سير إردوغان على حبل توازن مشدود
تشير مأدبة عشاء أقيمت مؤخراً في واشنطن إلى أنّ الزيارة المرتقبة التي تقرر أن يقوم بها الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ إلى تركيا من المحتمل أن تكون أكثر من مجرد وضع حدٍّ للعلاقات المتوترة بين الحليفين السابقين. وقد نظّم حفل العشاء الذي استضافه مبعوث أذربيجان، القائد الأمريكي اليهودي المؤثّر مالكولم هونلين، وهو نائب رئيس منظمة "مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأمريكية الكبرى"، وحضره سفراء إسرائيل وتركيا وأوزبكستان وكازاخستان في واشنطن.
وقد نُظِّمَ في محاولة لإيجاد سبيل لتوثيق التعاون الاقتصادي والأمني بين إسرائيل والدُّوَل التركية، التي تملك علاقات دبلوماسية مع الدولة اليهودية. ولا تكمن أهمية العشاء في كونه جرى قبل زيارة هرتسوغ إلى تركيا فحسب، فقد التقى السفراء بينما أجبرت الأزمة الأوكرانية تركيا على الاختيار بين حلف شمال الأطلسي (الناتو) وبين روسيا.
إضافة إلى ذلك، حاولت تركيا وأذربيجان ودول آسيا الوسطى قبل ثلاثة أشهر إحياء مجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية الخاص بها.
إذ أنّ تركيا، وهي عضو في حلف شمال الأطلسي وتربطها علاقات وثيقة بروسيا واشترت نظام دفاع جوي روسي، دعمت أوكرانيا، وشدّدت التعاون العسكري مع دولة أوروبا الشرقية المحاصرة، وأدانت احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014. زار رجب طيب إردوغان العاصمة الأوكرانية كييف في وقت سابق من شهر (شباط/فبراير 2022)، بيد أنّ عرضه للتوسّط بالنزاع الروسي مع أوكرانيا قوبل بالرفض من قبل موسكو.
أنقرة حريصة على تحسين العلاقات مع إسرائيل
وقد قال الرئيس التركي بعد زيارته لكييف إنه يرغب باستئناف المحادثات مع إسرائيل حول نقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا. إذ أنّ إمدادات الغاز إلى أوروبا قد تتعرض للخطر في حال فرض الغرب عقوبات على روسيا كنتيجة للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. ويمكن أن توقف العقوبات مبيعات الغاز الروسي إلى أوروبا. وإضافة إلى ذلك، يمكن للعقوبات أن تؤثّر أيضاً على ترك ستريم TurkStream، وهو خط أنابيب الغاز الطبيعي الذي لا يمر عبر أوكرانيا، إذ ينطلق من روسيا تحت البحر الأسود إلى تركيا، من حيث يُضخُّ الغاز إلى أوروبا.
ومن شأن التعاون التركي الإسرائيلي في مجال الغاز أن يعزّز مسعى إردوغان إلى أن يجعل من تركيا مركزاً بديلاً لتوزيع الطاقة لأوروبا. وقد قالت أذربيجان أنها مستعدة لتزويد أوروبا بإمدادات غاز طارئة، ستتدفق عبر تركيا إذا عطلت الأزمة الأوكرانية الشحنات الروسية.
وقد تأكّد أنّ إسحاق هرتسوغ -سيزور تركيا في 9 آذار/مارس 2022- ليصبح بذلك حينها أول رئيس إسرائيلي يزور تركيا منذ 15 عاماً. وحضر مايكل -شقيق هرتسوغ- مأدبة العشاء المذكورة أعلاه في واشنطن بصفته سفيراً لإسرائيل.
وانهارت العلاقات بين تركيا وإسرائيل في أعقاب قتل قوات كوماندوز تابعة للبحرية الإسرائيلية لـ 10 نشطاء أتراك في عام 2010 على متن سفينة كانت جزءاً من "أسطول الحرية" الذي كان يحاول كسر الحصار الإسرائيلي-المصري على غزة.
ويمكن القول إنّ المكالمة الهاتفية التي جرت في شهر (كانون الثاني/يناير 2022) بين وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو ونظيره الإسرائيلي يائير لابيد هي أول محادثة بين وزيري خارجية البلدين منذ 13 عاماً. وكان إلقاء القبض في تشرين الثاني/نوفمبر 2021 على زوجين سائحين إسرائيليين، بتهمة التجسس لتصويرهما قصر دولمة بهتشة -وهو من أشهر المعالم السياحية في إسطنبول- ومن ثم إطلاق سراحهما قد مهّد الطريق للتقارب التركي-الإسرائيلي.
وقد شكّل القصر الذي يقع على ضفاف البوسفور المقر الإداري للسلاطين العثمانيين في القرن التاسع عشر، كما توفي فيه مؤسس تركيا الحديثة، مصطفى كمال أتاتورك، في عام 1938.
وأدى إطلاق سراح الزوجين إلى أول مكالمة هاتفية بين الرئيس التركي إردوغان وكبار القادة الإسرائيليين، منذ تسع سنوات، إذ اتصل كل من الرئيس هرتسوغ ورئيس الوزراء نفتالي بينيت على حدة بالرئيس التركي لشكره.
كما أدى إطلاق سراح السائحَيْن الإسرائيليين وردود أفعال إردوغان إلى تحقيق أغراض متعددة. إذ أنّ الرئيس التركي لم يكن يريد أن تخيف هذه الحادثة السيّاح الذين تمسُّ الحاجة إليهم في فترة الأزمة الاقتصادية الحادة. كما أتاحت له الحادثة فرصة للوصول إلى إسرائيل وتقليص الميزة الجيوسياسية للإمارات العربية المتحدة بالحفاظ على علاقات وثيقة مع الدولة اليهودية.
فمن وجهة نظر إردوغان، زادت الأزمة الأوكرانية من جدوى تحسين العلاقات مع إسرائيل.
تتطلّعُ الإمارات العربية المتحدة إلى "مرحلة جديدة مزدهرة" من التعاون:
في 14 شباط/فبراير 2022، زار إردوغان الإمارات العربية المتحدة كجزء من عملية موازنة إقليمية تحاول من خلالها دول الشرق الأوسط المتعددة ضمان عدم خروج خلافاتها والنزاعات الإقليمية المتعدّدة عن نطاق السيطرة.
ورأى ولي عهد الإمارات "محمد بن زايد" في زيارة إردوغان، وهي الأولى منذ عقد تقريباً، أنّها تبشّر ببداية "مرحلة جديدة مزدهرة" من التعاون مع تركيا. والجدير بالذكر أنّ الإمارات العربية المتحدة هي الشريك التجاري الأول لتركيا في منطقة الخليج العربي.
وفي الوقت ذاته، ذكرت صحيفة صباح، وهي صحيفة تركية يومية مؤيدة للحكومة، ذكرت مؤخراً أنّ الاستخبارات التركية أحبطت في الخريف السابق محاولة لاغتيال رجل الأعمال التركي-الإسرائيلي يائير غيلر. ويشكُّ بعض المحللين في أنّ توقيت الإفصاح عن العملية هذه كان يهدف إلى مواجهة الدعوات الإسرائيلية لتركيا لوقف دعمها لحركة حماس الإسلامية التي تسيطر على قطاع غزة، في سياق التقارب مع إسرائيل.
كما نقلت الصحيفة احتجاز عدد من المشتبه بهم المرتبطين بإيران. وأشار المسؤولون الأتراك إلى أنّ محاولة الاغتيال كانت انتقاماً لمقتل العالم النووي الإيراني محسن فخري زادة في عام 2020 من قبل عملاء إسرائيليين.
سير إردوغان على حبل جيوسياسي مشدود
بالنسبة لرجب طيب إردوغان، إصلاح العلاقات مع إسرائيل وإقامة شراكة محتملة في القوقاز وآسيا الوسطى هي مرحلة حرجة كالسير على حبل مشدود.
إذ ينبغي على إردوغان الموازنة بين تحسين العلاقات مع بلدان مثل إسرائيل والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، التي يعتبر منتقدوها أنها تخلّت عن الدفاع عن قضايا المسلمين، بما في ذلك محنة الفلسطينيين، وبين تصدير نفسه باعتباره الزعيم المسلم الذي يهتم بشركائه في الدين.
ونتيجة ذلك، أشار وزير الخارجية التركية مولود جاويش أوغلو مؤخراً إلى أنّ "أي خطوة نتّخذها مع إسرائيل فيما يخصّ علاقاتنا، أي تطبيع، لن يكون على حساب القضية الفلسطينية، مثل بعض البلدان الأخرى".
وفي الوقت ذاته تقريباً، وجّهت تركيا الاتهام إلى 16 شخصاً اعتقلتهم الخريف الماضي (تشرين الأول/أكتوبر 2021) بتهمة الانتماء إلى شبكة تجسّس إسرائيلية. وقد أنكرت مصادر استخباراتية إسرائيلية وجود مثل هذه الشبكة.
وقد قال سيث فرانتزمان، كبير مراسلي الشرق الأوسط في صحيفة "جيروزاليم بوست" اليمينية، بعد فترة وجيزة من الاعتقالات في الخريف الماضي: "اتهامات أنقرة "بالتجسّس" والتهديدات الظاهرة بطلب مقابل كبير لإخلاء سبيل المعتقلين تُظهِرُ أنّها كانت تستخدم دبلوماسية الرهائن مع سياح أبرياء. وبهذه الطريقة تصرفت حركة حماس، التي يدعمها الحزب الحاكم في أنقرة... . الأنظمة الطبيعية لا تحتجزُ الأبرياء".
د. جيمس م. دورسي
ترجمة: يسرى مرعي
حقوق النشر: موقع قنطرة 2022
د. جيمس م. دورسي هو صحفي حائز على جوائز، وباحث بارز في معهد الشرق الأوسط في جامعة سنغافورة الوطنية.