لبنان بعد نكبة بيروت: زعماء فاسدون وجغرافيات طائفية
عملت لقرابة سبع سنوات في بيروت حول العمارة والكتاب والهوية البيروتية القلقة، كيف كان شعورك وأنت ترى هذه الكارثة؟ هل فعلاً كنا أمام مشهد موت للمدينة؟
فرانك ميرميه: عشت في بيروت من عام 2002 إلى عام 2009 فبنيت علاقة خاصة بهذه المدينة، التي زرتها لأول مرة في صيف عام 1975. وعندما عرفت خبر الانفجار الهائل وحجم الدمار شعرت كأن جزءاً أساسياً مني انتزع. فأمي لبنانية، ولدي أهل يعيشون في بيروت، وكذلك أصدقاء كثيرون.
فكرت أولاً بهم وبسكان المدينة، وخاصة بعمال المرفأ وموظفيه، الذين كانوا الضحايا الأوائل لهذه الكارثة. فكل شخص اتصلت به أو تراسلت معه له قصته الخاصة ضمن هذه المأساة الجماعية، عندما أفكر ببيروت من الصعب أن أفرق الأشخاص من الأماكن، لأن المدينية البيروتية ناتجة عن هذا النسيج الاجتماعي الخاص لكل من سكن أو يسكن المدينة والذي يعيد تكونه بعد غياب صغير أو طويل.
اهتممت خلال إقامتي ببيروت بموضوع آثار الحرب على المدينة وعلى مصير ما تبقى من التراث المعماري البيروتي، فتأثرت كثيراً بالخراب الكبير الذي حل بالأحياء التاريخية، مثل الجميزة والأشرفية ومار مخايل. شعرت بأنّ المدينة أصيبت بخسائر لا تعوض؛ إذ تستمر هذا الحالة التخريبية المعتادة، والتي هي ناتجة من خليط من فساد وإهمال وسوء إدارة الحكم والمضاربة العقارية الجنونية. فإن استطاعَ أهل بيروت واللبنانيون عموماً أن يجدوا حلولاً لتجاوز هذا الوضع، الذي مهد لهذه الكارثة، فيمكن أن تنتعش المدينة وأن تزول الظلال القاتلة التي انكشفت بعد هذا الانفجار.
ذكرت في إحدى دراساتك عن بيروت أنه "ثمة أكثر من خريطة جغرافية لبيروت يمكن وصفها بالجغرافيات المتصورة "العقلية/الذهنية" التي تمليها الحدود الطائفية، واقتبس هذا الكلام من كتابك "مدن متنازعة"، في التفجير الأخير كان الملاحظ أن الدمار شمل كل المدينة، برأيك هل نحن أمام جغرافية جديدة لبيروت، أو صورة مشتركة لبيروت، بيروت الجريحة، التي تعرضت لغزو مدمر طال قسماً كبيراً من بيوتها، ولم يفرق بين بيت مسيحي وآخر مسلم؟
فرانك ميرميه: تأثرت المدينة بالمجمل بهذه الكارثة، ولكن الدمار الأشد حدة تركز في المناطق ذات الأغلبية المسيحية والتي تحيط بالمرفأ، ونجد في لبنان ظاهرة مزدوجة فيما يتعلق بانعكاسات الطائفية على التصورات والممارسات الاجتماعية اذ تتعايش عامة، وجود زاوية أو رؤية طائفية/سياسية لفهم الوقائع، ونوع من رقابة ذاتية لعدم إشهار هذا المنظور، وهو ما سماه أحمد بيضون ب"حشمة الطوائف".
ففي مسألة الكارثة التي حلت بالمدينة وسكانها ساد نوع من إجماع على عدم إبراز بُعده الطائفي لعدة أسباب، منها الطابع العرضي المفترض للانفجار، وضرورة الحشد السياسي العابر للطوائف ضد النظام الحاكم، وترتكز انتفاضة 17 تشرين على طابع غير طائفي.
قرأت مقالاً للكاتب اللبناني محمد أبي سمرا بعنوان "نكبة المسيحيين وحملة الإغاثة الشبابية في الجميزة ومار مخايل" ويختمه بالقول بأن الكارثة أدت إلى "مقتل بيروت المسيحية والحياة الليلية فيها مع سوليدير"، وإبراز التداعيات الطائفية لهذه الكارثة بهذا الوضوح يعتبر نادراً في الحيز العام اللبناني خارج الحيز السياسي الطائفي المغلق.
لكن الأبعاد الإنسانية والاقتصادية والرمزية والسياسية لهذه الكارثة تجاوزت البعد الطائفي، إذ أنّ هذه الكارثة أصبحت نكبة وطنية شملت كل اللبنانيين، وأكدت لهم وللعالم الانهيار الكامل للمنظومة الحاكمة. يجب أيضاً ألا ننسى كل الضحايا غير اللبنانيين مثل السوريين والفلسطينيين والعاملات والعمال الأجانب الذين يمثلون جزءاً مهماً من المجتمع الحضري.
من بين القضايا التي أثارت نقاشاً واسعاً، موضوع توقيع بعض اللبنانيين على وثيقة دعوة للانتداب، الأمر الذي ربطه البعض بنوايا فرنسية لإعادة إدارة لبنان؟ سؤالي هنا، كيف تقرأ هذه الدعوة أو العريضة اللبنانية أولاً. وثانياً، كيف تنظر النخب السياسية والثقافية الفرنسية لما حدث في بيروت؟ هل شعورها بالمسؤولية ناجم عن رؤية، أو آثار استعمارية كما يحلو للبعض قوله، أم ناجم عن حسابات أخرى؟
فرانك ميرميه: إن توقيع الألاف لعريضة تدعو إلى عودة الانتداب الفرنسي، وقع في ظل ردود الفعل والانفعال الكبير الذي تبع زيارة الرئيس ماكرون إلى بيروت، ويمكن أن يفسر الأمرُ بسهولة إن نظرنا إلى طبيعة العلاقات التاريخية التي تربط البلدين، وإلى التفاعلات العديدة التي تجمع المجتمعين، والتي لخصها المؤرخ الفرنسي هنري لورانس بالقول: إن اللبناني الذي يزور باريس لا يشعر تماماً أنه في بلد أجنبي، كما أن الزائر الفرنسي لبيروت لا يشعر أنه في بلد أجنبي تماماً.
ففرنسا أسست لبنان الكبير في عام 1920 واللغة الفرنسية انتشرت في المجتمع اللبناني بفضل نظام تعليمي فرانكفوني، حتى في فترة الثمانينيات بقيت متأثرة بذلك بسبب إرسال أطفال مهاجري الجنوب اللبناني في إفريقيا إلى مدارس فرانكفونية، وبصورة عامة تسعى السياسة الفرنسية للحفاظ على سيادة لبنان. ويمكن القول إن محاولة تقارب الرئيس سركوزي مع سوريا و دعوة بشار الأسد إلى العيد الوطني الفرنسي في 2008 مَثل نوعاً من القطيعة مع سياسة الرئيس السابق جاك شيراك الذي بنى علاقات ودية مع رفيق الحريري، رئيس الوزراء السابق للبنان. فقيل في ذلك الوقت، أنّ فرنسا استطاعت بهذا التحالف السياسي أنّ توسع تأثيرها السياسي خارج الأوساط المسيحية.
وبالعودةِ إلى مسألة العريضة، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار حجم اليأس وعدم الثقة والشعور بالعجز تجاه طبقة سياسية لا تمت بأي صلة بمفهوم المصلحة العامة، ودرجة الكراهية التي تشعر بها نسبة كبيرة من اللبنانيين تجاه حكامهم، فتوقيع العريضة كان وسيلةً للتعبير عن هذا الإحساس وانعدام الثقة بالمسؤولين السياسيين، الذين لا يشعرون بأي مسؤولية تجاه المجتمع اللبناني. فالعريضة ليست موجهة إلى فرنسا، لأن عودة الانتداب مستحيلة، ولكنها صرخة غضب موجهة إلى حكام فقدوا وطنيتهم.
بيروت العصفورية: عن الطوائف والفرنسيين وعالم الكتاب بعد انفجار مرفأ المدينة
#Hangthem #beirutprotests #BeirutBlast pic.twitter.com/gIGmYsWQms
— Layal Abou Rahal (@LayalAFP) August 9, 2020
في الأيام الأخيرة انتشر تحليل يقول بأن لبنان هو بلد طائفي، وأن الطائفية هي التي تصنع كل شيء في هذا البلد، بدءاً بالسياسة، والشعارات، والموسيقى التي يستمع إليها سائقو التاكسي، كما أشرت لذلك في إحدى دراساتك، لكن سؤالي لك: كباحث انثربولوجي عمل لسبع سنوات في المدينة، ألا يوجد مدخل آخر مثلا لفهم الحياة اليومية في بيروت، يكون مكملاً أو موازياً للأدوات التحليلية الطائفية؟
فرانك ميرميه: خلال إقامتي في بيروت شاركت في الإشراف على مشروعين بحثيين يضمان باحثين لبنانيين وأجانب تناولا ذاكرة الحرب في لبنان 1975-1990 والزعماء السياسيين وأتباعهم، إضافة إلى دراساتي عن المجتمع الحضري. فقد تركت الحرب أثاراً كثيرة على العديد من المجالات، من الممارسات الاجتماعية الى العلاقات بالأماكن الحضرية مروراً بالتصورات للمستقبل.
أدّت النزاعات المسلحة التي رافقتها مذابح عدة عملت على تحويل التراب الوطني إلى بقع منعزلة وإلى تمزيق نسيجه الاجتماعي. فمن تداعيات هذه الحرب كما ظهرت في كتاب عن ذاكرة الحرب أن الذاكرة قد تجزأت حسب المناطق والانتماء الطائفي والسياسي إلى درجة أحياناً يُصعّب الاعتراف الآخر بأنه ضحية أيضاً، وكأن الضحايا الآخرين ليسوا أبرياء.
وعلاوة على ذلك فإن التوتر والإستقطبات السياسية الذي تبعت اغتيال رفيق الحريري والاغتيالات الأخرى التي تلتها إشتدت مع حرب 2006 ووصلت إلى ذروتها مع إجتياح بيروت الغربية من قبل حزب االله وحلفاءه في أيار 2008 دون أن ندخل في تفاصيل النزاع السياسي آنذاك، كما أنه مع إتفاقية مار مخايل في 2005 بين حزب الله وبين التيار الوطني الحر الذي قلب موازين القوى لصالح تحالف 8 أذار كان الشعور السائد أن تخندق الحياة السياسية اللبنانية قد رسّخ حدود هذه الأوطان المتعددة، وهو ما سماه حازم صاغية و بيسان الشيخ في كتابهما "شعوب الشعب اللبناني".
وفي كتابنا الجماعي عن الزعماء وأتباعهم في لبنان الذي نشر في 2012 حاولنا أن نحلل طبيعة هذه العلاقة بين الزعيم وجمهوره، فعندما لا يستطيع الزعيم أن يجسد حلم أتباعه للبنانهم المفترض، وليس قادراً أيضاً أن يحمي مجتمعه، أو يضمن له مكانة اجتماعية وسياسية في منظومة الحكم فتخف تدريجياً قوة الولاء له.
وطبق كثير من اللبنانيين نموذج وأساليب حياة غير طائفي كما أسسوا أماكن للتفاعل الاجتماعي ومؤسسات مدنية عابرة للطوائف، من مقاهي إلى جمعيات اجتماعية ومهنية إلى مؤسسات ثقافية. كما كشف الصراع حول الزواج المدني مدى تكاتف المنظومة الطائفية للحد من كل محاولة لتخفيف نفوذها على المجتمع. فإن كانت إتفاقية الطائف قد كرست النظام الطائفي مع بعض التعديلات، فكارثة بيروت التي تبعت الانهيار المصرفي والاقتصادي تظهر موته الرمزي، إذ أكدت شلل الدولة و إستحالة إصلاحها من داخل النظام. فيمكن القول إن انتفاضة 17 تشرين مثلت منعطفاً سياسياً واجتماعيا أساسياً لتجاوز الجدار الطائفي وطي صفحة الحرب بعد ثلاثين سنة من اتفاقية الطائف.
هناك من دع خلال مظاهرات تفجير بيروت لإخراج قوات حزب الله خارج المدينة؟ السوسيولوجية اللبنانية رنا حرب تقول في إحدى دراساتها بأن الضاحية الجنوبية لم تعد مقراً للحزب فحسب، بل هي بامتياز "حمى سياسي وهوي"، هل هذا يعني أن الحزب لم يعد مجرد كتلة عسكرية، بل كذلك مركزاً لجغرافية شيعية بالمدينة؟
فرانك ميرميه: يوجد أكثر من تحليل حول نفوذ حزب الله في الضاحية الجنوبية، فالبعض يصر على وصف هذه المنطقة الحضرية حسب منظور السيطرة الأمنية والعسكرية لحزب الله، الذي يصفُ في أدبياته الضاحية بأنها عاصمة المقاومة، فهي بالتأكيد معقل سياسي وعسكري لهذا التنظيم المسلح الذي جعل حقه لحمل السلاح مسألة وجودية وخط أحمر أمام خصومه.
كما أبرز بعض الباحثين الأخرين الخصائص الاجتماعية للضاحية الجنوبية وركزوا على أماكنها للهو والتفاعل الإجتماعي كاشفين كيف حلت بهذه المنطقة أساليب حياة عادية حتى ولو متأثرة بالجو الشيعي السائد فيها.
الكاتب اللبناني فوزي ذبيان وصف في روايته "أورويل في الضاحية" عالما أورويليا مشحوناً بملصقات الشهداء ومقروعاً بخطابات أمين عام حزب الله وإطلاق النار بالهواء للتعبير عن بهجة جمهوره. وقد ألح بعض الملاحظين اللبنانيين على الانزواء الإجتماعي لقسم من سكان الضاحية وقارنوه بحالة الإنفتاح و التعددية المفترضة للحياة الحضرية، فأظن أنه يجب أن نأخذ بعين الاعتبار الأوجه العديدة لهذه المنطقة والصور المسبقة السلبية الناتجة عن النظرة الدونية التي حلت بسكانها الشيعة الذين لجؤوا إلى الضاحية وافدين من الجنوب و البقاع خلال الحرب. فهذه المنطقة تعاني من نوع من التهميش الرمزي والإجتماعي على مستوى التصورات الاجتماعية للكثير من سكان بيروت وهذا بسبب مركزيتها السياسية و الطائفية التي حولتها إلى هدف رئيسي للقصف الإسرائيلي خلال حرب 2006
..............................
طالع أيضا
لهذا تأزم لبنان وانزلق إلى فوضى اقتصادية
أكثر من نصف سكان لبنان باتوا فقراء
رائحة بيروت - نفحة العشق ومتن الفكر وصوت فيروز
..............................
كتبت كثيراً عن بيروت والكتاب، سؤالي ما نتائج هذا التدمير، وما قبله في زمن كورونا على عالم الكتاب في بيروت؟ وهل نشهد اليوم في لبنان عملاً ثقافياً موازياً للعصفورية السياسية التي تعيشها البلاد؟
فرانك ميرميه: يجب أن نذكر أنّ بيروت لا تزال تمثل مركزاً ثقافياً مهماً على نطاق العالم العربي، فهي عاصمة للكتاب العربي، ومركزاً كبيراً للترجمة، ونقطة استقطاب كبرى لمؤسسات ثقافية عربية توجه أعمالها في جميع أنحاء العالم العربي، وهذا الدور مهدد بسبب الأزمة المصرفية والإقتصادية التي عقّدت عمل المؤسسات، وازداد الأمر صعوبة مع تفشي الجائحة، فكل هذه العوامل أدت إلى تقلص إمكانيات التنقلات والتحويلات البنكية، فكيف لناشر أن يعيش إذا اختفت معارض الكتاب في العواصم العربية والتي تمثل الفرصة الكبرى لتوزيع كتبه وبيعها. وتفاقمت الأمور بالنسبة للقطاع الثقافي بلبنان مع كارثة بيروت. ولنذكر مثال واحد وهو تدمير عدة مكتبات عامة كانت تمثل نافذة على عالم الكتاب لكثيرين من أطفال بيروت.
وخلال العقد الذي سبق اندلاع انتفاضة 17 تشرين تم تقليص نطاق التعبير الثقافي والنقدي، مع إغلاق العديد من المجلات والملاحق الصحفية الثقافية في لبنان. وشاهدنا تحولات في المشهد الإعلامي اللبناني والعربي، مع بروز النزاع السياسي بين قطر وبين المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والذي انعكس على المستوى الإعلامي والثقافي.
وخلال الشهر الأول من إنتفاضة 17تشرين دفعت الحاجة إلى تغطية الحدث من زاوية المحتجين إلى إنشاء بعض منصات إعلامية، ولكن الحجر الصحي وتدهور الأزمة المالية والإقتصادية خفف الحشد الشعبي حتى وقوع الإنفجار الكارثي الذي أنعش الإحتجاج من جديد.
إن الحروب التي دمرت لبنان وبيروت منذ 1975 تركت آثاراً كبيرة في الإنتاج الثقافي اللبناني وظهرت الكثير من الأعمال الأدبية والفنية والسينمائية التي تعالج الآثار التذكارية للصراعات، وستنعكس أيضاً كارثة 4 أب في بيروت على المستوى الثقافي لإيجاد معاني لهذا الحدث المذهل الذي يمثل عتبة تاريخية والذي أسقط الأقنعة.
حاوره محمد تركي الربيعو
حقوق النشر: قنطرة 2020
فرانك ميرميه أنثروبولوجي فرنسي، شغل منصب مدير المركز الفرنسي للدراسات اليمنية في صنعاء من 1991 إلى 1997، ولاحقاً أدار قسم الدراسات المعاصرة في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في بيروت من 2005 وحتى 2009. يعمل حاليا في تركيا على عدد من الدراسات حول المشهد الثقافي والإعلامي العربي في إسطنبول. ألف عدداً من الكتب الهامة، منها كتاب "شيخ الليل: أسواق صنعاء ومجتمعها"، "الكتاب والمدينة: بيروت والنشر العربي"، و"مدن متنازعة: بيروت وصنعاء وعدن".