رجل لا يتردد في التدخل بحسم لإنقاذ مسار تونس الديمقراطي
من داخل مكتبه الكائن في وسط مدينة تونس العاصمة، يتمتَّع حسين العباسي بمنظر يُطلُّ على ساحة محمد علي كلِّها. وخلف مكتبه المتواضع بطاولته الخشبية الثقيلة والمقاعد الجلدية المطبوع عليها أثر الجلوس، تُشاهَد صورٌ لمؤسِّسي العمل النقابي في تونس، أسلاف النقابي حسين العباسي.
وهناك، أمام المقر التاريخي للاتِّحاد العام التونسي للشغل، قامت المظاهرات الأولى في العاصمة التونسية في نهاية شهر كانون الأوَّل/ديسمبر 2010، بعدما كانت المناطق الداخلية من البلاد قد شهدت منذ عدة أيَّام مظاهرات تنديدًا بالرئيس زين العابدين بن علي. وفي تلك الفترة كان حسين العباسي مسؤولاً عن المسائل القانونية والدراسات في مجلس إدارة الاتِّحاد العام التونسي للشغل، وأبقى نفسه خلف الكواليس.
وبعد ذلك بعام تخلَّص الاتِّحاد العام التونسي للشغل من أمينه العام الموالي للنظام، والذي يعود إلى عهد الرئيس زين العابدين بن علي، وانتخب لأمانته العامة المرشَّح التوافقي حسين العباسي، الذي يبلغ عمره اليوم ثمانية وستين عامًا.
وحسين العباسي مُدرِّس لديه أكثر من أربعين عامًا من الخبرة في مجال العمل النقابي. نشأ العباسي في أسرة فلاحة في منطقة فلاحية تقع إلى الجنوب من تونس العاصمة بنحو مائة كيلومتر، وانخرط منذ السبعينيات في البداية في العمل ضمن نقابة المعلمين المهنية المحلية. وفي عام 2002 أصبح رئيس مجلس إدارة فرع الاتِّحاد العام التونسي للشغل في محافظة القيروان، وفي عام 2006 عضو المكتب التنفيذي في تونس العاصمة. غير أنَّ فترة توليه منصب الأمين العام لهذا الاتِّحاد النقابي غدت واحدة من أكثر الفترات نشاطًا منذ تأسيس الاتِّحاد العام التونسي للشغل في عام 1946.
الإضراب العام كوسيلة ضغط
صحيح أنَّ تونس قد نجحت وحدها دون غيرها من بين دول الربيع العربي في تطوير نفسها إيجابيًا، ولكن كثيرًا ما تشهد تونس أعمال عنف وانتكاسات وأزمات. وكثيرًا ما يظهر الاتِّحاد العام التونسي للشغل كطرف فاعل ووسيط. ومع أعضائه البالغ عددهم أكثر من سبعمائة ألف عضو - علمًا أنَّ عدد سكَّان تونس الإجمالي يبلغ نحو أحد عشر مليون نسمة - فإنَّ الاتِّحاد العام التونسي للشغل مترابط في شبكة رائعة تغطي جميع أنحاء البلاد، كما أنَّه يستطيع تعبئة أعضائه بسرعة، مثلما كان قد أظهر ذلك بالفعل خلال الثورة.
وعندما تم اغتيال المعارض التونسي شكري بلعيد في شهر شباط/فبراير 2013، دعا الاتِّحاد العام التونسي للشغل إلى إضراب عام في يوم جنازته - وفي هذا اليوم توقَّفت تونس كلها عن العمل.
وبالنسبة لحسين العباسي يعتبر الإضراب العام أهم وسيلة للضغط عندما لا تعود هناك جدوى من أي شيء آخر. وحينما تم في صيف عام 2013 - وفي منتصف شهر رمضان - اغتيال النائب التونسي محمد براهمي، ووقعت الحياة السياسية في تونس جراء ذلك في أزمة، أخذ حسين العباسي زمام المبادرة.
وفي هذه الفترة أصبح هذا الرجل القصير القامة ذو الشعر القصير الرمادي رئيس اللجنة الرباعية للحوار الوطني التونسي، المؤلَّفة من الاتِّحاد التونسي للشغل، والاتِّحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية (وهو الاتِّحاد الرئيسي لأرباب العمل في تونس)، والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، وكذلك الهيئة الوطنية للمحامين بتونس، والتي حاولت من وراء الكواليس إيجاد حلّ للوضع المتدهور بين الخصوم السياسيين في البلاد.
من خصم إلى شريك في حوار
وفي خريف عام 2013 امتدَّت المفاوضات لعدة أشهر، وفي آخر المطاف تم تتويجها في النهاية بالتوصُّل إلى تسوية بين أحزاب الحكومة وأحزاب المعارضة. وهذه التسوية مهَّدت الطريق من أجل تشكيل حكومة انتقالية وإقرار الدستور الجديد وإجراء انتخابات جديدة. يتذكَّر حسين العباسي ذلك ويقول: "ذات مرة كان الحوار مهدَّدًا حقًا بالفشل". وهنا لوَّح - مثلما يقول - بالإضراب العام، من أجل حمل جميع الأطراف على التنازل، وذلك "لأنَّ بقية أعضاء اللجنة الرباعية لا توجد لديهم بطبيعة الحال أية وسيلة للضغط".
وبرئاسة أمينه العام حسين العباسي تطوَّر الاتِّحاد العام التونسي للشغل من خصم إلى شريك في حوار. وحسين العباسي لا يتردَّد في التدخُّل بنفسه، عندما يعتقد أنَّ بلاده سوف تخرج عن المسار الديمقراطي. وفي هذا الصدد يقول حسين العباسي، وهو أبٌ لأربعة أطفال: "يتم اتِّهامنا مرارًا وتكرارًا بأنَّنا نحشر أنوفنا في أمور لا تعنينا. ولكننا نقوم فقط بالوساطة، ولا توجد لدينا أية طموحات سياسية"، وهو لا يتعب من التأكيد على ذلك. وبسبب التزامه فقد تلقى حسين العباسي، الذي يعمل بشكل متحفُّظ ولكنه محدَّد وحاسم، الكثير من التهديدات بالقتل.
إيجاد مخرج من المأزق
وحسين العباسي، غير المحسوب على أي حزب، لم يتمكَّن من القيام بالوساطة بين مختلف الأطراف السياسية الفاعلة في "الحوار الوطني" التونسي، إلاَّ لأنَّ جميع الأطراف الفاعلة قد وثقت به. وحول ذلك يقول إنَّه استمع في تلك الحقبة وطيلة ساعات عديدة إلى مواقف المعسكرات المختلفة: "كنا نصل مرارًا وتكرارًا إلى درجة أنَّ شخصًا ما قد قال لي: هذا يكفي ولن نقوم بأية خطوة أخرى، فنحن نخشى من خصومنا. وبطبيعة الحال لا يمكنني أن أقول ذلك للآخرين. ولذلك فقد كنت مضطرًا إلى أن أحتفظ بالأسرار لنفسي، لكي يتمكَّن الحوار من النجاح". وحتى أنَّ رفاقه في اللجنة الرباعية لم يكونوا يعرفون كلَّ ما كان يتفاوض عليه مع الأطراف الأخرى خلف الأبواب الموصدة.
عندما تصل فترة ولايته كأمين عام للاتِّحاد العام التونسي للشغل إلى نهايتها في العام القادم 2016، يريد حسين العباسي أن يدوِّن كلَّ ما لا يُعَدُّ في عداد الأسرار. وفي هذا الصدد يقول إنَّه يريد أن يُقنع الأجيال القادمة بأنَّ الحوار هو الوسيلة الوحيدة المعقولة من أجل حلِّ النزاعات.
صحيح أنَّ تتويج هذه المساهمة الآن بجائزة نوبل للسلام أمر يُشرِّفه ويُسعده، ولكن مع ذلك فإنَّ حسين العباسي يبدو متواضعًا. حيث يقول: "عندما بدأنا هذا الحوار، لم نُفكِّر بأنَّ هذا العمل ستتم مكافأته هكذا في يوم ما. لقد كانت فرحتنا الكبرى عندما أخرجنا بلدنا من الأزمة".
ولكن مع ذلك فإنَّ المفاوضات على تعرفة الأجور في القطاع الخاص تمثِّل في الفترة القادمة تحديًا جديدًا. فمنذ أسابيع يكافح الاتِّحاد العام التونسي للشغل والاتِّحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية (أي اتِّحاد أرباب العمل الرئيسي في تونس) من أجل التوصُّل إلى حلّ وسط - سواء مع وجود جائزة نوبل أو بدونها.
يقول حسين العباسي بابتسامة ذكية: "لقد كنا في عام 2013 متَّفقين على أنَّ تونس في خطر وأنَّنا لا نستطيع إنقاذ البلاد إلاَّ من خلال العمل الجماعي. بيد أنَّ هذا لا يعني أنَّ لدينا رأيًا واحدًا في الأشياء الأخرى". ولكنه مع ذلك يأمل مثلما يقول في أن يسفر الحوار عن حلّ حتى في هذه القضية.
سارة ميرش
ترجمة: رائد الباش