رواية "عام الجليد" - أحجار عثرة في طريق تحرر الإنسان
في روايته "عام الجليد" (دار المتوسط 2019)، يضعنا رائد وحش أمام قضية وجودية شائكة تتعلق بقدرة الخيال البشري على تخليص الإنسان من محنته الوجودية القائمة على كمّ الإكراهات الطبيعية "قدراته العضلية والعقلية"، والاجتماعية "علاقات القوة والهيمنة"، التي تقف حجر عثرة في طريق تحرره، كما الذهاب عميقًا في الكشف عن المناطق التي يكون فيها الخيال مدخلًا للمعرفة والتحرر، أو قيدًا وجوديًا ينتهي بالفرد للطرد من جنته المتخيلة بدلًا من الذهاب لبناء جنة أخرى بمواصفات جديدة.
في ذهابنا مع الخيال كقوة كاشفة عن كنه وطبقات الوجود كما تم نسجها في رواية "عام الجليد"، نجد أنفسنا أمام رحلة غرائبية لطفل يقوم بجسر العلاقة بين الطبيعي والبشري، ومن ثم بين البشري والإلهي، حيث نعثر على سبارتكوس مستلقيًا على سطح بيته وهو يطابق بين وجه جده المتخيل على الغيوم، وبين وجهه الحقيقي بلحيته البيضاء أمام عتبة البيت، الذي سرعان ما سيتم رفعه إلى مستوى الإلهي، بناء على تصور سحري للألوهة يقوم على رفع المسيطر والمهيمن في الثقافة البشرية إلى مستوى الإلهي، حيث يتعرف على الإلهي عبر مفاهيم الذكورة التي تجعل كلًّا من الحكمة والمعرفة والسمو أمرًا سماويًا خاصًا بها. الأمر الذي يعزّز الشعور لدينا بوحدة مغامرة سبارتكوس التخيلية ـ المعرفية حول الألوهة والوجود، مع مغامرة العقلي البشري في طفولته الأولى وهو يُقيم حقائق السماء على دعائم وواقع الأرض.
إكراهات تقف في طريق البشر
بعيدًا عن محاولة تجسير الفجوة بين البشري والإلهي، فإن جهد سبارتكوس الحقيقي كان منصبًا على تجسير الفجوة بين المتخيل والواقعي، أو بلغة أخرى كيفية التغلب على الإكراهات والقيود الطبيعية التي تقف في طريق البشر وهم يسعون لتحقيق ما يصبون إليه أو يرغبون به.
ففي مواجهته لثقل حقائق الحياة، كحقيقة عدم قدرة الإنسان على الطيران مع قدرة الطيور التلقائية على فعل ذلك، نراه يستعين بأحلام اليقظة عبر مبادلة جناحي الحمامة، المسمّاة كريمة، القادرتين على الطيران بيديه العاجزتين عن التحليق، وما كل ذلك سوى التحايل على هذا الجدار السميك من العجز الذي يمنعه من إشباع فضوله في الكشف عن البعيد والغامض والنائي القابع في عمق الوجود الكوني.
إيمان سبارتكوس بأحلام اليقظة وتفضيله إياها على العقل ينبع من رغبتة العميقة في تحطيم ذلك العقل، كونه يضع حدودًا وفواصلَ بين الكائنات على الرغم من الطبيعة العضوية المشتركة لها، ويسد عليه الطريق للعيش في عالم من السيولة، يتم فيه التحول بين الكائنات والعناصر بيسر وسهولة كتحول الإنسان إلى سمكة والأفعى إلى قاضٍ.
وهو أمر يصير فيه حل لغز "لماذا لا يستطيع الناس حمل الماء في جيوبهم؟" ممكنًا عبر تحويل الماء إلى قطع من الجليد العالقة في وضعيتها الجديدة، كما إمكانية حل لغز "هل نحن الآن في اليوم أم الغد؟" الذي يفتح الطريق أمام زوال الفواصل بين أنات الزمن المعبر عنها بمفاهيم اليوم والبارحة والغد، مُبشّرًا بزوال الحدود الفاصلة بين الموتى والأحياء.
في المزرعة، نتعرف على سبارتكوس المراهق كواحد من أبطال زمننا التراجيديين الذين قرّروا الانسحاب من المجتمع البشري لصالح نوع من السلم الروحي المؤسس على التصالح مع الطبيعة الخيّرة، كنوع من الاحتجاج المكبوت على الكم الكبير من الأكاذيب والخداع والعنف التي يحفل بها المجتمع كما يعكسه سلوك عائلة صديقه وليم والس اللأخلاقي، مضافًا إليه سلوك التشفي والاحتقار الموجه من الكل الاجتماعي نحو بابا سنفور، مدير المدرسة، ناهيك عن العبثية القدرية التي وضعت طفلًا صغيرًا مثله أمام مهمة مواجهة تحديات الحياة القاسية، كما مهمة القيام بتربية نفسه بنفسه بعد خسارته لأمه في معركة السرطان، وخسارته لأبيه في معركة استعادته العبثية لها.
في انسحابه من المجتمع القاسي، اختار سبارتكوس أن يخضع لإكراهات الواقع بدلًا من التصدي لها، مستندًا في وهمه بالخلاص من منحته الوجودية تلك إلى نوع من من الإيمان العقائدي، الذي يقوم برد كل عناصر الوجود إلى نوع من القوة الروحية أو السارية، التي تخترق جميع الموجودات، على نحوٍ يسمح بالمقابلة بين الكلب والإنسان وبين الحجر والحمامة ما دامت تسري فيهم القوى الروحية ذاتها، دون أي اعتبار للفروق الوجودية بين العضوي واللاعضوي وبين الحيواني والبشري، ودون أي اعتبار للوجود البشري ومشكلاته في علاقته مع مسألة الحرية الذي يتوقف حضورها على إغناء الوجود البشري أو تخفيضه.
تحديات الحياة القاسية
أثارت فكرة الحرية التي نادى بها الناس للتحرر من سيطرة المستبدين، على غرار حكم آل الأسد، دهشة سبارتاكوس وتبرمه من حرية لا تعني له شيئًا، فما حاجته للحرية وهو يعيشها على شكل تصالح مع الطبيعة وقوانينها؟ ألم يكن بكامل حريته عندما قرر التخلي عن ملابسه والاستعاضة عنها بجلد من طين؟ وبالتخلي عن الطعام المطبوخ والاعتماد على ما تجود به ثمار المزرعة؟ ناهيك عن حريته المطلقة بالخلق، ألم يخلق "زمهرير" من بقايا البخار المتجمع على نافذة غرفة محرسه في المزرعة، إلى الدرجة التي صار بمقدوره أن يكون راويًا لجميع حيواته السابقة؟ فهل هناك حرية تعادل تلك الحرية لخلق الوجود؟
يتقاطع موقف سبارتكوس من الحرية ولامبالاته تجاهها مع موقف أصحاب العقائد الأخرى من رجال الدين والقوميين المتخشبين واليساريين الدوغمائيين، الذين أثبتوا أن ولاءهم لتصوراتهم العقائدية عن الوجود يتفوق على ولائهم لقيم حياة الإنسان المعاصرة في الحرية والكرامة الإنسانية، فالبوطي مثلًا، كاهن القصر الجمهوري، استمات في حصر قيمة الوجود للإنسان المعاصر في الإيمان وحده، مضحيًا بالوجود المتعين والواقعي للكائن البشري لصالح وجوده الأبدي في الحياة الآخرة، حاله في ذلك حال القوميين واليساريين الذي خاضوا حربًا ضروسًا لتأكيد أولية وحدة الجماعة المشروخة على التحرّر من العنف الغرائزي لاستبداد حكامهم الذين يفتقدون لأية حكمة ومعقولية بشرية.
يبدو سبارتكوس في منفاه الكابوسي، بعد طرده من ملجأه الطبيعي في المزرعة، مثالًا على مصير الكائن البشري، العاجز على فهم النقلة النوعية التي تضيفها الحرية للوجود البشري، فبدلًا من اللحاق بها لصنع معنى جديد للحياة الهانئة السعيدة القائمة على الإنسانوية التي في داخله، يدير لها الظهر لصالح خلاص آخروي مبهم، يظل يدفعه لمنفى كابوسي لا خلاص منه إلا بالموت.
في رواية "عالم الجليد"، نتعرف على الحدود الهشة التي تحيل الأخيلة إلى وقائع كما في حادثة خلق سبارتكوس لزمهريز من العدم، وتحيل الوقائع إلى مجرد أخيلة كما في حالة التماهي التي ظل سبارتكوس يجريها مع الطبيعة كما لو كانت أمًّا كونية له. المشترك في كل ذلك لغة رائع وحش السحرية التي تحيل النسيج الحكائي إلى نوع من التأملات العميقة التي يصعب الفكاك منها.
تنتمي رواية "عالم الجليد" إلى ذلك النوع الروائي الرشيق والمحبوك بأناة، والذي يصعِّب القفز عن قراءة بعض فقراته دون أن يؤدي ذلك لخسارة جزء من المعنى والمتعة معًا، حتى في الجزء الخاص بالحالة الكابوسية التي ينتهي إليها سبارتكوس في رحلته إلى المنفى، ذلك أننا لا نقرأ عن الكابوس بل نعيشه عبر ثقل الألم والأخيلة السوداء المتولدة عنه.
مصلح مصلح
حقوق النشر: مصلح مصلح / موقع قنطرة 2019