مفتاح من أجل تجاوز الماضي
قبل عشر سنوات من الآن، كان العالم يتابع بذهول وخوف استيلاء ما يسمّى بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على مدينة الموصل شمال العراق. ومن بين الصور العديدة المثيرة للقلق التي تلت العملية، لم يُصب الرأي العام العالمي بهذا الحد من الصدمة بقدر ما صدمه الهجوم على التراث الثقافي الزاخر والمتنوع للموصل. فلقد عرض المسلّحون على شبكة الإنترنت أفلامًا دعائية معدّة باتقان توثّق هجماتهم على أماكن، مثل متحف الموصل، ويظهر فيها عناصر ملتحون من تنظيم الدولة ينهالون بالمطارق الثقيلة على تماثيل وتحف أثرية فريدة ويحطّمونها.
في أبريل / نيسان من عام 2015، تعرّضت مدينة الحضر، المدرجة على قائمة التراث الثقافي العالمي لليونسكو، لهجوم من قبل مقاتلي تنظيم "داعش". هذه المدينة التي وقفت في وجه غزو الإمبراطور الروماني تراجان عام 116 بعد الميلاد، استخدمت فيها المجموعة المهاجمة بنادق آلية للتصويب على أسوار المدينة القديمة ونقوشها البارزة.
وفي موقع المدينة التاريخية نمرود، العاصمة السابقة للإمبراطورية الآشورية وموطن بعض الاكتشافات الحديثة للفن القديم في بلاد الرافدين، قام مقاتلو تنظيم "داعش" بتحطيم تماثيل الثيران المجنّحة التي كانت تزيّن أبواب القصر، ونهبوا ما استطاعوا إليه سبيلاً قبل أن يقوموا بإحداث تفجير هائل قذف بسحابة بنية ضخمة إلى السماء، ودمّر جزءًا كبيرًا من الموقع وحوّله إلى ركام تام.
لقد ضاعت اليوم هذه المعالم الأثرية من تاريخنا الإنساني المشترك. بالإضافة إلى هذه الأمثلة البارزة، قام تنظيم "داعش" الإرهابي بتدمير عدد لا يحصى من المساجد والكنائس والمزارات والأضرحة والمباني التاريخية والمكتبات والأعمال الفنية والقطع الأثرية - كل ذلك بهدف إنشاء دولة متجانسة دينيًا وأيديولوجيًا.
تأثيرات عميقة للدمار
من الأهمية بمكان، في الذكرى السنوية العاشرة لوقوع التدمير، التفكير والتأمل في التأثيرات المستمرة على السكان المحليين والاعتراف بالجهود التي بذلوها للمضي قدمًا وإعادة بناء تراثهم.
إنّها لمهمّة صعبة، ليس فقط لفهم الدوافع المعقدة التي تقود مرتكبي مثل هذه الأعمال التدميرية، ولكن أيضًا لتقويم التداعيات العميقة التي تخلفها هذه الأفعال على أولئك الذين نجوا منها. التقيت في إطار بحثي العلمي مع أشخاص من الأقليتين الإيزيدية والمسيحية وأجريت مقابلات معهم، وهم الذين تعرضوا بشكل مباشر للاضطهاد الشديد من قبل تنظيم "داعش" الإرهابي وتأثروا بشكل حاد بفعل تدمير التراث الثقافي.
وليس من المستغرب أنّ بعض هؤلاء الشهود أعربوا عن ردود فعل عاطفية جارفة تجاه تدمير تراثهم، وذكروا كيف أنّهم بكوا وشعروا بالمرض. لقد شهد العديد منهم تدمير التراث وعانوا منه كنوع من الصدمة أو سلسلة من الأحداث المزعجة جدًا لدرجة أنّها زعزعت ذكرياتهم الشخصية وصورة الذات لديهم.
وقد رأى آخرون أنّ تدمير التراث الثقافي كان جزءًا واعيًا ومتعمدًا من حملة الإبادة الجماعية التي شنّها تنظيم "داعش" والتي كانت تهدف إلى تطهير البلاد من الأقليات العرقية والدينية. وكانت الهجمات على المواقع التراثية تمثّل الهجمات على الناس أنفسهم، وتدميرها يرمز إلى تلك النية.
وقد عبّر شخص إيزيدي تحدثتُ معه عن ذلك بقوله: إنّ الهجمات على المواقع التراثية الأثرية "هي جزء من هدفهم في الإبادة الثقافية. كانوا يريدون تدمير كل شيء يربطنا بثقافتنا وتراثنا".
وأضاف قائلاً: "إنّ تنظيم "داعش" كان يدرك بالضبط ما كان يقوم به. لقد اغتصبوا النساء، أصابوا المجتمع بالصدمة، أجبروا الناس على اعتناق الإسلام لكي يفقدوا إيمانهم. وفوق ذلك فجّروا مواقع هؤلاء الناس الدينية ومزاراتهم المقدسة حتى لا يكون لديهم مكان للعبادة بعد ذلك".
غير أنّه وفي خضم هذا اليأس، يلمع بصيص الأمل بين الحين والآخر. فمجموعة من الأشخاص الذين أجريت معهم مقابلات في قرية بعشيقة وقرية بحزاني صرّحوا بحمية واندفاع عن مبادرة أطلقوها بعد فترة وجيزة من تحرير بلداتهم من سيطرة "داعش" في عام 2017.
إعادة بناء الحياة كفعل صمود وتحد
لقد اجتمع رجال ونساء، شيب وشباب، إيزيديون ومسيحيون وتكاتفوا معًا من أجل إعادة بناء مدنهم، وخاصة الأماكن التي تعد الأكثر قدسية بالنسبة لهم.
تحدثت هذه المجموعة، التي جمعتها المآسي والدمار، عن سفرها مع بعضها البعض في الحافلات وزيارتها لقرى الآخرين للمرة الأولى. لقد قامت بتغطية الرسومات والعبارات الجهادية التي خلّفها مقاتلو "داعش" بألوان زاهية ورسائل أمل. كما قامت بإزالة الأنقاض واستبدلتها، حيثما أمكن ذلك، بأحواض زهور.
إلا أنّ الأهم من ذلك، أنّ هؤلاء عملوا كمجموعة متماسكة لجمع الأموال أولاً ثم إعادة بناء ما في وسعهم فعليًا. وقد استغرقت العملية وقتًا طويلاً وجهدًا شاقا، غير أنّهم أعادوا النبض إلى الحياة الدينية والثقافية في مناطقهم الصغيرة بشكل تدريجي. فقامت المعابد والكنائس من تحت الرماد، وتمكنوا مجددًا من ممارسة عاداتهم وطقوسهم الدينية.
عادت الاحتفالات، وأُقيمت مهرجانات وحفلات موسيقية متواضعة، وعاد الناس لإجراء زواجهم وفقًا لتقاليدهم الدينية. ومع عودة بوادر الحياة إلى الظهور، تشجع المزيد من أفراد المجتمع وتقاطروا للمساعدة؛ وبعضهم استقر بشكل دائم.
ثم جاء آخرون للزيارة، والبعض للتفرج على المشهد، والبعض الآخر للتعبير عن الأسف والأسى للمعاناة المشتركة، وآخرون لمعرفة شيء جديد عن أبناء وطنهم. لقد كان هذا الفعل هو التحدي المطلق. كان ذلك تظاهرة استثنائية للمقاومة الشعبية. لم ينتصر تنظيم "داعش"، ولكن ولو أنّ الحياة لن تعود قطعًا كما كانت، غير أنّها ستستمر.
كما قال أحد الشباب الإيزيديين، فلقد كان تعاونه مع أصدقائه المسيحيين والإيزيديين في إعادة بناء المعبد في قريته هو قمة الدلالة على المقاومة والمفتاح لتجاوز الماضي وبناء مستقبل أفضل. وقد عبّر عن ذلك بقوله: "ما قام به الناس في بعشيقة هو البدء بإعادة بناء هذه الأضرحة والمزارات كرسالة إلى "داعش": نحن ما زلنا هنا وسنواصل المقاومة".
وأضاف: "لقد تم بناء الأضرحة والمزارات في بعشيقة من قبل سكان بعشيقة أنفسهم، وليس من قبل الحكومة أو أية منظمة غير حكومية". فأهل بعشيقة يجمعون المال والتبرعات ويشرعون ببناء الأضرحة الواحد تلو الآخر. وهم يتبعون العادة، إذ يقيمون احتفالاً يشارك فيه جميع أفراد الجماعة عند الانتهاء من ضريح جديد.
This text is based on a former version originally published under Creative Commons by 360info™
بنيامين إيساخان: أستاذ في السياسة الدولية ومدير مؤسس لشبكة بحوث من علماء السياسة وخبراء العلاقات الدولية (POLIS) في جامعة ديكن الأسترالية. إنّ البحث الذي تم عرضه في هذا المقال تم تمويله من قبل وزارة الدفاع الأسترالية ومجلس البحوث الأسترالي من خلال منحة الباحثين الناشئين.