أوروبا تخون مبدأ دولة القانون بمعضلتها مع الدواعش
فضيحة من العيار الثقيل، لكنها تكاد لا تلقى إدانة من أحد. حكومات عديدة من غرب أوروبا تحاول التنصل من مسؤوليتها تجاه مواطنيها الذين انضموا لصفوف تنظيم داعش في العراق وسوريا وتعرضوا هناك للأسر. أكراد سوريا بالخصوص عاجزون عن توفير حراسة للأعداد الهائلة من الدواعش الذين وقعوا في أسرهم ويأملون أن يَمْثُل الأوروبيون منهم على الأقل أمام محاكم في بلدانهم الأصلية. فخطر انضمام أولئك للقتال مع داعش مجددا يبقى واردا في ظل الوضع غير المستقر بسبب الحرب الأهلية.
لذلك حاول وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس، الذي تعد بلاده أهم حلفاء الأكراد السوريين، أثناء لقاء جمع وزراء دفاع التحالف الدولي ضد داعش في روما الثلاثاء (13 فبراير / شباط 2018)، إقناع شركائه الأوروبيين بضرورة استعادة مواطنيهم. دون جدوى: فلا البريطانيون ولا الفرنسيون أبدوا استعدادهم لذلك. أما موقف ألمانيا، التي مثلتها في الاجتماع وزيرة دفاعها أورزولا فون دير لاين، فلم يتسرب للإعلام. مزاعم بمحاكمات عادلة في سوريا والعراق من أصل 5 آلاف أوروبي انضموا لداعش في المنطقة، عاد إلى مواطنهم 1500 فقط، بحسب المنسق الأوروبي لمكافحة الإرهاب جيل دو كرشوف. ويُجهَل عدد أولئك الذين ما زالوا على قيد الحياة وعدد من وقع في الأسر. بيد أن الخبراء يرجحون أن يراوح إجمالي عدد الأسرى المتهمين بالانتماء لداعش في العراق والمناطق الكردية في سوريا 20 ألفا، من بينهم عدة مئات من الأوروبيين على الأقل. ومن أجل الحيلولة دون عودة مقاتلي داعش من مواطنيهم، لجأ البريطانيون لحيلة إسقاط الجنسية عنهم كلما وجدوا ما يسمح بذلك في قوانينهم. وبحسب صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية فقد تمكنوا بفضل ذلك من التخلص من 150 من مواطنيهم. هذه الإمكانية ليست متاحة أمام الفرنسيين لأسباب دستورية. وهو ما يعقد سياسة فرنسا في التعامل مع 100 داعشي فرنسي في سجون أكراد سوريا، 60 منهم ما زالوا قُصّرا، بحسب المعلومات التي نشرتها صحفية لو موند الفرنسية. غير أن ذلك لم يمنع وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان من إبداء موقف واضح، اعتبر فيه هؤلاء أعداء لبلادهم ارتكبوا أفعالا وحشية ويجب محاكمتهم في أماكن أسرهم. وما دامت المحاكمات عادلة، بحسب المسؤول الفرنسي، فلن ترى باريس داعيا للتدخل في الأمر.
انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان تصريحات وزير الخارجية الفرنسي لا تتعارض فحسب وبشكل صارخ مع إعلان الرئيس إيمانويل ماكرون عن معالجة هذه الحالات بشكل فردي، بل تناقض الحقائق على أرض الواقع أيضا. فالأكراد السوريون لا يملكون نظاما قضائيا معترفا به دوليا، فما بالك بمعايير قضائية كتلك المتبعة في أوروبا. هذا دون الحديث عما يُرَوَّج عن حالات التعذيب والإعدامات الخارجة عن إطار القانون هناك. وعلى هذا الأساس يُستَنتج أن ما يقصده الوزير بمحاكمات عادلة لا يتعدى في الحقيقة ألا يُحكم على مواطنيه بالإعدام. فسيكون محرجا السماح بذلك بالنسبة لحكومته التي تدافع دوليا عن إلغاء عقوبة الإعدام. أما الوضع في العراق فأسوأ من ذلك بكثير. منظمات حقوق الإنسان مثل هيومن رايتس ووتش تتحدث عن سوء معاملة ممنهج واغتصابات وعمليات قتل في حق محاربي داعش والمتعاطفين معهم على يد الجنود النظاميين وعناصر الميليشيات. بينما تُتهم قوات الأمن الكردية بقتل عدة مئات من الأسرى خارج إطار القانون. على صعيد آخر تعتبر هيومن رايتس ووتش أن النظام القضائي العراقي تشوبه عيوب كبيرة على كل المستويات، بداية بتوجيه التهم للمشتبه بهم، مرورا بظروف الاحتجاز غير الإنسانية ووصولا إلى المحاكمة ذاتها. في هذا السياق لفت الانتباه حكم الإعدام الذي نطقت به محكمة عراقية في يناير / كانون الثاني 2018 في حق ألمانية انضمت لداعش في الموصل. وقد تواجه على غرارها ثلاث ألمانيات أخريات، نفس الحكم، في حين صدر حكم بستة أعوام سجنا على واحدة منهن (وهي قاصر). جهود ألمانيا في هذا الإطار اقتصرت حتى الآن على الضغط من أجل تحويل عقوبة الإعدام إلى حكم بالمؤبد. قتلى لا أسرى
أن يؤرق موضوع هؤلاء الدواعش كلا من الأوروبيين والأمريكيين الآن ما هو إلا نتيجة خطأ جانبي ارتكبوه في الحرب. فقد كان يُفتَرض أن يُقتَل هؤلاء جميعا في المعارك لا أن يؤسروا. في مايو / أيار 2017 صرح ماتيس بأن هدف بلاده هو عدم السماح للمقاتلين الأجانب بالبقاء على قيد الحياة. المسؤولون الفرنسيون والبريطانيون أعطوا تصريحات مماثلة حول مواطنيهم. بل حتى الإعلام الفرنسي تحدث عن وحدات خاصة فرنسية تتحرك في مناطق القتال مكلفة بقتل مقاتلي داعش الفرنسيين قبل تمكنهم من العودة أو وقوعهم في الأسر. بغض النظر عن تخوف الأوروبيين من ارتفاع خطر الإرهاب في حال عودة المقاتلين الأوروبيين إلى بلدانهم، يكمن قلقهم الرئيسي في كون الأدلة المتوفرة ضدهم قد لا تكفي لإدانتهم في أوروبا. لذا يحاول المسؤولون الأوروبيون الالتفاف على مبدأ افتراض براءة المتهم، الذي يجب أن يشمل حتى الإرهابيين المحتملين. وبذلك تفرغ أوروبا مبدأ دولة القانون من محتواه وتخون قيمها التي يفترض أنها تدافع عنها في حربها ضد التطرف. بشير عمرونحقوق النشر: دويتشه فيله 2018 ar.Qantara.de