في عين دوامة القانون الدولي
لقد أثار قرار جنوب إفريقيا بمقاضاة إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعيّة ردود فعل متباينة حول العالم. فالنقّاد يتهمون موقفها بالمسرحية والانتهازيّةالسياسية وازدواجية المعايير، بينما يشيد المؤيّن بموقفها المبدئيّ والواضح.
ولقد ألقت هذه الخطوة ببريتوريا بكل قوة في عين دوّامة القانون الدولي، الأمر الذي سيكون له تأثير كبير على علاقاتها الدولية. فلماذا اختارت جنوب إفريقيا هذا المسار على الرغم من المخاطر الدبلوماسية الجسيمة والمحتملة؟
من الناحية القانونية، يمكن لجنوب إفريقيا، باعتبارها دولة موقعة على اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية أن تلجأ إلى محكمة العدل الدولية في حال ارتأت أنّ الاتفاقية قد تم انتهاكها. علاوة على ذلك، فإنّ دعم بريتوريا للقضية الفلسطينية أمر متجذّر عميقا في السياسة الخارجية لجنوب إفريقيا. ففي تاريخ الفصل العنصري للبلاد، تُعتبر القضية الفلسطينية إلى حد كبير مقياسا لنضالها ضد سياسة القمع والاحتلال والعنف.
"اعتمادًا على مؤسسات دولية راسخة، تطالب حكومة جنوب إفريقيا محكمة العدل الدولية باتخاذ قرار بشأن ما إذا كانت هناك إبادة جماعية مستمرة في غزة، وبتوضح التزامات الدول جميعها بمنع الإبادة الجماعية. في حين أنّها في الوقت نفسه، تختبر شرعية هذا النظام وتماسكه"
وأيّدت وزيرة العلاقات الدولية والتعاون الدولي، ناليدي باندور، والتي بقيت في منصبها حتى الثلاثين من يونيو/حزيران موقف بلادها بقولها: "إنّ جنوب إفريقيا لديها حقّا مسؤولية أخلاقية في الوقوف دومًا إلى جانب المضطهدين، لأننا قادمون من تاريخ نضال، تاريخ السعي نحو الحرية، تاريخ الإيمان بأنّ كل إنسان يستحق الكرامة الإنسانية والعدالة والحرية؛ وهذا هو السبب الوحيد الذي دفعنا كجنوب إفريقيا لاتخاذ هذه الخطوة الكبيرة".
نقلة ذات وقع صاعق
وباستنادها إلى مؤسّسات دولية راسخة، فإنّ حكومة جنوب إفريقيا تطالب محكمة العدل الدولية باتخاذ قرار بشأن ما إذا كانت هناك إبادة جماعية مستمرة في غزة، وبتوضح التزامات الدول جميعها بمنع الإبادة الجماعية. في حين أنّها في الوقت نفسه، تختبر شرعية هذا النظام وتماسكه.
ويعني ذلك أنّ قيمة القضية لا تعتمد فقط على النتيجة القانونية فحسب، بل على إثارتها تساؤلات حول نزاهة النظام القضائي الدولي وحول مساءلته القانونية أيضًا.
ومن الواجب الإشادة بجنوب إفريقيا لاستخدامها أدوات قانونية دولية مشروعة من أجل دعم القضية الفلسطينية. غير أنّه لا يمكن تجاهل التضاربات والتناقضات الصارخة في سياسة بريتوريا الخارجية، خصوصًا إذا كانت الحكومة تعتقد أنّ طرح القضية أمام محكمة العدل الدولية من شأنه مساعدة البلاد على استعادة وإحياء سلطتها الأخلاقية على الساحة العالمية.
فمن فشل البلاد عام 2015 في تلبية التزاماتها القانونية الدولية والمحلية باعتقال الرئيس السوداني السابق عمر البشير، وصولاً إلى ردة فعلها المرتبكة تجاه الغزو الروسي لأوكرانيا، فهناك العديد من حالات الانتهاك للقانون الدولي وإساءة استخدام السلطة من قبل دول أخرى لم تلق ردة فعل مماثلة من قبل بريتوريا.
"فمن فشل البلاد عام 2015 في تلبية التزاماتها القانونية الدولية والمحلية باعتقال الرئيس السوداني السابق عمر البشير، وصولاً ردة فعلها المرتبكة تجاه الغزو الروسي لأوكرانيا، فهناك العديد من حالات الانتهاك للقانون الدولي وإساءة استخدام السلطة من قبل دول أخرى لم تلق ردة فعل مماثلة من قبل بريتوريا".
ويزداد الوضع تعقيدًا بفعل العلاقة المتوترة للبلاد مع المحكمة الجنائية الدولية، إذ هدد حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم بالانسحاب منها - وهو اقتراح تمّ التراجع عنه لاحقًا. كما أن هفوات السياسة الخارجيّة، مثل التعامل غير الموفق مع قضية "ليدي آر"، تعرّض البلاد لخطر خسارة رأس المال الأخلاقي والمالي العالمي.
تتعلق حادثة "ليدي آر" برسو سفينة الشحن الروسية "ليدي آر" الخاضعة للعقوبات في قاعدة سيمونز تاون البحرية في جنوب إفريقيا إبان ديسمبر/كانون الأول 2022، وما ترتب على ذلك من تداعيات دبلوماسية. (الحادثة مثيرة للجدل بسبب السرية التي أحاطت برسو السفينة وادعاء السفير الأمريكي في جنوب إفريقيا بأنّ السفينة كانت محملة بمعدات عسكرية جنوب إفريقيّة من أجل استخدامها في الغزو الروسي لأوكرانيا).
"ففي خضم التنافس الجيوسياسي المتزايد، حاولت جنوب إفريقيا أن تموضع نفسها صوتًا رائدًا لدول الجنوب العالمي. وكانت الاستضافة الناجحة لقمة البريكس في العام الماضي خطوة بارزة في اتجاه نظام سياسي واقتصادي عالمي أكثر عدلاً وتوازنًا".
ولمن المنصف القول إنّ العلاقات الدولية لأغلب البلدان مليئة بالتناقضات، وإنّ فن السياسة الخارجية يكمن في السير بين هذه التناقضات بطريقة تخدم المصلحة الوطنية المحددة. فقد تكون هذه مهمة كبيرة بالنسبة لجنوب إفريقيا، إذا ما نظرنا إلى ردود الفعل الدولية المنقسمة حيال الدعوى المقدمة ضد إسرائيل.
من زاوية ما يمكن تقويم موقف بريتوريا بشكل إيجابي على المستوى الدولي. ففي خضم التنافس الجيوسياسي المتزايد، حاولت جنوب إفريقيا أن تموضع نفسها صوتًا رائدًا لدول الجنوب العالمي. وكانت الاستضافة الناجحة لقمة البريكس في العام الماضي خطوة بارزة في اتجاه نظام سياسي واقتصادي عالمي أكثر عدلاً وتوازنًا.
لقد حظي قرار استخدام محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة للدفاع عن قضيّة فلسطين بتأييد واسع في بلدان الجنوب العالمي، وزاد من الضغط لتحقيق وقف لإطلاق النار. وبعد الإجراء الذي اتخذته جنوب إفريقيا، قامت إندونيسيا بتقديم دعوى منفصلة ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، في حين تبعتها تشيلي والمكسيك بإحالة إسرائيل إلى المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب مزعومة. وفي هذا الشهر، أصدرت قمة حركة عدم الانحياز قرارًا يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار.
قد تترسخ مواقف الحكومة بشكل أكبر تجاه جنوب إفريقيا في أعقاب القرار المرتقب لمحكمة العدل الدولية بشأن التدابير المؤقتة، وفي السنوات القادمة عندما يتم توقع صدور قرار بشأن حيثية قضية الإبادة الجماعية.
ومن الممكن أن تترسخ مواقف الحكومة تجاه جنوب إفريقيا بعد أن تقوم محكمة العدل الدولية بإصدار الحكم في التدابير المؤقتة.
ومن شأن هذه الخطوة أن تشكّل اختبارًا للعلاقات الثنائية بين بريتوريا والعديد من الشركاء الغربيين الرئيسيين الذين يعارضون هذه القضية؛ فعلى وجه الخصوص، رفضت الولايات المتحدة الأمريكية الدعوى ووصفتها بأنها "صرف نظر" لا أساس له من الصحة".
تناقضات السياسة الخارجية
ومن أجل معالجة تناقضات جنوب إفريقيا في السياسة الخارجية وعلاقاتها مع الدول الرائدة بشكل أفضل، يتعين على بريتوريا الإدراك أنّها تقع إلى حد كبير خارج الشبكة المعقدة للمصالح الجيوسياسية والأمنية التي تهيمن على الشرق الأوسط. ويعني هذا الأمر أنّ جنوب إفريقيا خارج دائرة التأثر بالمخاوف المباشرة للقوى الإقليمية والعظمى التي لديها مصلحة شخصية في مخارج النزاع.
"إنّ جنوب إفريقيا بحاجة الآن إلى مواقف سياسية خارجية واضحة لا لبس فيها تجاه حركة حماس وإسرائيل وإيران والولايات المتحدة وحلفائها - وبأفعال تتماشى مع الخطاب".
وفي حين أن هذه المسافة عن الشرق الأوسط تمنح جنوب إفريقيا فرصة فريدة لاتباع نهج أساسي معياري بشأن القضيّة الفلسطينية، فإنّه لا يزال يتعين على قيادة البلاد أن تنخرط في السياسة الواقعية التي تقف على المحك.
إنّ جنوب إفريقيا بحاجة الآن إلى مواقف سياسية خارجية واضحة لا لبس فيها تجاه حركة حماس وإسرائيل وإيران والولايات المتحدة وحلفائها - وبأفعال تتماشى مع الخطاب.
يتطلب هذا الأمر سياسة خارجية تفهم الخطاب المتعلق بالجيوسياسة والتطرف العنيف والأصولية الدينية، وكذلك تفهم الخطاب المتعلّق بالأممية التقدمية والاضطهاد والاحتلال.
وبينما ينتظر العالم قرار محكمة العدل الدولية، فإنّ العلاقات الدولية لجنوب إفريقيا ستحتاج إلى إعادة ضبط دقيقة، بغض النظر عن نتيجة هذا القرار. وستكون الطريقة التي تستفيد فيها بريتوريا من الزخم الحاليّ اختبارًا حاسمًا للحكومة الجديدة في البلاد.
© Qantara.de/ar 2024
روناك غوبالداس، اقتصادي سياسي وكاتب ومحاضر جامعي. يتمحور عمله على التقاطع بين السياسة والاقتصاد والمؤسسات في إفريقيا. يشغل حاليًا منصب مدير شركة سيغنال ريسك الاستشارية لإدارة المخاطر، بالإضافة إلى كونه عضوا في كلية إدارة الأعمال (GIBS) لجنوب إفريقيا ومشارك في تأسيس "مايند فلوكس تراينينغ" التي تهدف إلى توفير التدريب للكفاءات الممتازة لصالح القارة الإفريقية.
بريال سينغ، باحث بارز في معهد جنوب إفريقيا للدراسات الأمنية (ISS) في بريتوريا. ويعزز هذا المعهد "الأمن من خلال البحوث المهمة والمشورة السياسية الاختصاصية وبناء القدرات". يستند هذا النص إلى صيغة منشورة على الموقع الالكتروني لمعهد الدراسات الأمنية.