتياجاتها من القمح حيث استوردت عام 2021 ما نسبته 78% من هذا المنتج الأساسي من روسيا. وعلى الجهة الأخرى تعتبر روسيا أيضًا أهم مستوردي الخضروات والفواكه التركية حيث حطمت عام 2021 رقمًا قياسيًا جديدًا، لتبلغ ما يزيد عن ثلاث مليارات دولار بحصة تزيد عن 32% من الصادرات التركية الكلية في هذا المجال.
ّتركيا هي الدولة الوحيدة، العضو في الناتو، التي لم تُغلق مجالها الجوي في وجه الطائرات الروسية، كما رفضت المشاركة في العقوبات الغربية عليها“
تعتبر السياحة أحد أهم المجالات الاقتصادية في تركيا خاصة وأن عائداتها تشكل ما نسبته 5% من الاقتصاد التركي الكلي، كما وتعتبر أحد أهم مصادر العملات الصعبة التي تحتاجها تركيا في شتى المجالات لا سيما في ظل تدهور العملة المحلية. وفي السنوات الأخيرة احتل السياح الروس المرتبة الأولى بين أكثر السياح زيارة لتركيا، وقد وصل عدد السياح الروس في تركيا عام 2019 قرابة سبعة ملايين سائح بنسبة تزيد عن 15% من مجموع السياح الأجانب الكلي.
كما ويمتلك القطاع الخاص التركي استثمارات ضخمة في روسيا حيث تعمل -بحلول عام 2022- أكثر من 3 آلاف شركة تركية في قطاعات الاقتصاد الروسي المختلفة لا سيما في قطاع الإنشاءات، حيث بلغ عدد المشاريع التي تولتها الشركات التركية في السنوات الأخيرة أكثر من 150 مشروعًا في مختلف أنحاء روسيا بقيمة بلغت قرابة 22 مليار دولار.
وتتشابك العلاقات بين البلدين، كذلك، سياسيًا وعسكريًا، حيث يتواجهان بأشكال مختلفة في العديد من الساحات في المنطقة والعالم خاصة في سوريا وليبيا وقاراباخ وغيرها، ما يفرض عليهما -خاصة تركيا- الحفاظ على خط رجعة في علاقاتهما رغم كل الخلافات. فمثلًا عند تناول علاقاتهما في سوريا، يحاول الطرفان حفظ مصالحهما وتقوية نفوذهما من خلال العديد من الآليات الدبلوماسية لتقليل صداماتهما على الأرض مثل مباحثات أستانة والقمم الثلاثية الروسية التركية الإيرانية.
رغم الترابط الاقتصادي بين الطرفين إلا أن الاشتباك السياسي بينهما أثبت بالتجربة هشاشة هذا الترابط. وربما يمكن النظر إلى أزمة إسقاط الطائرة الروسية[2]عام 2015 دليلًا على ذلك، حيث توعدت روسيا تركيا «بتدفيعها ثمنًا باهظًا»، لتفرض إثر هذه الأزمة عقوبات متنوعة على تركيا. إذ وإضافة إلى تقييد عمل الشركات التركية في روسيا خاصة في مجال الإنشاءات، منعت استيراد بعض الفواكه والخضروات من تركيا لتتراجع صادرات تركيا إليها عام 2016 إلى حوالي 1.7 مليار دولار فقط. كما علقت روسيا حينها العمل في مشروع (ترك ستريم). ودفعت نحو تقييد حركة السياحة الروسية إلى تركيا لينخفض عدد السياح الروس في تركيا عام 2016 إلى أقل من مليون سائح بعوائد لم تتجاوز 478 مليون دولار ذلك العام.
كما تخشى تركيا أن تؤدي أي انتكاسة في العلاقات مع روسيا إلى زيادة الضغط عليها، ليس فقط من خلال زيادة استهداف القوات التركية في سوريا، بل وأيضًا من خلال الضغط الروسي العسكري على مناطق المعارضة في إدلب ما قد يؤدي إلى موجة هجرة جديدة ترى تركيا أنها غير قادرة على تحملها، خاصة في ظل أزمتها الاقتصادية. كما تخشى من دعم روسيا للقوى الكردية في سوريا، دعمٌ قد ينتقل من كونه سياسيًا ليصير عسكريًا، وهو ما يعتبر تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، ويرى العديد من المنظرين الأتراك أن إسقاط حزب العمال الكردستاني مروحية تركية في أيّار 2016 بعد أشهر من أزمة الطائرة الروسية بصاروخ إيغلا روسي الصنع هو رسالة روسية غير مباشرة.
علاقات أوكرانية تركية متشابكة كذلك
أمّا الأسباب التي تمنع تركيا من التخلي عن أوكرانيا فهي متنوعة أيضًا. فإضافة إلى الرغبة التركية بالحفاظ على تكاملها مع معسكر الناتو الداعم لأوكرانيا، تمتلك تركيا وأوكرانيا ذات الأقلية التركية-التترية علاقات مميزة وواعدة إلى درجة يمكن فيها مثلًا لمواطني البلديْن عبور الحدود بالهوية الوطنية فقط منذ عام 2017. وتعتبر تركيا رابع أكبر شريك تجاري لأوكرانيا ففي 2021 بلغت الصادرات التركية إلى أوكرانيا قرابة الثلاث مليارات دولار، والواردات قرابة أربع مليارات دولار ونصف. وتحتل أوكرانيا منذ سنوات المرتبة الثانية بعد روسيا بين أهم موردي القمح إلى تركيا حيث استوردت الأخيرة منها عام 2021 ما نسبته 12% من المجموع الكلي لواردات القمح.[3]
تعتبر تركيا كذلك من أهم الوجهات السياحية لمواطني أوكرانيا، حيث زاد عددهم عام 2021 على المليوني سائح، وهو رقم قياسي بالنسبة للعلاقات بين البلدين حيث احتلوا المرتبة الثالثة بين أكثر السياح زيارة لتركيا في هذا العام.
تعمل في أوكرانيا أكثر من 700 شركة تركية من القطاع الخاص خاصة في مجال الإنشاءات، إذ كانت أوكرانيا عام 2020 ثاني أكثر دولة يفوز فيها متعهدو البناء الأتراك بمناقصات في الخارج. كما وتولّت الشركات التركية العاملة في أوكرانيا في السنوات الثلاثة الأخيرة أكثر من خمسين مشروعًا بقيمة تزيد عن ثلاث مليارات دولار.
تركيا وأوكرانيا والصناعات الدفاعية
تُشكّل الصناعات الدفاعية أحد أهم أبواب التعاون بين تركيا وأوكرانيا حيث تعتبر الأخيرة أحد أبرز مستوردي الأسلحة التركية. تصدّر تركيا إلى أوكرانيا الطائرات المسيّرة[3] والزوارق البحرية إضافة إلى أنظمة الصواريخ والذخيرة الذكية. لكن العلاقة بين البلديْن في مجال الصناعات الدفاعية انتقلت من طور البيع والشراء إلى طور الشراكة في التصنيع من خلال اتفاقيات رسمية عبر الدمج بين التكنولوجيا التركية وقدرة أوكرانيا التصنيعية خاصة في مجال تصنيع المحركات بمختلف أنواعها كما حصل في عملية تصنيع مروحيات تركية بمحركات أوكرانية. شكّل هذا التعاون مصدرًا للسلاح والتكنولوجيا الدفاعية بالنسبة لأوكرانيا، وبوابة لتركيا لتطوير صناعاتها الدفاعية وتجاوز الحظر الذي فرضته عليها بعض الدول الغربية في مجال الصناعات الدفاعية.
وفي السياق نفسه صرّحت الشركة الوطنية الأوكرانية لتجارة الأسلحة عام 2020 عن رغبتها بالإنتاج المشترك لمسيّرات «بيرقدار تي بي 2» المسلّحة في أوكرانيا مشيرةً إلى أن الجيش الأوكراني يخطط لشراء 48 مسيّرة مسلحة عبر الإنتاج المشترك. كما أعلنت أوكرانيا قبيل زيارة الرئيس أردوغان الأخيرة إلى كييف، قبل الحرب بأسابيع، عزم الطرفين بناء مصانع للطائرات المسيّرة التركية في أوكرانيا. تتعاون شركات الصناعات الدفاعية التركية والأوكرانية بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة كما هو الحال في التعاون بين شركة «بايكار»[4] التركية المشهورة بطائرات «بيرقدار تي بي 2» المسيّرة وشركة موتور سيش الأوكرانية لتصنيع محرّكات للطائرات المسيرة.
عام 2021 استوردت تركيا، من المجموع الكلي لواردات القمح، 78٪ من روسيا، و12٪ من أوكرانيا
انتقدت روسيا هذه العلاقة الوثيقة في مجال الصناعات الدفاعية لا سيما الطائرات المسيرة، حيث رأت فيها أحد عوامل «زعزعة الاستقرار» بعد استخدام أوكرانيا لهذه المسيرات في الصراع في شرق أوكرانيا عام 2021 لترد تركيا بأن السلاح الذي يباع «يصبح ملك الدولة التي اشترته» في رفضٍ صريح لأي مسؤولية عن استخدام هذه الأسلحة. وقد هددت روسيا حينها بأنها ستعيد النظر في علاقات التعاون العسكري والتقني مع تركيا حال استمرت الأخيرة ببيع المسيرات إلى أوكرانيا.
ومنذ بداية الحرب تنشر القوات المسلحة الأوكرانية وبشكل احتفالي فيديوهات لضربات المسيّرات التركية ضد الجيش الروسي على وسائل التواصل الاجتماعي.[5] كما وصرّح وزير الدفاع الأوكراني في اليوم السادس للحرب بأنهم يتلقون المزيد من السلاح التركي وأن مسيّرات تركية جديدة وصلت ودخلت الخدمة، وقد تجنبت وزارة الدفاع التركية التعليق على هذه التصريحات مؤكدةً أن تركيا «تتابع إرسال المساعدات الإنسانية إلى المنطقة وتعمل على إحلال السلام فيها». ويرى البعض في هذه التصريحات والتركيز الأوكراني على إبراز الدعم التركي العسكري محاولة متعمدة لإجبار تركيا على ترك سياسة الحفاظ على علاقاتها مع الطرفين واتخاذ موقف أكثر حدة تجاه روسيا.
خاتمة
أعادت الحرب بين دولتين مطلّتين على ساحل البحر الأسود المضائق التركية إلى الواجهة. إذ برزت منذ اليوم الأول للحرب أهمية هذه المضائق ما جعلها نعمة ونقمة. نعمةً لأنها تذكير لمختلف الأطراف في المنطقة والعالم بالأهمية الاستراتيجية لتركيا ونقمة من حيث كونها تشكّل عامل ضغط إضافي على تركيا للوقوف العملي مع أحد طرفي الصراع.
طلبت أوكرانيا من تركيا منذ اليوم الأول للحرب إغلاق المضائق في وجه السفن الحربية الروسية. طلبٌ قابلته تركيا بالصمت خلال الأيام الأولى، لتعود لاحقًا لنفي إغلاقها للمضائق أمام إلحاح وتصريحات الرئيس الأوكراني الملتبسة. لكن ومع التطورات الميدانية المتصاعدة في أوكرانيا قررت تركيا أن هذه الأزمة حرب وليست عملية عسكرية محدودة أو مؤقتة وبذا يحق لها تفعيل بنود اتفاقية مونترو الناظمة للملاحة في المضائق التركية. فأعلنت رسميًا إغلاق مضائقها أمام السفن الحربية الروسية في خطوة تبدو للوهلة الأولى دعمًا عمليًا لأوكرانيا لكنها في الحقيقة خطوة رمزية، وتضامنية على أبعد تقدير، ومنسجمة بالكامل مع سياسة تركيا في الحفاظ على علاقاتها مع طرفي الصراع. إذ أن ما يجعل هذه الخطوة رمزية هو أن اتفاقية مونترو وإن نصت على منع السفن الحربية للدول المتحاربة من المرور عبر المضائق خلال الحرب إلا أن مادتها التاسعة عشر تحتوي استثناءً يسمح للسفن الحربية التي انطلقت من موانئ البحر الأسود بالعودة إلى موانئها الأصلية ما يتيح لسفن أسطول البحر الأسود الروسي العودة إلى موانئها. وقد أكدت تركيا على أن هذا القرار يأتي في سياق المساعي التركية لخفض التصعيد في أوكرانيا ليعلق السفير الروسي في أنقرة على هذا القرار بقوله إن موسكو «تتفهم إغلاق تركيا مضائقها وفق اتفاقية مونترو».
حتى الآن، تحافظ تركيا على موقف متوازن وحذر من هذه الأزمة. لكن استمرارها، حتى وإن نجح الساسة الأتراك -بمعجزة- في السير على الخيط الرفيع بين طرفيها، يضر بتركيا ومصالحها في قطاعات أساسية متنوعة مثل الطاقة والسياحة والمنتجات الزراعية. إذ أن ارتفاع أسعار منتجات أساسية مثل البترول والغاز والقمح عالميًا يزيد الضغط على الاقتصاد التركي الذي يعاني أصلًا من أزمة خانقة تتجلى في تدهور قيمة العملة المحلية وارتفاع التضخم لنسبٍ قياسية. وبالمحصلة، يمكن وصف السياسة التركية الحالية تجاه هذه الأزمة بالحياد في صف أوكرانيا، لكونها في الأساس ترتكز على دعم أوكرانيا رسميًا ودبلوماسيًا دون إحراق الجسور مع روسيا عمليًا. سياسة، وفي ضوء المعطيات الداخلية والخارجية، تبدو سياسةً اضطرارية تسعى تركيا للالتزام بها مهما كان الثمن.
الكاتب: نور الدين العايدي