رواية بوليسية في إسطنبول العثمانية
للتخلص من الخدمة العسكرية انتقل اورهان باموك وهو في العشرين من عمره من دراسة الهندسة المعمارية إلى الصحافة، وأقام في السنوات الثماني التالية مع أمه في اسطنبول وألف عدة روايات - دون أن يستطيع نشر حتى سطر واحد. "لم أفعل شيئا آخر غير الكتابة والقراءة. لم يكن لدي أصدقاء، يروي باموك متذكرا. "ثماني سنوات دون مشاركة في الحياة من حولي، هذا يعني، دون أن أعيش، قضيتها تحت سقف واحد مع أمي دون أن أكسب فلسا واحدا."
لقد تغير الكثير بالنسبة للرجل الذي يبلغ الآن الخمسين من عمره. خرج من العزلة التي اختارها بنفسه وأصبح اليوم إلى جانب يشار كمال من أهم كتاب بلاده. وهو يتمتع بشعبية هائلة ويستطيع أن يقول في النقل التلفزيوني الحي أي شيء تقريبا. يميل باموك إلى استخدام النقل الحي، لأنه يبث دون أن يخضع للرقابة. لقد أظهر شجاعة حين أعلن موقفه بشأن قضية سلمان رشدي، ومر نقده الحاد لسياسة الحكومة التركية بشأن الأكراد دون أن يلحق به ضررا. أما أعلى الجوائز الثقافية التي أرادت الحكومة منحها له رغم ذلك فقد رفضها رفضا قاطعا. وعلى العكس من يشار كمال الذي ينتمي إلى جيل أكبر سنا، ويروي قصصا أقرب إلى الأساطير تمتد جذورها في تقاليد الرواية الشفهية، ينتمي باموك إلى تقاليد الكتاب الثقافية ذات الطابع المتمدن. "باموك متشبع بالحداثة الأوروبية وما بعد الحداثة"، كما تؤكد النويه تسوريشه تسايتونغ. وقد كتب جون أبدايك في عرض لكتاب "إسمي أحمر" في جريدة نيويورك "إنه من الكتاب الأكثر مبيعا، ولكنه في نفس الوقت كاتب طليعي".
النجاح ثمرة عمل شاق
لكن النجاح ليس ثمرة الإلهام وحده، وإنما أيضا العمل الشاق. يقول باموك في مقابلة لمجلة الناشر الاسبوعية إنه كان يعمل في كتبه من الساعة الثانية بعد الظهر حتى الثامنة مساء ومن الحادية عشرة ليلا حتى الرابعة صباحا. نشر حتى الآن خمس روايات. شبهت روايته الأولى "جودت بيك وأبناؤه" برواية توماس مان "بودنبروكس".وذكّرت الثانية "البيت الهادىء"، وهي رواية عائلية متعددة الآفاق،النقاد بفرجينيا وولف ووليم فوكنر. توضع رواياته الأخرى أيضا في مقارنات مع كتاب غربيين مثل كالفينو وجويس وكافكا. وهذه المقارنات لا تصدر بالضرورة عن عدم القدرة على التعرف على الصوت الأدبي الخاص المتفرد - فاورهان مطلع بالفعل اطلاعا حميما على الرواية الحديثة. وهو في ذلك يجيد استخدام وتنويع الأشكال الأدبية، ليكرس بها نفسه للموضوع الذي يستطيع أن يجعله بذكاء حتى في ردائه التاريخي ذا صلة بالحاضر دون أن يبدو ملفقا.
استخدم باموك في روايته الأخيرة "إسمي أحمر"، التي منح عنها منذ وقت قصير في دبلن جائزة امباك الأدبية التي تبلغ قيمتها 100000 يورو ، الخلفية التاريخية للتأمل حول الفن، الحب، الفناء والسلطة السياسية. يتقرر عام 1591 في اسطنبول، وفي إطار السنة الألفية للهجرة، انجاز كتاب من طراز أعمال الأساتذة الإفرنج، لتعرض فيه العظمة الهائلة للعثمانيين وسلطة خلفائهم. ولكن لأنه ممنوع وفق التقاليد الإسلامية أن يعلن الإنسان نفسه موضوعا، حيث يوقظ بذلك إعجاب الإنسان بنفسه، فيضع نفسه في محور الخليقة، يشعر أحد الرسامين المشاركين في الكتاب بالقلق ويريد الانسحاب ويعرّض بذلك المشروع بأكمله للخطر.
يفتتح الكتاب بروايته: يتحدث الميت، الذي قتل للتو من عمق البئر الذي ألقي فيه، إلى القراء. يعير القاتل أيضا صوته لعدة فصول - وفوق ذلك في دور مزدوج: مرة باعتباره القاتل الحقيقي، ثم كواحد من الثلاثة المشتبه بهم، بصورة تجعل هوية القاتل غير واضحة حتى النهاية. مثل عصا في سباق التتابع تستأنف القصة من قبل رواة مختلفين.
وتتضمن أصوات الرواة صوت كلب أيضا، شجرة مرسومة وحيدة، وقطعة نقود، صوت الشيطان واللون الأحمر الذي منح الرواية عنوانها. لا ينجح باموك في أن يجعل الصور والنقود والألوان تنطق وحسب، وإنما ينسج أيضا الموضوعات الكبيرة في روايته بأناقة مرحة. فهو مثلا يدع مخنثا يتحدث عن أسباب التفوق العثماني على بلاد الإفرنج الواقعة في وسط اوروبا: لأن نساء الإفرنج يتنزهن في المدن ولا يكشفن عن وجوههن فقط وإنما أيضا عن مفاتنهن، شعورهن البراقة، رقابهن، أذرعهن، أعناقهن الجميلة، أجل، وإذا صدق ما يروى، حتى جزءا من سيقانهن الجميلة، يواجه الرجال على الدوام الانتصاب، فيستديرون لذلك في حياء وخجل ولا يكادون يستطيعون المشي، وهو ما أدى بالطبع إلى شل المجتمع بأكمله. هذا هو السبب في أن الإفرنج الكفار يفقدون لصالحنا نحن العثمانيين كل يوم حصنا أخر."
لا يمكن اعتبار أي من روايات باموك سياسية، ومع ذلك يرتبط الفن والسياسة في عالمه الروائي ارتباطا فنيا. لا يؤيد باموك مفهوم بريشت في أن من يريد أن يعرف الميول السياسية لمؤلف ما فمن الأفضل له أن يقرأ كتبه. فحين يريد أن يتحدث في السياسة فإنه لا يفعل ذلك كمؤلف أو فنان وإنما كمواطن لبلاده. وقد اتخذ باموك دائما موقفا علنيا. وكثيرا ما ظهر خلال ذلك كوسيط بين الشرق والغرب، مؤكدا على الدوام أن كلا من الشرق والغرب يمتلك نفس القدر من المصطلحات المحددة عن بعضهما، وجاهدا على الدوام أن ينظم هذه الصور ذات البعد الواحد، مُظهرا تعقيداتها.
الغرب لا يملك تصورا عن الشعور بالإذلال
عاش باموك ثلاث سنوات في نيويورك حين كانت زوجته تعد يومذاك اطروحة الدكتوراه في جامعة كولومبيا في هارلم. حين انهار مركز التجارة العالمي كان يجلس في مقهى في اسطنبول. في مقاله "تأجيلات يائسة"، الذي نشر في جريدة زود دويتشه تسايتونغ في نفس الشهر، والذي استشهد به كثيرا، يصف باموك رد الفعل في محيطه: استنكار للجريمة، غير أنه متبوع دائما بـ "ولكن" ونقد خجل أو غاضب لدور أميركا في السياسة العالمية.
في المقال يؤكد باموك خلال ذلك أن الهدف ليس اعتبار هذا الاستياء محقا، إلا أنه لا بد من القيام بمحاولة لفهم هذا الاستياء وتفسيره. "لا يكاد يوجد لدى الغرب مع الأسف أي تصور عن الشعور بالإذلال، الذي تعاني منه أغلبية سكان العالم ويكون عليها أن تتغلب عليه دون أن تفقد رشدها أو أن تنضم إلى الإرهابيين والقوميين المتطرفين أوالأصوليين. (...) المشكلة هي الوضع النفسي للفقراء، المهانين والأغلبية التي تعتبر على غير حق على الدوام، والتي لا تعيش في العالم الغربي."
اورهان باموك كاتب أوربي أيضا
بعد أن كان باموك يشعر فترة طويلة بالخيبة من أن المرء في العالم الغربي لم ينتبه إليه إلا بسبب مواقفه السياسية بالدرجة الأولى، تغلب الآن على هذه المرحلة. كتبت جريدة فرانكفورتر الغماينة منذ وقت قصير أن "باموك يري أوروبا ما هو القص". يرى توماس شتاينفيلد في محرر صحيفة زوددويتشه تسايتونغ إن باموك وصل باموك إلى أوروبا منذ وقت طويل: "نرى أنه يقف في بداية نجاح كبير".
والنجاح الفني الذي أحرزه اورهان باموك يمنحه سلطة أخلاقية من ناحية ويقوي بهذا إصغاء الرأي العام الغربي إليه، ومن ناحية أخرى لا ينبغي التقليل من شأن الأهمية السياسية لمثل هذا النجاح. فالاحتفاء بفنان تركي في اوروبا أيضا يقرب بلاده بأكملهامن القارة، لأن الثقافة المؤثرة تحاول دائما الاستيلاء على مثل هذا النجاح. يري اورهان باموك أن الإلهام المبدع لا يجب أن ينتقل من الغرب إلى الشرق فقط . فمن الممكن أن ينساب في المستقبل من خلال ذلك في كلا الاتجاهين بعوائق أقل مما هو عليه الحال حتى الآن.
لويس كروب
قنطرة 2003
ترجمة: سالمة صالح
صدرت رواية "إسمي أحمر" باللغة العربية في طبعتين،عن دار المدى في دمشق وعن دار فصلت في حلب وستصدر قريبا رواية باموك الحديثة بعنوان "ثلج" عن منشورات الجمل في كولونيا