الجهاد "مَخرج مشرِّف" لصغار المجرمين من الإجرام
الشاب التونسي أنيس العامري، منفِّذُ هجوم برلين، كان في تونس مجرمًا صغيرًا، وفقط في أوروبا أصبح متطرِّفًا على ما يبدو. فهل هذا المسار نمطي مألوف؟
حمزة المؤدّب: حالات مثل أنيس العامري أو محمد لحويج بوهلال، مُنفِّذ هجوم نيس 2016، تكشف عن الكثير، لأنَّ هؤلاء الأشخاص لم تكن لهم أية علاقة مع إرهابيين في تونس. وتطرُّفهم حدث في أوروبا. وهذا التطوُّر يجبرنا على أن ننظر إلى التطرُّف العنيف في جميع تعقيداته. فهنا لا يتعلق الأمر فقط بأشخاص أصبحوا متطرِّفين في تونس وجرائمهم في أوروبا جاءت كاستمرار لهذا التطرُّف، بل إنَّ الأمر يتعلق بأشخاص لهم مسارات وطرق حياة مختلفة تمامًا، لم تكن لديهم في البداية أية علاقة بالإرهاب، ولكنهم فيما بعد انزلقوا إلى العنف الجهادي.
وفي ذلك تلعب بعض المدن الأوروبية دورًا خاصًا، مثل مدينة ميلانو الإيطالية، حيث توجد منذ التسعينيات شبكات كبيرة من الجهاديين التونسيين. وأنيس العامري كان هو الآخر هناك ومن ثم عاد إلى هناك أيضًا بعد الهجوم. وكذلك توجد في كلّ من بلجيكا وفرنسا شبكات منذ فترة طويلة. ومسارات منفِّذي هذه الهجمات وطرق حياتهم المعولمة تُظهر أنَّ التطرُّف ظاهرة عالمية.
حتى وإن كانت هذه ظاهرة عالمية: فإنَّ عدد التونسيين المرتفع في هذه الشبكات ملفت للانتباه. فكيف تفسِّر ذلك؟
حمزة المؤدّب: من أجل فهم هذه الظاهرة، يجب علينا أن ننظر قليلاً إلى الماضي في العقد الأوَّل ابتداءً من عام 2000، أي العقد الأخير من حكم زين العابدين بن علي. في تلك الفترة حدث تطوُّران مهمان. أولاً: لقد وقعت سلسلة من الأحداث، التي أفضت إلى تسييس الشباب التونسي: الانتفاضة الفلسطينية الثانية في عام 2002 والحرب بين إسرائيل وحزب الله اللبناني في عام 2006 وكذلك حرب غزة في عام 2008 - مع كلِّ الأهمية التي تمثِّلها فلسطين في معاداة الإمبريالية في المنطقة. وكذلك قد كان غزو العراق لحظة مهمة، لأنَّ عدة مئات من الجهاديين التونسيين قد ذهبوا في تلك الأيَّام إلى العراق، على الرغم من القمع وحضور الشرطة القوي لدى نظام زين العابدين بن علي.
وهذه الدينامية الأولى رافقتها دينامية ثانية، يجب ألَّا ننساها: فهذا العقد كان عقد الأزمة الاجتماعية الكبيرة مع ارتفاع معدَّلات البطالة، خاصة بين خرّيجي الجامعات. وكان كذلك عقد الاحتجاجات الاجتماعية، التي تجاوز انتشارها المعارضة السياسية التقليدية، وذلك لأنَّ النظام لم يكن قادرًا على منح الشباب آفاقًا مستقبلية.
وبالتالي فقد كان هذا عقد الأزمة الاجتماعية الكبيرة. وقد رَدَّ النظام على هذه الأزمة بالقمع. وتمت مكافحة السلفية المتنامية بين الشباب بقانون مكافحة الإرهاب من سنة 2003: فقد تمت إدانة ألفي شخص على الأقل ومكثوا في السجن. وتحوَّلت السجون إلى بؤر التطرُّف. وهناك كان يتم تجنيد جهاديين جدد، بينما كان يزيد تطرُّف الآخرين أكثر. وهكذا فقد تحوَّلت السجون إلى نقطة التقاء لمختلف الأجيال، الذين لم يكونوا يعرفون بعضهم قبل ذلك قطّ وربما لم يكونوا سيتعرَّفون ببعضهم في الأحوال العادية مطلقًا.
وبعد الثورة في عام 2011، تم الإفراج بموجب عفو عام عن آلاف الجهاديين. وفي الوقت نفسه بدأت النزاعات في ليبيا وفي سوريا. وبالإضافة إلى ذلك يجب علينا ألاَّ ننسى أنَّ الدولة قد فقدت شرعيتها وسيطرتها على المساجد من خلال الثورة في نهاية عام 2010 وبداية عام 2011.
وبناءً على ذلك فإنَّ الدولة ليست قادرة على تقديم إجابة لأزمات الشباب التونسي الروحية. فعجلة الرقي الاجتماعي لم تعد تدور. والناس يدرسون ليصبحوا عاطلين عن العمل. وهم عاطلون عن العمل لأنَّهم غير قادرين على العمل، وذلك بسبب عدم وجود توافق مطلق بين سوق العمل والجامعات. لم يعد يوجد أي شيء يحرِّك الشباب ويمنحهم الأمل. أظهر وهنا نشأ جيل "اللامستقبل". وجيل "اللامستقبل" هذا اختار عنف "اللامستقبل" وفقاً لعبارة أوليفييه روا - ووقع في العدمية، في أعمال عنف ضدَّ المجتمع والدولة.
هذا يعني أنَّ الدين هو في الحقيقة مجرَّد وسيلة من أجل إعطاء هذه الأزمة معنى؟
حمزة المؤدّب: تمامًا، ففي العادة التطرُّف ليس نتيجة الالتزام الطويل بالدين. فالبعض يقعون في التطرّف العنيف خلال بضعة أشهر. ولا توجد لديهم معرفة كافية بالدين، يمكن أن تُفسِّر كيف يمكنهم أن يصلوا إلى مثل هذه الممارسة الدينية العنيفة. وكثيرًا ما يكون هناك أشخاص من صغار المجرمين، الذين ينزلقون، وبالنسبة لهم لا يكون الجهاد إلاَّ مجرَّد محاولة لإيجاد مخرج مشرِّف من حياة الإجرام. وهذا يتحوَّل إلى شبه مسار كلاسيكي، ولهذا السبب من المهم للغاية أن نفهم أزمة الشباب التونسي.
ثمانون في المائة من المحكومين في تونس بسبب جرائم إرهابية تتراوح أعمارهم بين ثمانية عشر عامًا وأربعة وثلاثين عامًا. وجيل الشباب لم يعد أمامه أفق للرقي الاجتماعي مثل آبائهم. ودولة بن علي الديكتاتورية كانت دولة بوليسية، لم يكن فيها أي شيء لملء الفراغ الروحي. وهكذا فقد تمكَّنت العقيدة الجهادية من الانتشار بسهولة. وبالتالي فنحن نتعامل مع تفسير في غاية العنف للإسلام، لا يتم تقديره على ما هو عليه، بل على ما يَسمح به للناس، لأنَّه يُضفي على العنف طابع الشرعية ويجعل حالة ضحاياه ذات قدسية.
إذا أعلنت الحكومة التونسية الآن عن أنَّها ستعمل بكلِّ قوة ضدَّ العائدين وتُهدِّدهم بالسجن فترات طويلة، فهل ستكرِّر بذلك أخطاء الماضي؟
حمزة المؤدّب: هذه هي بالذات مشكلة تونس. وهنا يتكوَّن لدى المرء انطباعٌ بأنَّ الحكَّام في تونس لم يتعلَّموا أي شيء. السجن لا يمكن أن يكون سوى جزء من حلّ شامل. أمَّا مَنْ ارتكب جريمة وشارك في أعمال العنف، فيجب أن تتم إدانته بطبيعة الحال. ولكن يجب ألاَّ يكون هذا كلَّ شيء. لقد حان الوقت ليفهم الحكَّام أنَّ الشباب بحاجة لقرارات: خطة مناسبة لخلق فرص العمل وآفاق مستقبلية وإصلاحات ومراكز شبابية وثقافية مناسبة.
وبالإضافة إلى ذلك توجد حاجة ماسة إلى إجراء إصلاحات في المجال الديني. فالكثيرون من الأئمة التونسيون تتجاوز أعمارهم ستين عامًا. بالتالي هم بعيدون عن مشاغل وواقع الشباب وفقط عشرة في المائة منهم لديهم شهادات جامعية دينية ويمكنهم إنتاج خطاب بديل وقادر على مواجهة خطاب التطرُّف.
إذًا كيف يمكن أن يبدو شكل التعامل السليم مع العائدين إلى تونس؟
حمزة المؤدّب: يوجد أشخاص ارتكبوا جرائم أو كانوا يشغلون مناصب في الجماعات المتطرِّفة. وهؤلاء الأشخاص يجب تحديدهم وتقديمهم إلى العدالة. وفي حالة الأشخاص الذين يتم ترحيلهم من أوروبا، يجب تحسين التعاون القضائي. كيف يقع التعامل مع المتطرّفين داخل السجون؟ ماذا نفعل مع حاملي الجنسية المزدوجة؟ وإلى أين يتم ترحيلهم؟ كلّ هذه التساؤلات يجب مناقشتها.
كيف تفسِّر النقاش الحاد الدائر حاليًا في تونس حول موضوع العائدين؟
حمزة المؤدّب: لا يوجد توافق في الآراء على كيفية التعامل مع هذه المشكلة. وعندما يدور الحديث حول دور الإسلام السياسي، يحدث إستقطاب داخل المجتمع. وعلاوة على ذلك فإنَّ النقاش يُركِّز دائمًا على الجوانب الأمنية. يقال إن العائدين هم مجرمون وإرهابيون، ولذلك فمن الأفضل أن يبقوا بعيدين، وهكذا يختار المرء حلاً مريحًا.
غير أنَّ مثل هذه المشكلة العالمية المعقَّدة تحتاج حلاً دوليًا. لا يمكن ببساطة القبول بعودة صغار المجرمين من دون مراقبتهم والتفكير في آليات لإدماجهم. فإمَّا أنَّهم سيخلقون هنا المشاكل أو سيحاولون العودة إلى أوروبا. يجب على المرء إيجاد حلول عالمية للمشاكل العالمية وتعزيز التعاون بين الدول. وإلاَّ فستكون لدينا قريبًا قنابل بشرية موقوتة، ستنفجر إمَّا هنا أو في مكان آخر.
هل يوجد لديك انطباعٌ بأنَّ هناك أصواتًا مثل صوتك لا تزال مسموعة في هذا النقاش الحاد؟
حمزة المؤدّب: للأسف، لا. فالنقاش مُسْتَقطب إلى حدّ يحول دون ذلك. ومنذ بداية الثورة أصبح لدينا رئيس وزراء سابع، ومتوسط عمر أية حكومة أقل من سنة واحدة. ومشكلة التطرّف العنيف لن تتم تسويتها، من خلال ترك المجتمع لشياطينه. إنَّ مَنْ يحكم الآن في تونس يقوم فقط بإدارة الوضع الراهن. و لا يقوم بإيجاد حلول أو على الأقلّ خلق حوار مجتمعي لإيجاد توافقات وحلول وبالتّالي يبقى الوضع هشًا، لأنَّنا ندور دائمًا في نفس الدائرة.
حاورته: سارة ميرش
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2017
الخبير السياسي التونسي حمزة المؤدّب هو زميل باحث في معهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا.