الحرية عمود فقري للإبداع والأعمال الفنية والموسيقية
يرتبط الإبداع الفني عامة والموسيقي خاصة بالميل للحرية وبنزعة التصرف الفردي. يلاحظ ذلك على سبيل المثال بتعلق بيتهوفين المتعطش للحرية والإصلاح بالثورة الفرنسية ثم بابتعاده عنها نظرا لخيبة أمله إزاء أطماع نابليون الامبراطورية.
نلاحظ ذلك أيضا في أعمال الفنانين في ظل الأنظمة القمعية الرافضة لأفكار التحرر الفردي. لكن الحال يسري أيضا على شتى الأمور الحياتية كتطلع الإنسان لنيل الحرية وصيانة كرامته الشخصية على نحو ما شهدته أحداث الربيع العربي.
صالة الفيلهارمونيا "حب الموسيقى" في مدينة كولونيا الواقعة على ضفاف نهر الراين تتسع لأكثر من ألفي شخص وتتخذ شكل المسارح الرومانية المعروفة بمسارح المدرجات. فهي تتألف من مدرجات تمتد من الأسفل حيث تتواجد الأوركسترا بمختلف توزيعها وعددأفرادها وتصل إلى أعلى قمة الصالة.
من مميزات تلك "المدرجات" -إن صح التعبير- أن المتفرج يحظى برؤية على أحسن وجه بغض النظر عن مكان جلوسه ومدى ابتعاده عن محور الصالة، أي: مكان تواجد الفنانين من عازفي موسيقى أو مغنين سواء كانوا كلاسيكيي النهج أو مختصين بأنواع الفن الموسيقي الأخرى، مثل: الروك أو الفولك أو الهوب هوب.
أصبحت دُورُ الموسيقى الكبرى في كافة أنحاء ألمانيا وأوروبا على وجه عام أقل تمسكا بالتراث الكلاسيكي البحت، لتشمل برامجها أنماط الموسيقى الحديثة، بما فيها ما يعرف بموسيقى عصر ما بعد الحداثة أو الموسيقى الإليكترونية.
عُرِضَت في إحدى الحفلات الموسيقية هناك أعمال لموسيقيين مختلفي المنهج، وتحديدا ريشارد فاغنر Wagner وديمتري شوستاكوفيتش Schostakowitsch وفولفغانغ ريم Rihm.
مقطوعة فاغنر جاءت قصيرة وتضمنت ما يعرف بمسيرة الحزن، إشارةً إلى موت زيغفريد وفقا لملحمة "نهاية الكون" التي هي من أشهر ملاحم -بل من كبرى أعمال- فاغنر، الذي اعتنى عناية فائقة بترجمة الميثولوجيا الجرمانية إلى ملاحم موسيقية متعددة، أشهرها "فالكوره" و"تانهويزر" و"حلقة نيبلونغ" (الرباعي الأوبرالي).
هذا وتشكل أعمال فاغنر قفزة أسطورية في نمط الموسيقى الرومانسية، التي ابتدعها بيتهوفن وامتدت إلى برامز وشوبيرت وشوبان، لتبلغ قمتها في ذلك المزيج السحري بين الرومانسة والعظمة الميثولوجية لدى فاغنر.
{رسالة فنية وسياسية: نظرا لأنه كان جريئا في التعامل مع المعطيالت المجتمعية والسياسية فقد خاطر الموسيقار الروسي دميتري شوستاكوفيتش (1906 - 1975) في سيمفونياته -بما فيها الخامسة، أي: أشهرها- بالتلميح للنواقص السياسية والأيديولوجية التي راقبها عن كثب في الاتحاد السوفييتي، ووجه لها نقدا مستترا لم يكن حادا مما جعله في أغلب الأحيان غير معرض لإجراءات حازمة من قبل الدولة كالمنع من متابعة ممارسة وظيفته الفنية.}
قبل أن نسترسل في سردنا لهذه الحفلة الموسيقية يجدر بنا الإشارة إلى المايسترو فاليري غيرغييف Gergiev الذي يترأس الفرقة الموسيقية الفيلهارمونية لمدينة ميونيخ البافارية. وهو من أشهر فناني الموسيقى المعاصرين في العالم. ولد هذا الفنان في موسكو لكنه ترعرع موسيقياً في المدينة الروسية الأشهر في عالم الموسيقى، المسماة اليوم سانت بطرسبورغ وفي عهد الاتحاد السوفييتي لينينغراد.
يركز غيرغييف في أعماله على الموسيقى الروسية لعهد ما بعد تشايكوفسكي، مثل شوستاكوفيتش وبروكوفييف. قبل أن يتقلد منصبه في ميونيخ كان مايسترو أوركسترا مدينة روتردام الهولندية. ولدى تعيينه في ميونيخ قامت ضجة كبيرة في أوساط الخبراء والمتفرجين اعتراضا على تعيينه، لا بطبيعة الحال لكونه روسياً بل لأنه من الأصدقاء الحميمين للرئيس الروسي بوتين والمؤيدين لخطه السياسي. ولم يذعن المسؤولون لتلك الاعتراضات بحجة أن التعيين انطلق من الكفاءة الفنية البحتة بينما يحق لكل من شاء أن يتبنى الأفكار السياسية وفقا لقناعاته الشخصية.
رسالة فنية سياسية متأثرة بأساطير الشرق العربي الفارسي
شكلت السيمفونية الخامسة لشوستاكوفيتش محور الحفل الموسيقي في الفيلهارمونيا لمدينة كولونيا، ولوحظ بأنها تأثرت بعض الشيء بأعمال ريمسكي كورساكوف مثل ملحمة شهرزاد النابعة من أساطير ألف ليلة وليلة التي اشتهر بها العرب والفرس وغيرهم من شعوب الشرق.
لا شك أن السيمفونية الخامسة هي أشهر أعمال هذا الموسيقار، وقد نجح في صياغتها بالربط بين تطلعه إلى الحداثة الفنية، والتقيد بالمفاهيم الجمالية الجامدة التي فرضها النظام الحاكم في عهد الاتحاد السوفييتي السابق. ومع ذلك فإنه لم ينجُ دوماً من القمع والاضطهاد من قبل ستالين الذي اعترض خاصة على نمط السيمفونية، الذي اعتبره أكثر تمردا وعلنية من الأنماط الأخرى كمقطوعات السونات أو عزف البيانو البحت.
وقد ألف 15 سيمفونية، وهو رقم قياسي لا يجد له مثيلا في أعمال موسيقيين آخرين سواء لدى بيتهوفين أو هايدن أو موتزارت أو منديلسون بارتولدي. لم يكلل ربطه بين الإبداع الفردي التمردي وبين مراعاة التعليمات العليا من قبل أجهزة الدولة آنذاك بالنجاح دوماً، مما جعل طموحه الفني بل حياته الشخصية عرضة دوما للقهر والمعاناة.
من جوانب اعتراض المسؤولين على أعماله الموسيقية -ولا سيما السيمفونيات- كونها اتسمت بالغموض، بحيث صعب على العامة فهم واستخلاص معانيها ورموزها على عكس حال سيمفونيات بيتهوفين أو تشايكوفسكي التى اتسمت في آن واحد بالروعة وبسهولة الإدراك وبالابتعاد عن الأنماط المجردة، التي لاحت للبعض كالطلاسم غير القابلة للفهم. لكن شوستاكوفيتش شاء من وراء هذا الغموض المجرد عرض رسالة فنية وسياسية.
ونظرا لأنه كان جريئا في التعامل مع المعطيات المجتمعية والسياسية فقد خاطر في سيمفونياته -بما فيها الخامسة، أي: أشهرها- بالتلميح للنواقص السياسية والأيديولوجية التي راقبها عن كثب في الاتحاد السوفييتي، ووجه لها نقدا مستترا لم يكن حادا مما جعله في أغلب الأحيان غير معرض لإجراءات حازمة من قبل الدولة كالمنع من متابعة ممارسة وظيفته الفنية.
نال شوستاكوفيتش بفضل سيمفونيته الخامسة والزخم الفني الذي احتوت عليه منصب أستاذ جامعة في معهد الموسيقى الشهير في مدينة سانت بطرسبورغ.
عدَمِيّة شعار: الفن من أجل الفن - بلا رسالة تصبح الفنون قوالب فارغة
أما الفنان فولفغانغ ريم المولود عام 1952 في مدينة كالسروه -الواقعة بقرب الغابة السوداء- فهو معاصر يدين بحتمية الحداثة وفقا للعصر، لكنه خلاف معظم زملإئه الآخرين يود المحافظة على التراث الكلاسيكي التقليدي، ويرفض نهج التمرد المطلق وفقا لشعار "الفن من أجل الفن" معتبراً إياهُ عدَمِيّاً وغير بناء. أما المساس بحرية الإبداع الفردي فذلك من قبيل المحرمات بالنسبة له.
الحرية كقاعدة أساسية للفن وعمود فقري للأعمال الموسيقية، نجدها لدى المعاصرين شوستاكوفيتش وريم والكلاسيكيين بيتهوفين وبرامز وتشايكوفسكي. وقد كتب ريم في مقال نشر في ثمانينيات القرن الماضي بأن الفن تعبير حي في حد ذاته عن الأولوية المطلقة التي تحتلها الحرية فبدونها يتحول العمل الفني إلى قوالب إنتاج فارغة الشكل والمحتوى.
القطعة الموسيقية التي عزفت له في كولونيا تسمى ترانزيزتوس 3 (انتهى العمل فيها عام 2018)، وهي تبقى غامضة المحتوى ما عدا كونها تنطلق من مفهوم الحرية المبنية على أسس بناءة. أما بالنسبة لتفاصيل النمط والمحتوى فإن الموسيقار يمتنع متعمدا عن كشف النقاب أكثر من ذلك. والغريب أنه يحاضر ويكتب مُفصِّلاً حول أعمال غيره من الفنانين المعاصرين، نقدا ومدحا وتحليلا عميقا، أما بشأن أعماله فإنه يترك الكلمة الأخيرة للناقدين وللمستمعين، ممن يرى بأن حداستهم تؤدي في آخر المطاف إلى تفسير فردي وموضوعي في آن واحد لا يعتمد على رؤية صاحب الإنتاج نفسه.
مفهوم حرية الفنان كقاعدة أساسية للعمل الموسيقي نجده أيضا في حفل موسيقي آخر عُرِضَ في صالة الفيلهارمونيا في كولونيا، حيث عزف الروسي الشهير غريغوري سوكولوف Sokolov عدة مقطوعات بيانو وسونات لكل من بيتهوفين وبرامز، من بينها:عدة قطع لبيتهوفين تسمى باغتيل أي عروض سطحية عابرة.
{رغم الإخفاقات، يبقى الربيع العربي قاعدة قوية لتصحيح الانحرافات القائمة في المنطقة العربية.}
وهي -في الواقع- لم تكن سطحية بالمفهوم الحرفي، وإنما جاءت تعبيرا عن الرغبة في الانسياق لنزوات الفنان ونزعاته كما لو لم يقم بالتخطيط لها مسبقا، وإنما لحنها ونقلها إلى حيز الوجود على نحو اعتباطي وارتجالي مبني على حرية الإبداع والتنفيذ.
ولد سوكولوف في سانت بطرسبورغ أشهر مدن روسيا في العراقة المعمارية والموسيقية، وتلقى تعليم عزف البيانو ابتداء من سن الخامسة من العمر، وبدأ يعزف على وجه مهني متخصص أمام الجمهور ابتداء من سن الثانية عشر. وقد تضمنت أعماله -وما زالت تتضمن- عهودا موسيقية مختلفة ابتداء من عصر الباروك (باخ) مرورا بالعهد الكلاسيكي (بيتهوفين) وانتهاء بعهدي الرومانسية (شوبان) والحداثة (رافيل، سسترافنسكي، رحمانينوف، بروكوفييف).
لا ينظر إلى مفهوم الحرية على أنه يختص بنوابغ الفن ونخب الفكر والمعرفة وحدهم، بل هو أشمل كثيرا من ذلك حيث أنه يغطي أيضا ملفات التمرد والثورة أيضا كالحال لدى الربيع العربي، وغيره من اشكال الانتفاضات الشعبية ضد أنظمة القمع والطغيان المبنية على أسس فاسدة هشة.
ورغم أن الربيع العربي على سبيل المثال قد أخفق راهنا في تحقيق الأهداف المنشودة منه كالحرية وصيانة حقوق الإنسان وتكريس قواعد الديمقراطية الليبرالية لا الجوفاء، مما أدى إلى تماسك التيارات الرجعية والاستبدادية في منطقة الشرق الأوسط مجددا، إلا أنه يبقى قاعدة قوية لتصحيح الانحرافات القائمة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا في المستقبل.
عارف حجاج
حقوق النشر: موقع قنطرة 2019