''إجهاض المبادرة الأممية كان سيُشكِّل انتحاراً سياسياً للقيادة الفلسطينية''
وقَفَ الرئيس الفلسطيني محمود عباس يوم الخميس (29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012) أمام الجمعية العامة للأمم المتَّحدة وطالب بمنح فلسطين وضع دولة بصفة مراقب غير عضو في المنظمة الدولية، وبالفعل صوَّتت الغالبية العظمى في الأمم المتَّحدة لصالح نَيْل فلسطين لهذه الصفة.
صحيح أنه لم يتم ضم فلسطين كعضو دائم في هذه المنظمة الدولية، لأنَّ ذلك يقتضي تصويت جميع أعضاء مجلس الأمن بالإجماع؛ ولكن على أية حال فإنَّ منح فلسطين صفة دولة "مراقب غير عضو" في الأمم المتَّحدة يجعلها مثل دولة الفاتيكان أو مثلما كانت سويسرا في السابق. ومن خلال ذلك يأمل الفلسطينيون الآن في التمكّن من الترشّح لعضوية المحكمة الجنائية الدولية وغيرها من المؤسَّسات الدولية.
لقد جاء التصويت على منح فلسطين هذه الصفة في وقت صعب، بعد أسبوع ونيِّف من انتهاء الحرب الأخيرة على غزة. وكانت إسرائيل والولايات المتَّحدة الأمريكية حاولتا إقناع محمود عباس للمرة الثانية بتأجيل طلب الحصول على هذا الوضع في الأمم المتَّحدة، وبذلت كلّ من إسرائيل والولايات المتَّحدة الأمريكية جهودهما حتى اللحظة الأخيرة لمنع ذلك، على الأقل من أجل ضمانهما عدم مثول إسرائيل في المستقبل أمام المحكمة الجنائية الدولية.
تهديدات إسرائيلية وأمريكية
من جانبها كانت إسرائيل أعلنت عن تحضيرها تدابير مضادة إذا تقدَّم الفلسطينيون بطلب الحصول على صفة المراقب غير العضو، ومن بين هذه التدابير احتفاظها بعائدات الضرائب المستحقة للحكومة الفلسطينية وسحبها تصاريح العمل من الفلسطينيين في داخل إسرائيل. في حين لم تهدِّد الولايات المتَّحدة الأمريكية فقط بوقفها جميع المساعدات المالية للفلسطينيين، بل هدَّدت كذلك بإيقاف مساهمتها في الأمم المتَّحدة أيضًا.
ومن غير المعروف حتى ماذا سيحدث إذا تحقق كل ذلك على أرض الواقع. ولكن من الواضح حاليًا مدى الضعف المتربّص بالسلطة الوطنية الفلسطينية ومحمود عباس، فانهيار الإدارة في الضفة الغربية أمر غير مستبعد إذا تم إيقاف المساعدات عن السلطة.
الولايات المتَّحدة الأمريكية برَّرت تهديداتها بالإشارة إلى أنَّ الفلسطينيين يعملون "من جانب واحد". ولكنها تجاهلت تجميد المفاوضات عدة أشهر، انتظر فيها محمود عباس من دون جدوى تجاوب إسرائيل في مسألة وقف بناء المستوطنات. وبدلاً عن ذلك اضطر عباس إلى سماع بعض الإهانات، مثل الإهانة التي وجَّهها له وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان من خلال وصفه الرئيس الفلسطيني - تمامًا مثلما وصف أرييل شارون ياسر عرفات في السابق - بأنَّه "العقبة الرئيسية التي تقف في طريق السلام".
ضغوطات على الرئيس الفلسطيني
قبل نجاح المبادرة، تعرَّض محمود عباس لضغوطات فلسطينية داخلية، وذلك بسبب موقفه التصالحي تجاه إسرائيل، لأنه لم يقدِّم للفلسطينيين أي نجاح يُذكَر، رغم أنَّه كان يبدي دائمًا استعداده للتفاوض، حتى أنَّه قد تخلى مؤخرًا في مقابلة تلفزيونية مع قناة إسرائيلية عن "حقِّ العودة" الذي يعتبر مقدَّسًا بالنسبة للكثير من الفلسطينيين. وبحسب استطلاعات الرأي فإنَّ معظم الفلسطينيين كانوا قد فقدوا الأمل في إقامة دولة مستقلة في الأعوام المقبلة.
وعلاوة على ذلك ازداد تهميش محمود عباس خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة التي احتفلت فيها حركة حماس المسلحة "بمقاومتها" لإسرائيل. زِد على ذلك أنَّ عباس رفض أن يقوم بزيارة تضامنية إلى غزة، على الرغم من الدعوات العديدة التي طالبته بذلك، مثل الدعوة التي وجَّهها له القيادي في حركة فتح المعتقل في إسرائيل مروان البرغوثي.
وفي حين كان الرئيس المصري محمد مرسي يتصدَّر المفاوضات مع حماس وإسرائيل، إلى جانب وزراء خارجية جميع الدول العربية، جاءت زيارة هيلاري كلينتون وبان كي مون لمحمود عباس، وكأنها زيارة بدافع الشفقة على هذا الرئيس الفلسطيني الذي كان يبدو وكأنه يشعر بالوحدة.
لكن المبادرة الفلسطينية في الأمم المتَّحدة، التي احتفل بها الفلسطينيون في مظاهرات حاشدة، كانت مهدَّدة بالفشل لولا أن محمود عباس بقي مصرًا على عدم التراجع هذه المرة، خصوصاً وأنه كثيراً ما استجاب للضغوطات الأمريكية في السابق. ولا شك أن تمسّكه الواضح بهذه المبادرة يعود إلى أن عدم الالتزام بها كان سيمثِّل انتحارًا سياسيًا للفلسطينيين.
استعداد لمتابعة محادثات السلام
ويبقى التساؤل: لماذ رفضت الولايات المتَّحدة الأمريكية بالذات وإسرائيل طلب الفلسطينيين الحصول على صفة المراقب غير العضو في الأمم المتَّحدة وبكل هذه الشدة، كما لو أنَّه اقتراح لإزالة إسرائيل عن الوجود؟ وذلك على الرغم من أنَّ صيغة قرار حصول فلسطين على هذه العضوية كانت بنَّاءة ومعتدلة للغاية.
ومع ذلك أبدى محمود عباس وغيره من القادة الفلسطينيين بعد يوم من التصويت على هذا القرار أنَّهم على استعداد لمتابعة محادثات السلام - على الرغم من إعلان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن نيته بناء وحدات استيطانية جديدة.
من المنطقي الترحيب بهذه بالمبادرة الفلسطينية باعتبارها خطوة إيجابية من الحكومة الفلسطينية، بدلاً من تشويه صورتها ومحاربتها. وذلك لأنَّها تشكِّل في آخر المطاف محاولة للعمل بشكل سياسي وسلمي على الرغم من تأزّم الوضع.
وقبل نجاح المبادرة، كان الخطر يتهدِّد محمود عباس بأنه لن يحقِّق من هذه المبادرة الدبلوماسية إنجازاً في الأمم المتَّحدة أكثر مما حقَّقته حركة حماس بهجماتها الصاروخية على المدنيين. إذ إنَّ حركة حماس تمكَّنت من إملاء شروط الهدنة على إسرائيل، واستطاعت كذلك الظهور بصورة المنتصر في الصراع مع الدولة العبرية.
لا يمكننا على الإطلاق أن نتوقع من الفلسطينيين أن يعقدوا آمالهم إلى الأبد على إقامة دولة مستقلة، في حين تخلُق الحكومة الإسرائيلية اليمينية الواقع كما تريد، من خلال توسيع الاستيطان، بل إن لجنة ليفي التي عيَّنها بنيامين نتنياهو هذا العام 2012 أفادت بأنَّه لا يمكن وصف وجود إسرائيل في الضفة الغربية على أنَّه احتلال وأنَّه لا يمكن اعتبار المستوطنات الموجودة هناك مخالفة للقانون الدولي.
"نعم" لفلسطين
من جانبه ينتقد الاتِّحاد الأوروبي بناء المستوطنات الإسرائيلية ويساهم بالمليارات في عملية بناء دولة فلسطين. كما أنَّ المؤسَّسات الدولية مثل البنك الدولي أكدت منذ فترة طويلة أنَّ فلسطين استوفت المعايير الأساسية لإقامة الدولة. ولذلك كان يجب على ألمانيا، كما فعلت معظم دول الاتِّحاد الأوروبي، اتِّخاذ قرار حاسم والتصويت "بنعم" لصالح المبادرة الفلسطينية.
لقد كان هناك في الواقع إجماع على دعم موقف محمود عباس. فقد أعلنت فرنسا حتى قبل التصويت عن دعمها المبادرة الفلسطينية. ولكن مع ذلك حاولت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل ووزير الخارجية الألماني غيدو فيسترفيله إقناع محمود عباس حتى اللحظة الأخيرة بتأجيل التصويت على المبادرة. ولو كان حدث ذلك لكان له عواقب كارثية. لقد كان امتناع ألمانيا عن التصويت في الجمعية العامة خطوة سلبية. ولو لم يصوت المجتمع الدولي لصالح المبادرة الفلسطينية لكان ذلك نذير شؤم بالنسبة لمستقبل محمود عباس السياسي ولإقامة دولة فلسطين وكذلك لتحقيق السلام في الشرق الأوسط.
رينيه فيلدأنغل
ترجمة: رائد الباش
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2012
الدكتور رينيه فيلدأَنغِل مؤرِّخ ألماني متخصص في شؤون الشرق الأوسط ومدير مكتب مؤسَّسة هاينريش بول في رام الله.